رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

دون كيشوت مرة اخرى

أحمد شوقى;

كان يتأمل الشراشف المزركشة أعلى الطاولة وينفث من أنفه الدخان المتصاعد فى دوائر. كان يلتهم السيجارة بفمه حتى تطاير منها الشرر وعلق بأصابعه بعض من هذا الشرر دون أن يتألم، كان قد اعتاد الوجع. عب آخر ما بقى من زجاجة البيرة وقد كان فيها ما يتعدى نصفها بقليل، عبه دفعة واحدة وأشعل سيجارة أخرى. كان المقهى فى شارع سليمان باشا يعج بالزائرين وهو فى عزلته المتجاوزة جالسًا وكأنه لا يرى أحدًا. كانوا يثرثرون ويأكلون ويشربون البيرة وينفثون الدخان الأبيض والأزرق، ويشربون الويسكى، ويتحدثون عن الهزيمة والاحتلال والعاهرات. هذا يضع أمامه كومة الأوراق ويكتب، وهذا يلقى الشعر على مسامع الأشهاد، وهذا يقرأ الجريدة، وذاك يصلح الكاميرا، وهو غارق فى تأملاته لا يحرك ساكنًا كأنه تمثال من جبس. عيناه ساقطتان للداخل مثل دمية، ووجنتاه بارزتان، وشعره أخذ فى الانحسار. أخرج علبة الثقاب من جيب قميصه البنى وفضها على الطاولة.. قطع أجناب العلبة وفردها أمامه كورقة وبدأ يكتب بقلم من الرصاص فوقها. كتب جملة واحدة وبدأ فى تأملها، كانت الجملة هى: «دون كيشوت».. الفارس الذى عاش يبحث عن بطولة».

كان هذا فى منتصف شهر يونيو من عام 1967، كانت الهزيمة طازجة، ساخنة، والناس لا يزالون لا يفهمون شيئًا مما حدث. كانت المدينة حزينة مثل أرملة غيب الموت زوجها، حالة من الكفر تخيم على الأجواء. ما إن أنهى جملته حتى وقف رجل فى الطاولة المجاورة وفتح سحاب بنطاله، وبال على الأرضية فى استمتاع حقيقى غير مصطنع. هرع إليه العم بسطاوى وأخذه من ذراعه برفق وخرج به إلى المرحاض، وصاحبنا لا يزال يتأمل الورقة، غير أن فكرة جنونية ولدت فى رأسه. كيف له وهو كاتب معروف ونصوصه النقدية محل إعجاب المثقفين.. كيف له أن يفعل المؤثر؟ رمى بعض النقود على الطاولة، وفتح أزرار سترته وخلع حذاءه، وهوَّش شعره وخرج قاطعًا الطريق طولًا وعرضًا من شارع سليمان إلى شارع الألفى، ثم عرج إلى شارع عماد الدين يفعل ما يفعله الدراويش والشحاذون، حالة محاكاة كاملة، أو بالأحرى حالة جنون كامنة أعلنت نفسها.

فات أسبوع وصاحبنا يبول فى الطرقات ويأكل من الزبالة ويزداد اتساخًا؛ بقايا الطعام وحبات القهوة عالقة فى ذقنه الطويل وشاربه الكث. وطار خبر جنونه إلى المقهى، وحاول نيف من أصحابه أن يرجعوه إلى صوابه دون جدوى منه.

بعد شهر كامل كان يرتدى فى رأسه صندوقًا من الكرتون كان لحذاء فى الماضى على الأرجح، وكان يمسك فى يده عصا خشبية يدفعها أمامه ويقطع بها الهواء وكأنها سيف يحارب به طواحين الهواء والأعداء.

كان يشير إلى المارة بحركة عصبية من يده أن يعطوه سيجارة.

فناله ما ناله من ضرب وركل على مؤخرته وبصاق ملأ وجهه وعلق بملابسه.ظل بعدها يومين ينظم أبياتًا من الشعر، وضع فيه كل ما يخطر على بال من بذاءات وشتائم، وألفاظ عارية. أتى بالهزيمة وجلب لنا العار.

كان يشتم المارة بالعربية والروسية، وقليلًا من الفرنسية، ثم يأكل مع قطة صفراء جرباء على الأرجح، ويتكوم فوق أحد الأرصفة آخر الليل ويغط فى نوم عميق تقطعه بعض الكوابيس أحيانًا وبعض الركلات من شرطى أحيانًا أخرى، يشعل على إثره عقب سيجارة وينفث دخانها فى دوائر كعادته، ثم يغط فى النوم مرة أخرى.

وفى ليلة رطبة، زمجرت إحدى العربات وتوقفت فجأة، ونزلت منها امرأة خمسينية متوسطة الطول، مليحة الوجه بيضاء، مكتنزة القوام، لها شعر مهوش وتدق ثلاثة حلقان فى أذنها اليسرى. نادته باسمه المجرد: «شاهين!» حملق فيها بضع لحظات قبل أن يدير لها ظهره ويهم بالانصراف.. أمسكت ذراعه بقوة وجذبته إلى داخل العربة من دون مقاومة منه. كان مثل كومة قش تقذفها الريح، خاويًا وهشًّا وخائر القوى. فى المقعد الخلفى كان يغطى وجهه بكلتى كفيه مثل طفل صغير يخشى عقاب أمه. «هل تتذكر كواليس المسرح؟ هل تتذكر روسيا؟ وتلك الغرفة الباردة؟

والدراسة؟ والحزب؟ هل تتذكر شيئًا من هذا»؟.

مط شفتيه وهز رأسه فى إشارة مختلطة، إشارة حائرة بين نعم ولا، وكانت هى لا تصدق جنونه وتشرده رغم كل الأوساخ، وتلك الرغوة العالقة فى لحيته، رغم رائحته المنفرة النتنة. نظرت إليه بقسوة وانفعلت حد الجنون: «ما الذى تريده من كل هذا؟ أخبرنى.. ما الذى أردته بجنونك؟ أو من جننونك؟ أنا إلى الآن لا أصدق جنونك، لا يمكن لمثل هذا العقل أن يجن أو يفقد توهجه، لو أراد الله لك هذا لخلقك من الأغبياء».

مسح عرقه بذيل قميصه ثم تشنج من البكاء.. كانت أكتافه تهتز بعنف كمن مسه سلك كهرباء عارٍ. ضمته إلى صدرها بحنو، فازداد بكاؤه، وأخيرًا همس قائلًا: «لم يكن علينا أن نحاول من البداية، لم يكن علينا أن نكون كالدون كيشوت. لسنا فرسان، لم يكن علينا أن نحاول أو نفرط فى الحلم. أنا مثلًا كان على أن أظل عبدًا من عبيد الأرض، كرارًا عارى القدم والمؤخرة، أغمس نصف رغيف حاف فى كوز صفيح به شاى، ثم أتكوم على الأرض وأنام. أصحو وأنام لأصحو وأنام، وهكذا دواليك إلى أن أموت. كان على أن أحيا كمادة التربية الوطنية؛ بلا أثر أو تأثير. كان على العفريت أن يظل فى القمقم يا هالة». نظرت إليه وعيناه مغرورقتان بالدموع: «هل تعرفنى يا شاهين»؟.

»نعم، أعرفك؛ أنتِ هالة سعيد. وهل ينسى الرجل من طارحهن الغرام يومًا ما؟ قد أكون مجذوبًا، ولكن من أخبرك أن المجاذيب لا يتذكرون فتياتهن العاهرات الحزينات»؟.

أشعلت سيجارة وأرخت رأسها إلى مسند المقعد ونظرت إلى السماء، كانت تريد أن تثرثر كثيرًا، أن تحتضنه كثيرًا، أن تلمس بشفتيها الملح الكثيف فوق شفتيه. لكنها فتحت باب السيارة وأشارت إليه أن ينزل، طردته من جنتها، كان لا بد لهذا العبث أن ينتهى، وأن تمضى تلك الليلة بهزيمة، هزيمة بحجم وطن.


أحمد شوقى

رابط دائم: 
كلمات البحث:
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق