رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بُلغَة سيدنا

محمد الحديدى


 

حينما كنا صغارا نحفظ ما أفاءه الله علينا من القرآن على يد سيدنا « الشيخ محمد » بمسجد قريتنا الصغيرة القابعة على أطراف المدينة .. وكانت قريتنا هادئة جميلة ليس بها إلا عدد من البيوت الطينية المتواضعة . وكانت نسبة المتعلمين فيها قليلة جدا لدرجة أصبح فيها لسيدنا مكانة مقدسة وكان يحظى باحترام شديد من صغار قريتنا قبل كبارها . وكان سيدنا ذا جسد ضخم وطويل لدرجة ملفتة وكان فاقد البصر وصوته أجش يحوى بين طياته رعبا ينزل على قلوبنا كالسهام.. وكان يتسم بطيبة القلب إذ كثيرا ما كنا نجده يبكى بحرقه فيما بين صلاتى المغرب والعشاء وهو نفس التوقيت الذى كان يحفظنا فيه القرآن ......

أذكر أن سيدنا كان دائما يرتدى جلبابا قصيراً أزرق اللون وكان دائما يلف عمامته

البيضاء الكبيرة حول رأسه الضخم...

ولا تفارق يده عصا مأخوذة من شجر الليمون وكان ينتعل «بلغة» أقرب ما تكون رمادية اللون ... وفى الحقيقة أننا لا نعرف إذا كانت ذات لون رمادى أم أن أصل لونها كان أسود وأحالها الزمن إلى ما هى عليه والغريب فى هذه البلغة أن بها رقعا كثيرة على أطرافها وكانت هذه الرقع ذات ألوان مختلفة خضراء ، حمراء، صفراء وكأن من صنعها له تعمد أن يجعلها بهذا الشكل مستغلا فقدان بصر سيدنا و كأن ثأراً قديما بينهما.

قلت له يوما :

ـ إن بلغتك يا سيدنا لم تعد تصلح للسير فيها .إلا أنه غضب غضبا شديدا وكأن الدنيا فامت ولم تقعد . ثم اسند ظهره إلى حائط المسجد قائلا :

ـ أتعرف يا أبن «الفرطوس» كم تساوى هذه البلغة عندى ؟

قلت له متعجبا-

لا يا سيدنا !!....

قال متعجبا هو أيضا من قولى :.

ـ إن هذه البلغة تساوى عندى مئات الجنيهات.

أخذتنى الدهشة من هول السعر الذى قدره سيدنا لبلغته اللعينة المتهالكة وكيف أنه يقدر ثمنها بمئات الجنيهات رغم أنها لو كانت ملقاة على قارعة الطريق ما نظرأحد إليها ... وكتمت ضحكة كانت على وشك الخروج خشية أن تمتد يده لى بمكروه لا تحمد عقباه ... كان أشد ما يضايق سيدنا أن يضحك أحدنا على شيء قاله ... أيقنت أن سيدنا يعتز جداً ببلغته لدرجة أنه جعل جانبى كل فردة منها متصلا برباط يلتف حول كعبيه خشية أن تفلت من قدميه أثناء سيره ... .

ذات ليلة راح سيدنا يختبرنا فى شأن حفظنا للقرآن ... وبعد أن نادى عليّ قفزت من بين رفاقى لأقف أمامه ملبيا نداءه .

قال :

ـ اقرأ يا ولد من أول سورة الجن.

وفى الحقيقة لم أكن على المستوى المطلوب فى حفظى للقرآن كما كان يتوقع سيدنا . ولم استطع أن أكون عند حسن توقعه وقتئذ.. أثار ذلك غضب سيدنا وأنزل عصا الليمون على رأسى كالصاعقة ... رحت أبكى بصوت مسموع جعل رفاقى قد خرسوا فى أماكنهم يملؤهم الذعر والفزع من بطش سيدنا وكانوا رغم شقاوتهم فى غير أوقات العقاب كادوا يموتون فى جلودهم حينما رأونى أمامهم ألقى عقابى الشديد ... ولم يكتف سيدنا ببكائى إلا انه أمر» جودة « العريف بأن يحضر له حبتين من نوى البلح .

وهنا زاد بكائى وصراخى ورحت استرحم سيدنا مقبلا يديه الغليظتين ورجوت «جودة «.ألا يفعل وما هى إلا لحظات وضع خلالها سيدنا أذنى اليمنى بين أصبعى السباية والإبهام ليده اليسرى وبين أصبعيه كان قد وضع حبتى النوى وراح يضغط بهما على أذنى وشعرت وقتها بأنى وقعت بين فكى أسد ... وبينما هو يفعل ذلك كان يكز على أسنانه التى بدت شديدة الاصفرار .

اثار ما فعله بى سيدنا حفيظتى . وأشعل فى قلبى العداء له ولأقرانه من عديمى الرحمة بأبناء الناس وتمنيت وقتها أن يمنحنى الله أسنان أسد جسور وقلب نمر

شرس حتى انقض على أذنيه الطويلتين وانزعهما من مكانهما . صار كل ما يعنينى هو كيفية الانتقام منه ومعاقبته بشدة على ما فعله بى سيدنا الأعمى ابن ال........ لقد صارت أذنى اليمنى حمراء اللون ثم استحالت بعد أيام الى سواد أطرافها . صار رفاقى حينما يغتاظون منى يذكروننى بما فعله بى سيدنا ... ومن هول الألم الذى عانيته أخذت فى جيبى قطعة من مرآه أمى أنظر بين الحين والآخر إلى أذنى التى أصابها السوء ... مع مرور الأيام نمت بداخلى عقدة أن أجد أبا يمسك ابنه من أذنيه بقصد تأديبه . بحثت فى قاموس عدوانى الطفولى عن أسرع وأضمن طريقة للنيل من سيدنا فهدانى تفكيرى إلى طريقة واحدة سريعة ومضمونة وأقسمت برأس أبى أن أجعله عبره لمن يعتبر فى إحدى الليالى وأثناء مجيء سيدنا لتلقيننا أحد دروس القرآن وكان الوقت حينها فى غبشة الليل بعد آذان المغرب بلحظات وقبيل باب المسجد ... انتظرته حتى أتى ولم يكن حينها بصحبته «جودة « العريف ... اقتربت منه ولم انطق . بحرف واحد . وبينما هو رافع وجهه للسماء يدعو الله أن يقبل صلاته وصالح أعماله ... سحبته من يده وأوقعته فى حفرة كبيرة تليق به . كنت قد صنعتها له خصيصا أنا ورفاقى الذين تضرروا من بطشه . ظل سيدنا يسير بخطوات سريعة متلاحقة حتى وقع فى الفخ . ونظرا لضخامة جسده فأحدث وقوعه فى الحفرة صوتا هائلا فانفلتت فردتا بلغته من قدميه ... أخذت البلغة وطرت بعيدا عن أعين القادمين إلى الصلاة ... تجمع عدد من المارة الذاهبين إلى المسجد حول سيدنا وأخرجوه من الحفرة بصعوبة . ورغم ما ألم بسيدنا من وجع بجسده الضخم إلا أنه لم يعبأ بأى شيء إلا بسؤاله عن بلغته ... .

حاول، الناس إقناعه بأن يؤدى فرض الله أولا وبعد ذلك سيبحثون له عن بلغته «إلا أن سيدنا قد خلع عمامته وراح يدعو الله العلى العظيم أن ينتقم ممن فعل به هذا الفعل الشنيع وتسبب فى ضياع بلغته ... كان قد وضع يديه على كتفى أحد الواقفين وساعده الباقون على الوقوف ... وبعد أن نفض جلبابه القصير مما علق عليه من تراب راح يقسم بكل غال ونفيس عنده بأنه لن يصلى المغرب ولا العشاء

جماعة بالمصلين إلا إذا أحضروا له بلغته ولو من تحت الأرض . شريطة أن يطمئن هو بنفسه أنها بلغته دون سواها .

كنت أرقب ذلك من بعيد دون أن يرانى أحد ... ولما طال الوقت ولم يحضر له أحد بلغته راح يصرخ بصوت عال وأخذ يولول فصار كامرأة راح أولادها وزوجها فى حادث أليم لتوهم .

فى الحقيقة أنى شعرت ببعض الارتياح لما حدث لسيدنا الذى راح يحث الناس ويرجوهم أن يحضروا له بلغته . فأضيئت الطرقات والمساحات الشاسعة حول المسجد بالشموع والفوانيس ولمبات الجاز . الكل راح يبحث له عن ضالته المنشودة ... كانت صلاة العشاء قد حانت وما زال الناس يروحون ويجيئون بحثا عن بلغة سيدنا ... أتاهم صوت سيدنا من بعيد أن الأمر لو استدعى إبلاغ شيخ الخفر والعمدة ونقطة الشرطة فلا يبخلوا عليه بذلك ... وراح يعد من يأتيه ببلغته فسوف يحفظ أبناءه المصحف الشريف كاملا عن ظهر قلب مجانا ... رأيت الناس قد هموا يبحثون هنا وهناك بجدية أكثر مما كانوا عليه قبل وعده لهم .

اقتربت من حائط المسجد وكان سيدنا حينها جالسا وأخفيت بلغته اللعينة بين طيات ملابسى إلا أننى حينما تأثرت ببكائه الشديد المتلاحق سألته .

ـ لماذا هذه البلغة بالذات يا سيدنا ؟

تنهد سيدنا ورفع وجهه للسماء مرتعشا وقال :

ـ إنها هدية زوجتى نفيسة اشترتها لى من سوق الثلاثاء منذ خمس سنوات مضت قبل موتها رحمها الله ... ثم طأطأ برأسه إلى الأرض وقال :

ـ هى الوحيدة التى تجعلنى أتحمل قسوة خطواتى إلى أيامى المظلمة .

لم أكن أعرف حينها لماذا تناثرت الدموع الساخنة المتلاحقة من عينى ... فأخرجت بلغة سيدنا خلسة من بين طيات ملابسى ووضعتها بالقرب منه. وما زال يلعن ويسب من أوقعه فى الحفرة وأضاع منه بلغته العزيزة .مرت لحظات فإذا بأحدهم طار فرحا إلى سيدنا ووضع البلغة بين يديه ... وحانت منى التفاته إلى وجه سيدنا فوجدته مبتسما وهو يعد الرقع التى بها ثم تحولت ابتسامته إلى ضحكة عريضة ... وراح يحتضن بلغته بحنان قائلا .

ـ وجدتها يا نفيسة .


محمد الحديدى

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق