الإنسان، المجتمع، اللغة، الفعل، الفكر، الثقافة، الحضارة، الهوية، التاريخ... هذه جميعا مترادفات متطابقات متلازمات حتى إن اتخذنا لكل منها موضوعا ودلالة ودراسة خاصة مميزة، إنها جميعا أوجه الحياة التى صاغتنا بشراً على مدى التطور الصاعد، حيث إن كل عنصر منها يسلم الى، ويستلزم معه العناصر الاخرى جميعها فى مركب متكامل واحد موحد الدلالة والمعنى. إذا انعدمت أحدها زنعدمت جميع العناصر معاً..
..........................
اذا انعدم الفعل انعدم الفكر وتعطلت اللغة، وجمدت الهوية وامتنع التاريخ، وانتفى المجتمع، ولاحديث عن هوية.. وهكذا لامجتمع بدون لغة أو تاريخ.. وتاريخية الفعل هى عين تاريخية الفكر والهوية.
يمكن القول إن اللغة هى واسطة العقد، ورابطة الوصل بين عناصر المجموعة، فهى ضامنة التواصل والفهم ومجلى التاريخ التطورى لكل منها. اللغة مشاطرة فى أفكار، ومشاركة فى التعبير عن صورة الإنسان والمجتمع والوجود الماضى والحاضر والمستقبل. و واللغة اداة فهم وتفاهم متبادل ومميز لمجتمع دون أخر. وطبيعى أنه بدون شكل من أشكال اللغة (الكلام المنطوق أو المكتوب أو الاشارة ... الخ) تصعب المشاركة المجتمعية فى أداء طقوس أو عبادات أو انجاز عمل مشترك، أو تأسيس نظام مجتمعى متماسك وكذا يستحيل التواصل والوحدة و التوحيد سياسيا، علاوة على انعدام الانشطة المشتركة الاقتصادية أو التعليمية والوجدان المشترك، والمنعة المجتمعية.
نحن نفهم الظواهر والأشياء، ونفهم أنفسنا، ونتفاهم مع الأخرين من خلال عملية تأويل وتفسير وفهم نعبر عنه باللغة. لذلك فإن ثراء اللغة يعنى ثراء الوجود المعيش فى وحدة التاريخ. ولهذا تتداخل الثقافة والهوية واللغة فى تعبيراتنا. وتمثل وحدة اللغة على الصعيد المجتمعى تاريخيا ضمانة لوحدة الوطن والأمن القومى، على عكس الحال فى ظل التعددية القبلية وتعدد اللغات إذا يصعب الحديث عن ولاء قومى أو هوية قومية والذى هو وحدة تاريخ، ووحدة وطن وحدة مصير
أجدادنا يحدثوننا بلغة الأم عن العالم حولنا فى الزمان القديم، وعن من نحن، ومن أين جئنا، ويمنحوننا احساس الكبرياء واسبابه، واحساس الخجل والعار واسبابهما.. وعن القيم الأخلاقية وجذورنا، وحساب بالاتصال التاريخى للأجيال، وحكمة المجتمع التى هى حصاد جهده التاريخى فى التعامل مع نفسه والآخرين والطبيعة. ويظل هذا كله وبفضل لغة الزم، صورة متصلة وممتدة مع مشاركة وجدانية فاعلة، وتظل حية بفضل حياة اللغة الأم. ولكن ما إن تموت اللغة حتى تندثر الحكمة والمعارف المجتمعية معها، بل ويذوى الإحساس بالأنا والنحن.
اندثار اللغة: المظاهر والأسباب
الحياة الوجودية للغة شأن أى كائن حى، رهن ظروف تاريخية اجتماعية من حيث التكوين والنشوء والتطور. وقد تمثل هذه الظروف واقعا حافزا للتجديد والتكيف فى إطار المنافسة والصراع لإثبات الأجدى والأنفع والأقدر على المواجهة والبقاء ازاء التحديات الحضارية المختلفة بحيث تبقى اللغة الملاذ اللازم للتعبير، وتعزيز لحمة البنية المجتمعية.
وهنا تشارك عوامل عدة فى عملية الصراع والتحدى، منها ما هو داخلى ومنها ما هو خارجى. وطبيعى أن المجتمع لايفقد لغة فجأة بين يوم وليلة، ولكن على مدى طويل من الصراع والإزاحة ،والمنافسة والابدال والاحلال أو كما هى الحال فى حالة الغزو الأجنبى، استمرارية قوى الاحتلال وتعاقبها وتعددها كما حدث فى مصر، فضلا عما فى استعمال اللغة الوافدة من عوامل جذب ومنفعة أو قربى من حيث السلالة اللغوية وتنوع العوامل المحلية ما بين كوارث طبيعية تفضى إلى إبادة شاملة، أو بسبب الجمود المجتمعى، جمود الفعل والفكر عند ثوابت السلف ويتأكد هنا قصور اللغة عن الوفاء بحركة الفعل والفكر المجتمعيين، الأمر الذى يفضى إلى ضمورها وعجزها عن مواكبة التطور الحضاري
وجدير بالملاحظة أن الضغوط الداخلية ليست سلبية بالضرورة، اذ قد تمثل قوة دفع إيجابية ناجمة عن دخول المجتمع، بحكم قواه الفاعلة الواعية دورة تطور حضارى ارتقائى جديد يفضى بالضرورة إلى طور حضارى لغوى جديد، أعنى ثراء لغويا. وتجرى هنا عملية انتخاب ثقافى لغوى والبقاء للأصلح.
وحرى أن نؤكد أن من أهم العوامل الحافزة للتطور الحضارى اللغوى حالة منعة المجتمع حال مواجهة تحد لغوى لمجتمعات أجنبية. إذ حين تكون المنعة المجتمعية ضعيفة لمجتمع مستسلم لقدرية التحديات، ويؤثر السلامة على المقاومة فإنه يتخلى عن لغة الأم لضعفه فى الحقيقة. ذلك لأن الحس الطبيعى أن المجتمع يرى لغة الأم هى ذاته، ودفاعه عن لغته دفاعا عن ذاته، وقد تتفاقم المأساة إذا فرضت لغة المحتل نفسها باسم المقدس.
نتائج كارثية
الثقافة/ المعرفة ملتحمة بقوة باللغة مكتوبة أو شفاهية. وتعكس كل لغة نظرة فريدة ومميزة عن العالم بما فى ذلك منظومة القيم والقسمات الثقافية. لذلك فإن اندثار اللغة، وابدالها، يعنى اندثار تاريخ وثقافة أجيال، وضياع ارث شعبى كامل. وفقدا اللغة الأم يعنى فقدان الحلقة الرابطة بالماضى، وفقدان حس الناس/ المجتمع سابقا/ بالهوية وبالانتماء مما يؤدى إلى استئصال الحس الجمعى. وتسود حالة من الأنوميا Anomie أى الاهتراء الثقافى وفقدان المعايير والثقة فى الآخر ويتحول الى مايمكن أن نسمية تجمعا سكنيا، وردة غرائزية
ومن هنا نقول الخطر كل الخطر حين يقع المجتمع فريسة لأى من أسباب الضعف. فريسة، لاحتلال استيطانى غير قانع بنهب ثروات المجتمع بل ساع عن عمد الى تدمير ثقافة وانسلاخه عن ذاته وتعطيل كل اسباب كبريائه ومحو تاريخه ليكون سهل الانقياد، عاجزا عن المواجهة والتصدى لأطماع الغازى ويعمد، فى خطته إلى تدمير لغته بمعنى فرض حاجز خرسانى بين ماضيه وحاضره، مما ييسر للمحتل التحكم فى توجيه مسار الضحية وفق أطماعه وبظن أفراد المجتمع أنهم إنما يحققون ما يريدونه هم.
ويؤدى الواقع المأساوى الجديد إلى العجز عن استعادة المعارف الثقافية الفريدة التى جسدتها اللغة الأم على مدى آلاف السنين، بما فى ذلك المعارف الروحية والتاريخية والايكولوجية وهى معارف لازمة لاطراد وجود المجتمع متمثلا فى ابنائه. مثال ذلك فى مصر المعارف الخاصة بالمواسم الزراعية والأمطار وكيفية التنبؤ وخواص علاجية وغذائية مميزة للنباتات والأعشاب، وهنا نجد الفلاح المصرى احتفظ لوجه الضرورة بشهور السنة المصرية لضبط التعامل مع البيئة الزراعية واحتفظ بالشهور القمرية الوافدة للمواسم الدينية. ولكن من أسف يقف المصرى صامتا مبهورا أمام انجازات حضارته القديمة وسر كبريائه يشعر برهبة الاعجاز دون الفهم وقد اغترب عن ذاته.

شوقى جلال
رابط دائم: