رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أننين مختلف

مجدي حشمت سعيد

أرهفتْ السمع طويلًا وهي جالسة على حافة السرير في بيت شقيقتها، تركَّزت كل حواسها القلقة في أذنيها انتظارًا وترقُّبًا لأية حركة تدل على استيقاظ أهل البيت، كان جل همها أن تشرق الشمس حتى تمضي مسرعة نحو لقائها السنوي المُرتقب تلبية للهفة قلب أم لا يعرف إلا الحب والمغفرة والسماح، كم قاسى ذلك المذبوح من طعنات الزمن الغادرة وتجارب الأيام الشرسة التي مزَّقته بأنياب لا ترحم. لم يُكَحِّل النوم جفنيها طوال ليلتها الليلاء هذه بالرغم من إرهاقها البدني وتعبها النفسي اللذين كابدتهما في رحلة سفر المعاناة الطويل بالقطار من مدينة الإسكندرية إلى موطنها الأصلي في منتصف الصعيد، وصلت إلى مدينتها الكبيرة حيث وُلدت ونشأت وتزوجت وأنجبت في حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لتنزل ضيفة خفيفة مدة يوم واحد فقط عند شقيقتها الوحيدة التي تحسُّ بها وبمأساتها الكبري وبكربها الذي لا يزول.

صارعها الأرق الليل كله وصارعته، قهرها كعادته، لم يرحمها أيضًا شريط ذكرياتها الحزين المؤلم شديد القتامة المتآمر معه ضدها، أخذ يجرى أمامها الليل كله عارضًا كل ما مرَّ بها وبأسرتها من أحداث جسام غيّرت مجرى حياتهم بأكملها، أعاد نكأ جراح تأبى أن تندمل لروح مذبوحة ونفس ممزقة وقلب عليل، استجدت الدمع من عينيها الضامرتين الآخذتين في الإفول فأبتا بإصرار، جفَّت منابعهما بسبب فرط فيض غزيز منهما دام خمسة عشر عامًا.

سمعت بعد طول انتظار طرقات خافتة على باب الحجرة، إنها أختها الحنونة التي تظن أنها توقظها الآن من نوم عميق، هبَّت واقفة متلهفة رغم أمراضها العديدة و ثقل جسدها لتفاجئ شقيقتها بفتح الباب سريعًا وكأنها كانت واقفة خلفه، راع الشقيقة وجه أختها الأصفر وكأنه ذاهب نحو الموت كما لفت نظرها إحمرار عينيها الشديد بما ينمُّ عن الأرق والمعاناة الليل كله، ألقت عليها تحية الصباح فردَّت الضيفة بكلمات متعجِّلة مبهمة، مضت سريعًا إلى الحمام استعدادًا للخروج، تعرف صاحبة البيت أن اليوم هو الثامن من شهر أغسطس ذكرى وفاة زوج شقيقتها والذي تصرُّ أختها على أن تحضر فيه وتتحمل من أجله مشقة السفر الطويل المرهق والخطير على صحتها ولا تتأخر عنه أبدًا مهما كانت الأسباب التي تمنع حضورها، دعتها إلى تناول طعام الإفطار معهم فاعتذرت لضيق الوقت وكثرة المهام المطلوب إنجازها، موقنة هي أن أختها تعرف وجهتها ولكنها تدعي جهلها بكل شيء مراعاة لظروفها المؤلمة وحفاظًا على رغبتها في السِّرية حتى لا تجرح مشاعرها التي لم يعد فيها بقعة لا تئن من فرط جراح مزمنة لا تكف عن ضخ صديد لا يقف بدوره عن الغليان.

نزلت السُّلَّم بتؤدة وهي تحكم إخفاء وجهها حتى لا يعرفها أحد من الجيران أو أهل المدينة، أخذت تجر قدميها المتورمتين مرضًا الثقيلتين همًا خارجة من باب العمارة، ألقت جسدها البدين المكتظ بالمعاناة في أول سيارة أجرة وجدتها، اتَّجهت السيارة بها إلى مكان موعدها المرتقب في مدافن المدينة القريبة من حيّهم الشعبي القديم حيث قبر زوجها، لم تجرؤ على النظر خارجًا عبر نافذة السيارة تحاشيًا لطعنات حنين وشوق وحسرة قد تغتال قلبها المريض، نظرت إلى ساعتها القلقة مثلها فأيقنت أن الوقت مازال مبكرًا بالنسبة للقاء المقابر، قرَّرت النزول من السيارة عند مشرف الميدان، وقفت تلتقط أنفاسها بعد أن بذلت الكثير من الجهد في نقل جسمها من السيارة إلى خارجها، نظرت حولها تستطلع المكان وكأنها تراه للمرَّة الأولى، آثرت الاستراحة قليلًا في حديقة الميدان الصغيرة استرجاعًا لذكريات غالية ، بدأت السير نحو حديقة الميدان ببطء ومعاناة بسب الزحام الشديد.

وصلت أخيرًا وبشق الأنفس إلى الحديقة الدائرية لميدان حيّهم، ألقت جسمها على أحد المقاعد الخرسانية، راحت تستمتع بالعبق الفريد للمكان والذي بدأ يغزو أنفها ورئتيها وشيئًا خفيًا في روحها ونفسها، كم اشتاقت إليه، أخذت تلتقط أنفاسها بعمق حتى تستدعي الماضي فتنسى مأساتها وتزيد من استمتاعها، زكم أنفها رائحة بيتهم القديم القريب من الميدان حيث أحداث عمر كامل انصرم بحلوه ومره في هذه البقعة الحبيبة من الأرض، زاد هذا من اضطرابها وتوترها وارتعاش أطرافها مشاطرة لارتجاف قلبها، حنَّت إلى جلستها القديمة على أرض الحديقة فرمت جسدها عليها رميًا، افترشت حشائش النجيل اللينة الطرية فأحستها أرحم وأحن كثيرًا عليها من الزمن والأيام والبشر، كاد قلبها المريض أن يقفز من بين ضلوعها من فرط تسارع وقوة وجيبه الفاعل و المتفاعل مع تأثرها الشديد حنينًا وشجنًا، كم كرهتْ ذلك القلب الذي أشقاها العمر كله، صرخت فيه بعباراتها التي كثيرًا ما تقذفه بها:

«يقطعك يا قلبي...لسَّه بتحن وبتحب وبتغفر يا ملكوم...عايزة أعضك...أقطِّعك بسناني حِتَت علشان أرتاح منك وترتاح مني...إمتى تتلكم وتخرس ونفض الشركة اللي بينا؟...قبر يِلمَّك إنت وصاحبتك؟».

ثابت إلى رشدها فاستغفرت ربَّها، أمسكت حقيبة يدها في محاولة منها لتهدئة هذا الثائر الذي يكاد أن يقف معلنًا اعتزاله العمل ونبذه للحياة بأكملها كأمنيتها، أخرجت منها كيسًا من بطاطس «الشيبسي» يحوي بقايا رحلة سفرها الطويل بالأمس لتسدَّ منها رمقها حتى تتمكن من تناول أدوية الصباح المقرَّرة عليها جبرًا، أكلت القليل من قطع البطاطس الجافة كجوفها ثم أخرجت أقراص دوائها وزجاجة مياهها، تناولت الدواء شاكرة الله على كل حال ومن أجل كل حال وفي كل حال، تركت العنان لقلبها حتى يسبق عينيها متطلعًا ومتلهفًا نحو المقابر القريبة حيث اللقاء.

...............

كان قد مرّ خمسة عشر عامًا حزينًا منذ ذلك الحدث المشئوم الذي هدم بيتها وقضى على استقرار أسرتها السعيدة حين فعلت ابنتها الصغرى تلك الفعلة الشنعاء التي أطاحت بالفرحة وبكل ما هو جميل في حياة أسرة موظف الحكومة المتوسط الحال والمكونة من ستة أفراد متمثلين فيه وزوجته ست البيت وولدين مراهقين وابنتين فاتنتين أكبر منهما، تزوجت الابنة الكبيرة وعاشت مع زوجها ابن عمها في الإسكندرية وحصلت الصغيرة على دبلوم المدارس الثانوية التجارية، ليتها ما حصلت عليه حيث فجَّرتْ بعد ذلك مباشرة قنبلتها التي أطاحت بأسرتها واستقرارها وجعلتها مضغة في أفواه أهل الحي والمدينة بأسرها، لجأت الأسرة المؤمنة المسالمة إلى الله وحده سبحانه وتعالى، لم تلجأ إلى الشرِّ والانتقام، كانت الطامة الكبرى أن الأب المكلوم لم يتحمَّل الصدمة فأحدثت له نزيفًا حادًا في المخ قضى عليه في مثل هذا اليوم الثامن من شهر أغسطس بعد أسبوع واحد من غيبوبة تامة، تآمرت الأحداث المتتالية مع أسوار العزلة وأغلال الهمِّ والحزن في سجن الأسرة داخل شقتهم حيث الاختناق وكتم الأنفاس والموت البطيء.

خافت الابنة الكبيرة وزوجها ابن العم على مصير أمها وشقيقيها المراهقين بعد كل ما حدث فقرَّرا أن يهاجر مَنْ تبقَّى من الأسرة للإقامة بالقرب منهما في المنطقة الشعبية الجديدة بالإسكندرية، أنجزا كل ما يحتاجه ذلك من أمور شاقة، استأجرا لهم شقة صغيرة تتلاءم مع معاش الأب الفقيد، قاما بنقل الولدين إلى إحدى المدارس القريبة من مسكنهم الجديد، بذلا كل جهدهما حتى يوفرا للأسرة حياة كريمة جديدة تنسيهم مأساتهم الكبيرة وتبعدهم عن نظرات جيرانهم وأهل مدينتهم القاتلة.

مرَّ عامان فإذ بالأم تقرِّر أن تسافر إلى مدينتهم بالصعيد بمفردها، كان الجميع قد ظنوا أن أمورها قد استقرت إلا أن استقرار الأم كان ظاهريًا في غربة الجسد واغتراب الروح وجراح النفس، وما سببه كل ذلك لها من أمراض مزمنة ألمَّت بجسدها الواهن حزنًا وهمًا، تعلَّلت بأمور كثيرة لسفرها كزيارة قبر رب الأسرة ورؤية أختها الوحيدة المقيمة هناك وإنهاء بعض الأمور المالية العالقة مع أختها وبعض الأقارب، حاولت ابنتها وزوجها وولداها أن يسافر ابنها الكبير معها فرفضت بشدَّة، رضخ الجميع لرغبتها مراعاة لمشاعرها بالرغم من خوفهم وقلقهم عليها.

كان سفرها الأول منذ ثلاثة عشر عامًا وفي نفس ليلة اليوم الثامن من شهر أغسطس الذي توفي فيه زوجها مصدومًا بفعلة ابنته، توجَّهت باكرًا بقلبها المكلوم إلى المدافن لزيارة قبر الزوج قبل أن تذهب إلى أي مكان آخر، وصلتْ إلى القبر بصعوبة وتكاد أنفاسها أن تهرب منها حزنًا وألمًا وتعبًا، هالها أن تجد أمام القبر امرأة شابة متشحة بالسواد تحمل طفلًا صغيرًا على ذراعها وهي تبكي بحرقة ونشيج مرتفع، فكَّرت في مَنْ تكون إلا أن قلبها انتفض سريعًا في دقات متسارعة، وكاد أن يقفز من بين ضلوعها حين مدَّت يدها دون إرادتها لتدير برفق وجه المرأة نحوها، توقَّف الزمن لحظتها ثمَّ مادت الأرض تحت أقدام الامرأتين لتلقي كلتاهما نفسها في حضن الأخرى وتسقطا معًا على الأرض وقد ارتفع نشيجهما معًا ليتعدى حدود الصراخ يشاركهما في ذلك الرضيع الساقط على الأرض، استمرتا على هذا الوضع لوقت لم تدركاه، الغريب أن المفاجآة والانفعال والبكاء قتلوا معًا أي رغبة داخلهما للحديث، مات الكلام كله ودُفِنَ داخل أحشائهما، وقفت كل لغات الأرض عاجزة عن التعبير عما كان يدور في مكنوناتهما بعد أن جمع القبر في مشهد فريد ولحظة نادرة غير متوقَعة بين الأب الضحية الراقد في ترابه وابنته القاتلة المارقة والأم المكلومة الذبيحة الواقعة بينهما.

أخفى قلب الأم كل ما حدث عن الناس...كل الناس حتى عن شقيقتها التي تنزل عندها، تكرَّر اللقاء السِّري كل عام وتكرَّر من أجله السفر وفي نفس تاريخ الثامن من أغسطس، الغريب أنه لم يكن يضم الأم وابنتها في لقاءاتهما المتتالية أي حوار من أي نوع، لا محاكمة، لا حساب، لا لوم، لا عتاب، لا شكوى، وحتى لا تنفيث عن أي نيران ما زالت تلتهب في الأعماق، لم تسمع الواحدة منهما صوت الأخرى أبدًا فقط أحضان شوق وحنين ومشاعر وأحاسيس ولمسات حارة ملتهبة في تعبير شوق ملتهب وحنان بليغ، كان يغلف ذلك كله أنين ألم وحزن كبير ونزف جراح لا تندمل ولا تطيب، كانت اللقاءات تتم سريعة خاطفة خوفًا من أن يكشف سرها أحد وخشية مجهول لا تعرفانه، لقاءات تُذرف فيها سيول من الدمع الساخن الممتزج بفيضانات من مشاعر جياشة، لم تجرؤ أي منهما في أي مرَّة على أن تسأل الأخرى عن حالها وأحوالها أو حتى عن صحتها، اعتادت الأم أن يدفعها حنانها وشفقتها وحبها المعطاء وفي نهاية كل لقاء أن تدسَّ بين طيات ملابس الصغير تحويشتها من النقود التي ادَّخرتها طول العام خصيصًا لهذا اليوم، كانت ابنتها تقابل هذا بخرس قاتل يكتفي بسيل مُعَبِّر من القبلات ليد الأم الحنونة مع نهر من الدموع.

تعدَّدت تلك اللقاءات بتعدد الأعوام المتتالية ولم يتغير فيها سوى كبر عمر الأم وعجزها المتنامي وأمراضها المزمنة وزيادة بضعة كيلو جرامات من الشحم كل عام إلى جسم الابنة اللامبالي، هذا بالإضافة إلى استبدال الرضيع الذي تحمله الابنة كل عامين بمولود آخر جديد يحتل كتفها ولا يدرك بدوره حقيقة ما يدور.

...............

لم يمهلها قلب الأم على المكوث في حديقة الميدان الصغيرة أكثر من دقائق معدودات بعد أن أدَّتْ مهمة تناول الدواء السمجة وابتلعت أطنانًا من عبق المكان الفريد الذي لا يضاهيه عبق الإسكندرية بشهرته، أحسَّت بأنها أخذت رصيدًا كافيًا منه يعينها على البقاء متشبثة بالحياة خلال عام كامل قادم، نهضت بهمة ونشاط روحي إلا أن جسمها كان له رأي آخر فمضت تجر كتلتها يسبقها قلبها أيضًا نحو هدفها...حيث المقابر.

لا تعرف كيف وصلت إلى المكان ولا كم استغرقت من وقت، كانت قدماها وجسدها وأحضانها يدفعهم ويحركهم شوقها وحنينها ولهفتها لرؤية فلذة كبدها قبل زيارة قبر زوجها، منحت حارس المقابر ـ الذي يعرفها ويحفظها جيدًا ـ ما جادت به نفسها من نقود اعتادت أن تمنحها له كل عام، سألته إن كان قد حضر أناس قبلها للزيارة فأجابها بالنفي، ارتاح قلبها لإجابته، توجَّهت مباشرة نحو قبر زوجها، سكبت أمامه نفسها وروحها، تلت كل ما تحفظه من آيات وأدعية وابتهالات، لم تحضر ابنتها بعد، سقطت من علياء سمائها حيث سمو الروح لتغرق في خضم واقعها الأرضي المرير، تقاذفتها في ما بينها موجات قاسية من القلق ومعاناة الجسد وآلام النفس ووجع القلب، جلست بهمِّها الكبير جوار القبر تنتظر بشوق حضورها الذي تأخر كثيرًا في سابقة لم تحدث مطلقًا خلال السنوات الماضية، طال انتظارها بمفردها بين القبور فانتابها خوف ورهبة، نهضت وسارت ببطء ثقيل وأطرافها تنتفض لتجلس على «دكَّة» الحارس في مدخل المقابر حتى تراها وهي عابرة أو مقبلة على مشرف الطريق، ترك الحارس المكان لها تأدبًا ومضى خارجًا نحو الميدان، مضت الدقائق ثقيلة تليها ساعة قلقة متوترة كتوترها ولم تحضر الابنة، توالت رنَّات هاتفها المحمول الواردة من أختها لتطمئن عليها بسبب تأخرها غير المعهود فكانت تجيبها باقتضاب حزين وكلمات تنتحب، مالتْ الشمس نحو الغروب فمال قلبها معها نحو القلق والخوف ثمَّ الرعب من المجهول، أتى الحارس ليطمئن على المكان وعليها فأحسَّت بخجل الضيف الثقيل الظل يصبغ وجهها بسخونته، عصرت الحسرة قلبها عصرًا، همَّت بالوقوف استعدادًا لترك المكان بعد أن اختطفت الشمس الغاربة معها آخر بارقة أمل لها، راحت تهزُّ ساقيها لتخلصهما من قيود يأس حزين كبلتهما، وقفت أخيرًا دون إرادتها ثمَّ مضت حانية الظهر تحمل فوق كاهلها ثقل هَمَّها القديم الجديد بينما يمزق قلبها أنين مختلف.


مجدى حشمت سعيد

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق