هل سبق وتوقفت مرة لتسأل عن الوقت الضائع فى الحياة وكيف يؤثر على تزامن الأحداث فى حياتك وحياة الآخرين، ليس فقط الآخرين الذين يعيشون معك فى نفس المكان ولكن أيضا هؤلاء الذين يعيشن حول العالم؟ وكيف يمكن أن يحدث فارق التوقيت فروقا كبيرة فى نمط الحياة؟ بل وإلى أى مدى يؤثر نمط الحياة ووتيرة سرعتها على الوقت الذى نمضيه
؟..تساؤلات يجيب عنها بعمق الطبيب النفسانى والباحث الأمريكى روبرت لافين فى كتابه «جغرافيا الوقت: المغامرات الزمنية لعلم النفس الاجتماعى»، الصادر أخيرا عن المركز القومى للترجمة بترجمة رمضان عبد الستار أحمد ومراجعة وتقديم كرم عباس، الذى يناقش فيه تاريخ التجربة الإنسانية فى التعامل مع الزمن، بدءاً من تتبّع حركة الشمس منذ شروقها إلى غروبها، ووصولاً إلى اختراع الساعات الحديثة مع الثورة الصناعية.
يرى لافين أنّ التفكير فى الزمن ظلّ مختلفاً بين ثقافة وأُخرى، حيث وضعت كلّ واحدة منها قواعدها الخاصة فى فهم التسلسل المناسب لأنشطتها، ووضعت مجموعة كبيرة من العادات والتقاليد والطقوس المرتبطة بتقلّب الأزمنة واختلاف الليل والنهار والفصول الأربعة. فى هذا الكتاب الممتع يستكشف لافين قضية إدراكنا للوقت والزمن. عندما نسافر إلى بلد مختلف، فإننا نفترض أن قدرا معينا من التكيف الثقافى سيكون ضروريا، سواء كان الاعتياد على طعام جديد أو التواصل بلغة مختلفة أو التكيف مع وتيرة ونمط مختلف من المعيشة أو عملة أخرى. فى الواقع، تبين أن أكثر ما يسهم فى إحساسنا بالارتباك هو الاضطرار إلى التكيف مع إحساس ثقافة أخرى بالوقت.
كشفت أبحاث ليفين عن العديد من الرؤى الرائعة فى جغرافيا الزمن. على سبيل المثال، صنف 31 دولة من حيث سرعة وتيرة الحياة وتعاملها مع الوقت، تصدرت سويسرا المرتبة الأولى وكانت المكسيك هى الأبطأ. يروى لافين عن الصدمة الثقافية التى تعرض لها خلال إقامته الطويلة فى البرازيل حيث يُنظر إلى الافتقار إلى السرعة على أنه علامة على الإنجاز!. يأخذنا لافين فى جولة ساحرة عبر الزمن عبر العصور حول العالم. نسافر معه إلى البرازيل، حيث يكون التأخر عن أى موعد لمدة ثلاث ساعات أمرا مقبولا وطبيعيا تماما، وإلى اليابان، حيث يجد إحساسا بالوقت الطويل لم يسمع به فى الغرب. نزور بعض المجتمعات بالولايات المتحدة لنجد أن حجم السكان يؤثرعلى وتيرة الحياة، وحتى على وتيرة ممارسة رياضة المشى يوميا.يعتقد الأمريكيون أن الوقت هو المال وأن إضاعة الوقت أمر غير أخلاقى، لكن الناس فى شبه جزيرة الملايو يعتقدون أن التسرع يعد انتهاكا للأخلاق وأن التسكع مع الناس دون غرض محدد لتمضية الوقت هو سلوك اجتماعى إيجابى.
ونسافر بالزمن إلى اليونان القديمة لفحص الساعات والساعات الشمسية المبكرة، ثم نتحرك قدمًا عبر القرون إلى بدايات «وقت الساعة» خلال الثورة الصناعية. نتعلم أن هناك أماكن فى العالم اليوم لا يزال الناس يعيشون فيها وفقًا لـ «وقت الطبيعة»، وإيقاع الشمس والفصول، و«وقت الحدث»، وتنظيم الوقت حول الأحداث، على سبيل المثال عندما تريد التأخر عن موعدك فى بوروندى، فيكفى أن تقول «سأراك عندما تأتى الأبقار» أما إذا أردت أن تخبر أحدا أنك ستأتى مبكرا لموعدك فستقول « أراك صباحا عندما تخرج الأبقار للرعى»، حيث يتبين بالأدلة أن الوقت الذاتى يختلف اختلافا كبيرا فى الثقافات المختلفة بحسب البيئة الثقافية والاجتماعية، التى ينخرط فيها الأفراد، والتى تؤثر على إدراكهم للوقت والالتزام بالمواعيد كقيمة، وإلى أى مدى يركزون على الماضى أو الحاضر أوالمستقبل، ومنظورهم الزمنى المستقبلى.
ويلفت إلى أن الأشخاص فى ثقافات استخدام الساعة يرغبون بالتركيز على نشاط واحد فى كل وحدة زمنية، بينما يميل الأشخاص فى ثقافات وقت الحدث إلى القيام بعدة أشياء فى وقت واحد، موضحا أن النمط الأول يعكس التزاما أكثر بالوقت، لكن النمط الثانى يضمن مشاركة قوية بين الناس. كما أن هناك علاقة سببية بين إيقاع الحياة والظروف الاقتصادية وتقدير أو عدم تقدير قيمة الوقت.
وربما أحد أبرز المفارقات فى العصر الحديث أنه مع كل إبداعاتنا الموفرة للوقت، فإن لدى الناس وقتا أقل لأنفسهم أكثر من أى وقت مضى. عادة ما يتم تصوير الحياة بالعصور الوسطى على أنها مملة وكئيبة، لكن إحدى السلع التى امتلكها الناس أكثر من خلفائهم كانت أوقات الفراغ. حتى الثورة الصناعية تشير معظم الأدلة إلى أن الناس أظهروا القليل من الميل إلى العمل. فى أوروبا خلال العصور الوسطى، كان متوسط عدد الإجازات فى السنة نحو 115 يومًا. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه حتى اليوم، لا تزال البلدان الفقيرة تأخذ إجازات أكثر، فى المتوسط، من الدول الغنية.
يقدم لافين فهما متعمقا لثراء وتعقيد الآراء حول الوقت ووتيرة الحياة بين الثقافات والمدن والناس حول العالم.، انطلاقا من كون الوقت هو حجر الزاوية فى الحياة الاجتماعية مما يوفر نافذة مختلفة على أى ثقافة، حيث يثير كتاب لافين بعض الأسئلة المهمة مثل: كيف نستغل وقتنا؟ هل تحكمنا الساعة؟ ماذا يفعل هذا لمدننا؟ لعلاقاتنا؟ لأجسادنا وصحتنا وحالتنا النفسية؟ هل هناك قرارات اتخذناها دون اختيار واع؟ وما هى الوتيرة البديلة للحياة التى قد نفضلها؟ ربما، كما يجادل ليفين، ينبغى أن يكون هدفنا هو محاولة العيش فى مجتمع «متعدد الزمن»، مجتمع نتعلم فيه التحرك ذهابا وإيابا بين وقت الطبيعة ووقت الحدث ووقت الساعة. بعبارة أخرى، يجب على كل واحد منا أن يرسم جغرافيته الخاصة بالوقت والزمن. إذا استطعنا فعل ذلك، سنكون قد حققنا ازدهارا زمنيا.
رابط دائم: