رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عقاب ذلك اليوم البعيد

مريم العجمى

أسمانى أبى مريم نسبةً للسيدة مريم ابنة عمران، أخبرنى حكايتها المتفردة، تمثلتُ بها وتلبستْ بى، قد أورثتنى اسمها، اختصتنى من بين بناتِ الأرضِ بالاسم العظيم، لا أحد فى كونى الصغير له ذات الاسم، من الصف الأول إلى الصفِ السادس وحدى فى المدرسة لى اسم مريم، موعودةٌ أنا بالخبر العظيم، أُعدُّ نفسى على تقبله، أتخيل ماذا كانت ترتدى، كيف تتحدث، ماذا تأكل، ألتقطُ كل ما يقال عنها فى الراديو الصغير ذى البطاريات. هل كانت تسمع القرآن مثلي؟

فى الركن المختار بين كرسيّ الصالون أفرش عليهما الستارة وأصحب طبقًا كبيرًا من الفاكهةِ والتمرِ والمخبوزات، صانعةً ركنيّ الخاص، بعد أن عرفتُ أنها اختارت لنفسها العزلة، سأواظب على الصلاةِ مثلها، سأذهب خلف أبى إلى المسجد لأركع مع الراكعين، أُدّرب نفسى لاستقبال الحدث الكبير. عليَّ المواظبة، لن أنال الأمر سهلًا، مع وجوب التحلى بالأخلاق الجميلة لأصل فى نهاية الأمر.

انتظرتُ حتى انتهى أبى من الوضوء وذهب إلى الجامع، ارتديتُ فستانًا قصيرًا أصفر مزينًا بالورودِ كاشفًا عن عظام ركبتيَّ، أخرجتُ خلسةً عِقد أمى من رقدته الطويلة فى الدرج، وصل إلى أول بطنى، رغم أنه بالكاد يلتف حول عنقها، مشّطتُ شعرى جيدًا، تركته دون ربطٍ على كتفيَّ يهتزُ مع كلِ خطوة فى خفةٍ ونعومة. كانت تفوح منى رشات العطر من زجاجة أمى على التسريحة، كنت أجرى ما ألبث أن أرفع ركبتى أمامى وأنا أتخيل أن لى جناحين يرفرفان، تطير زهور فستانى حولى مبتهجة أيضًا، أهبط، أحشرُ نفسى فى الصفِ إلى جوار أبى، بالكاد يتسع لى، أسترق السمع إلى همسات أبى فلا يظهر سوى حرف السين وسط الهمهمات الخفيضة؛ لا أنطق سوى السين فى الركوع والسجود والاستقامة كذلك، أُصدر (صوصوات) كفراخٍ خارجة لتوها من البيضة، يشرف الأمر على النهاية، أجلسُ كما يجلسُ أبى كرقمِ أربعة، مرتكزًا على مشط قدميه ثانيًا ركبتيه تحته. أحبُ أن أرى سبابته ترتفع قبل أن تنتهى الصلاة بقليل، أرفع أصابعى مثله وأشير نحو السماء، من المؤكد أنها إشارة، يرفع ويخفض سبابته عدة مرات، أفعل كما يفعل على غير عادتى دون سؤال، هذا وقد أوسعته أسئلة عن كل ما يخص الصلاة:

لماذا نضع اليد اليمنى فوق اليسري؟

لماذا نركع مرةً ونسجد مرتين؟

لماذا نكرر التسبيح ثلاثًا فى الركوعِ والسجود؟

لماذا لا ترد عليّ وأنت تصليّ؟

يأمرنى بطاعة الأمر فقط وعدم الخوض فى جدلٍ لا طائل منه. لم يُشفَ فضولى أبدًا. ضحك أبى عندما رآنى فى الصف إلى جواره، أشار بيده إلى العقد وشعرى والفستان القصير، متسائلًا: كيف أتيتُ بهذه الصورة لأصلي؟ وأبدى استنكارًا إضافيًّا وهو يتشمم رائحة العطر.

أنت أيضًا يا أبى تغتسل وترش العطر وتمشطُ شعرك قبل أن تأتى إلى المسجد!

لكنكِ سيدة، أنتِ السيدة مريم.

فى كلِ مرةٍ يؤكد لى أننى السيدة مريم؛ أُصدق، صار أمرًا لا محل له من الشك. أحتفى، أقفزُ، أجرى، أفرحُ، أشبُ وأصلُ إلى السماء. متى سيصلنى منها الخبر والبشري؟

أنا السيدة مريم، لا أحد غيرى.

بقيت على هذا اليقين إلى أن تلقيتُ الخبر الصاعق، العم حسين أطلق على وليدته اسم مريم؛ أفزعنى ذلك، لا أعرف من أعطاه الحق هو وابنته بخطف اسمى، وأبى.. وأبى لم يدافع عن الاسم، ترك عمى يحمله ويذهب. من منّا ستكون العذراء؟ كيف سنتقاسم الحكاية؟!

وددتُ لو أمزق الصغيرة بأسنانى وأخنقها وأدفنها حية، تلك الخاطفة، حطمت هى وأبوها كل شيء. كلما تكبر أمامى، تصغر أسطورتى الخاصة التى أعددتُ لها نفسى. تضاعف الأمر عندما انتقلت إلى المرحلة الإعدادية، حيث فتاتان أُخريان لهما اسم مريم، صرتُ لا أحد، فقط أربعة أحرف أول حرفٍ يشبه الأخير وأنا أدور بينهما، متزحلقةً على الراء أطبق على نقطتى الياء وأصل الميمَ بالميم.

سرقوا منى اسمى فصرتُ أسرق الأقلام من الزميلات فى الفصل، لا أعرف متى وكيف احتفظتُ بكل هذه الأقلام. أفتحُ الحقيبة المدرسية فأجدهم، متى امتدت يدى؟ تخص من هذه الأقلام؟ لا أعلم، بدأت أراقبُ نفسى، لا أفيقُ إلا والقلم فى يدى، أسأل عن صاحبة القلم فورًا وأعيده لها، لكن الأمر يتكرر، راقبتُ يدى ذات مرةٍ وهى تمسك القلم دون أمرٍ مباشر من رأسى، تتصرف هى خلسةً، تسرق فقط الأقلام، لا شيء غيرها. لا أشعرُ بالحرج وأنا أعيد الأقلام لأصحابها، الكثير من الأقلام لم أعثر لها على صاحب بعد أن حصلتُ عليها، كأنها انجذبتْ إلى يدى وحدها، لا أدرى ما الذى سيحدث إذا افتضح أمرى والتصقت بى تهمة السرقة؟! الأمر مهين ومفزع، لكن سعادتى لا توصف عندما أفتح حقيبتى وأتفاجأ بالأقلام التى لا أعرف مصدرها. خصصتُ لها مكانًا فى الدرج الأخير من المكتب، أرصهم إلى جوار بعض، أنظمهم فى انسجامٍ محببٍ إليّ، أفكرُ ماذا يمكن أن أفعل بكلِ هذه الأقلام؟ يحدث عندما يخلو البيت عليّ، أسحبُ الدرج، أُخرج غنيمتى الكبرى، هذا الجمع الذى أحب، أعيد ترتيبها مراتٍ عدة؛ حسب اللون، النوع، كمّ الحبر المتبقى. أُشفق على الوحيدين بلا رفاق، أضعهم فواصل بين التصنيفات، أهدهد عليهم، أطمئنهم، أفرّقهم وأجمّعهم من جديد، أعيد تشكيلهم لأصنع عملًا فريدًا، شجرة كل فرعٍ له شكل ولون مختلف، تتدلى من أغطيتها ثمارٌ شهيةٌ، أو بيتٌ كل جدارٍ فيه لا يشبه الآخر، ثم هرم عظيم. يسهل عليّ التخيل والتخلى عما صنعت، أسارع فى إخفاءِ كلَ الأقلامِ إذا ما سمعتُ صوتًا يصعد السلم.

يفتحُ أبى بابَ الغرفة ليطمئن على غطائى كعادته كل ليلة، يسحبه ليلفنى به دون أن يقبلنى، يسحب الباب من ورائِه تاركًا كل شيءٍ حولى ساكنًا، أروحُ فى نومى.

ذات ظهيرةٍ فى المدرسة، كنّا فى حصة ألعابٍ فى فناء المدرسة، أخبرتنى زميلتى أن دفترها اختلط بدفترى، كنت منشغلة باللعب وهى تطلب تبديل الدفترين، أشرتُ لها نحو الحقيبة لتبدلهما، فاكتشفت أمر الأقلام.

رجوتُ المدرس ألا يخبرُ والدى، ذليلة كنت، عاهدته ألا أكرر ما حدث أبدًا، وأننى لا أعرف لمَ أفعل ذلك الأمر. استمعَ الأستاذُ لما قلت، عاهدنى ألا يخبر والدى إلا إذا عدتُ لصنيعى ثانية. هل أخبر أبى أحد المدرسين الآخرين؟ ربما الولد باسم ابن صديق والدى أخبر والده وقام بتبليغ أبي؟ من أين سيعرف باسم؟ جارتنا أميرة ضاحكت أمها بفعلتى، فقامت الأخيرة بتبليغ أمى وقامت أمى بدورها الإعلامي؟

فى كلِ مرةٍ ينادى أبى عليّ، أجهّز نفسى للعقاب القادم.

ماذا فعلتِ اليوم بالمدرسة؟

ما الذى حدث أمس فى المدرسة؟

كيف لم تخبرينى بواقعة الأقلام فى الأسبوع الماضي؟

هل فعلًا تسرقين الأقلام؟

كيف أعرفُ بعد عام؟

تتكرر وتتدافع الاحتمالاتُ فى رأسى كلما نادى أبى عليّ، لا يمر يومان إلا وأنال فى ثالثهما عقابًا، ثلاثة وفى رابعهم تقريعًا، أربعة وفى خامسهم ضربًا مبرحًا، خمسة وفى سادسهم منعًا من شيءٍ أحب. كل الأسباب تتضاءل وتُنسى، إلا سرقة الأقلام، أنسى كلَ الذنوب إلاه، عامٌ يعقبُ العام، وأخشى ذاك اليوم البعيد.


مريم العجمى

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق