شواهد كثيرة تشير إلى أن الملل أصاب الأوروبيين من أصدقاء أوكرانيا وشركائها، من جراء تمادى الرئيس فولوديمير زيلينسكى ورفاقه فى النسق الأعلى للسلطة ممن يواصلون مخاطبة شركاء الأمس واليوم فى الساحة الأوروبية، وكأنهم مدينون لهم ولبلادهم بفضل مواجهة روسيا وتحمل تبعات ما تكابده أوكرانيا من خسائر مادية وبشرية. وها هم يقفون اليوم قيادات، وشعوبا، فاغرين أفواههم وقد أصابتهم الدهشة جراء إصرار زيلينسكى على موقفه تجاه الصاروخ الذى سقط داخل الأراضى البولندية واعتباره «روسى الهوية»، وليس أوكرانيا كما يبدو من إجماع كل رفاق اليوم والأمس.
وبولندا كادت أن تسقط فى شرك زيلينسكى الذى لا يزال يصر على «مزاعمه» حول هوية الصاروخ الذى سقط داخل الأراضى البولندية، بما سارعت به إلى إعلان وضع قواتها فى حالة تأهب قصوى، فى توقيت مواكب لهرولة مساعدى الرئيس بايدن إلى إيقاظه من عميق نومه، ليسارع بدوره إلى الخروج فى قميص نومه، والنعاس يتملكه بشكل واضح، ليتحدث إلى الرئيس البولندى أندريه دودا لاستيضاح كنه القضية. ولم يمض من الوقت سوى دقائق معدودات حتى اجتمع فى مقر إقامته فى بالى الاندونيسية، مع عدد من نظرائه من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا لتقرير ما يجب أن يكون. وها هو زيلينسكى يعود إلى استفزاز شركائه ومنهم قيادات ألمانيا وبولندا بتعيينه سفيره السابق فى ألمانيا اندريه ميلنيك، نائبا لوزير الخارجية الأوكرانية، وهو الذى سبق أن سحبه من منصبه امتثالا لرغبة الجانب الألمانى بعد أن أهان رئيس الجمهورية شتاينماير، ونعت المستشار الألمانى أولاف شولتز بأنه أشبه «بقطعة سجق حزينة»!، علاوة على انتقاده الدائم لألمانيا بالتقصير فى إمداد بلاده بما تحتاجه من أسلحة.
وتقول المؤشرات إن انقساما تتبدى ملامحه فى الأفق، بين بلدان الناتو والاتحاد الأوروبى جراء سلوكيات القيادات الأوكرانية، التى تواصل رفضها الجنوح إلى ما ينادى به المجتمع الدولى من مباحثات مع الجانب الروسى، لوضع حد للمواجهة المسلحة التى أطاحت باستقرار الكثير من البلدان الأوروبية، وحملت شعوبها إلى براثن «شتاء قارس»، وأزمات غذائية شديدة الوطأة، إلى جانب أزمة الطاقة بكل تبعاتها. ولعل ما يحتدم من جدل حول مدى احتمالات استخدام روسيا للأسلحة النووية، هو ما يقض مضاجع الأوروبيين أكثر من أى شيء آخر. ويذكر المراقبون فى هذا الشأن ما أعلنه بوتين فى أكثر من مناسبة حول أن الولايات المتحدة كانت أول من استخدم الأسلحة النووية، وأنها قامت بذلك مرتين، معيدا إلى الأذهان هيروشيما وناجازاكى فى اليابان فى 1945. ومن هنا يتوقف الكثيرون عند ما خلص إليه الرئيس الأمريكى جو بايدن حول ضرورة تبنى المباحثات سبيلا إلى إنهاء الحرب الجارية، بقوله: «نحن لا نريد حربا عالمية ثالثة». وكان ديمترى كوليبا، وزير الخارجية الأوكرانية كشف عن تململ الإدارة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية، إلى جانب ما تمارسه واشنطن من تحفظات تجاه إمداد أوكرانيا بالأسلحة البعيدة المدى، مثل نظام الصواريخ التكتيكية للجيش «ATAMS»، الذى رفضت إرساله، على الرغم من أنها كانت زودت كييف بصواريخ HIMARS وأنظمة الصواريخ القوية الأخرى، التى تستخدمها فى ضرب المواقع المدنية والعسكرية فى منطقة الدونباس فى جنوب شرق أوكرانيا، خشية استخدامها فى توجيه الضربات الصاروخية إلى عمق الأراضى الروسية، التى يمكن أن ينظر إليها الكرملين على أنها تجاوز «الخط الأحمر»، وهو ما قد يطيل أمد النزاع، فى وقت تقول المصادر الأوكرانية، إنها فى سبيلها إلى إجلاء المدنيين من خيرسون، ولم يكن مضى وقت كثير، على احتفالاتها باستعادتها بعد انسحاب القوات الروسية، لأسباب لا يزال الغموض يكتنف الكثير من جوانبها. وهو ما قد يكون مؤشرا إلى مخاوف من هجمات روسية قد تستهدف استعادة خيرسون التى تواصل موسكو تأكيدها أنها «روسية الهوية»، ولا مفر من عودتها بعد الإعلان رسميا عن انضمامها إلى روسيا فى سبتمبر الماضى.
وذلك كله يمكن أن يفضى بنا إلى ما يمكن تسميته بأساليب بوتين فى إدارة الأزمة، وهو الذى أثار تراجعه عن صدارة الساحة السياسية وإدارة شئون المعركة خلال الأيام القليلة الماضية بشكل مباشر، مخاوف وقلق الكثيرين داخل روسيا وخارجها منذ احتدام الجدل حول انسحاب القوات الروسية من خيرسون.
وهكذا وبعد أن لمح باحتمالات استخدامه للأسلحة النووية، بما يرقى إلى حد التصريح فى الأيام الأولى «للحرب» ضد أوكرانيا، عاد بوتين إلى صدارة المشهد من خلال عدد من اللقاءات التى أجراها مع أمهات المجندين وكبار القيادات التنفيذية، وكأنما يريد أن يؤكد حرصه على الحد من مخاوف شعبه من اتساع نطاق «الحرب»، وتصدير الخوف والقلق إلى الشعوب الأوروبية ومنها الشعب الأوكرانى. وكانت القوات الروسية تحولت خلال الأيام القلائل الماضية إلى قصف الكثير من مواقع البنية التحتية ومنها محطات الكهرباء والمياه فى العاصمة كييف وعدد من كبريات المدن الأوكرانية، بما وضع معظمها فى حالة إظلام تام، وما تبعه من برد قارس بات ُيحوٍل حياة المدنيين إلى ما هو أقرب إلى الجحيم. علاوة على أن ذلك لم يكن سوى رسالة غير مباشرة للشعوب الأوروبية بما قد تواجهه خلال الأسابيع المقبلة، فى حال استمرار قياداتها فيما تمارسه من سياسات. وكانت وسائل الإعلام الروسية تفرغت خلال الأيام الأخيرة لدحض وتفنيد ما تعلنه القيادات الأوروبية ومنها أورسولا فون ديرلاين، رئيسة المفوضية السياسية للاتحاد الأوروبى، التى تدعو صراحة إلى تقديم الرئيس بوتين إلى المحاكمة وتتهمه باستخدام الطاقة كسلاح ضد الشعوب الأوروبية. وكانت أورسولا فون دير لاين أعلنت أيضا «أن بوتين وكأنما يحاول محو أوكرانيا من الخريطة الأوروبية»، «مدعية» أنه «حقق العكس، نظرا لأن أوكرانيا صارت اليوم اقوى من أى وقت مضي» على حد قولها.
وذلك كله يدفع إلى البحث عما من شأنه أن يضع حدا لما يمارسه الكثيرون من صانعى القرار فى كييف والعواصم المعنية الأخرى، من سياسات لن تسهم فى معظمها فى الوصول إلى ما أعلنه بايدن ومن يؤيده فى توجهاته الأخيرة، حول ضرورة إجراء المباحثات. ونذكر بهذا الشأن ما خلص إليه بوتين مع نظيره الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن للاتفاق حول التعاون المشترك فى مكافحة الإرهاب عقب تعرض بلاده لأكبر حادث إرهابى فى تاريخها فى 11 سبتمبر 2001. وكان بوتين بادر بعرض مساعداته على جورج بوش الابن، وفتح أجواء بلاده، للمقاتلات الأمريكية للوصول إلى أفغانستان، بل قدم المساعدة لإقامة عدد من القواعد العسكرية فى عدد من بلدان آسيا الوسطى، مقابل أن تغل الولايات المتحدة وحلفاؤها أيديهم عن دعم الإرهاب فى الشيشان وشمال القوقاز، من خلال ما يسمى بتجفيف منابع الإرهاب، التى تتمثل فى مصادر تمويله ودعمه ماديا وبشريا وعسكريا. وذلك يعنى فى الحالة الأوكرانية وببساطة شديدة، «الكف عن إمداد أوكرانيا بما يتدفق عليها من أسلحة حديثة، منها ما ليس موجودا فى ترسانة الكثير من بلدان الناتو»، وهو ما لابد أن يدفع أوكرانيا إلى الامتثال لما ينادى به بايدن فى واشنطن. وذلك ما يستقيم مع ما تطرحه دوائر غربية كثيرة من تساؤلات منها: «ماذا يحدث مع أوكرانيا إذا ذهب هذا الدعم؟».
ومن هنا نقول إن التقييم العقلانى لما يجرى من أحداث وتطورات، يفرض استعادة مفردات الأزمة منذ اندلاعها فى عام 2014، ومراجعة ما شهدته علاقات أوكرانيا مع راعيها الذى كان بادر بمباركة الثورة البرتقالية فى أوكرانيا عقب ثورة الورد فى جورجيا، وثورة السوسن فى قيرغيزيا منذ مطلع القرن الحالى. ونذكر أن المخطط الأمريكى لم يعد بخافٍ على أحد، ولاسيما على ضوء ما بذلته واشنطن من محاولات مماثلة فى عدد من بلدان الشرق الأوسط تحت ما يسمى بثورات الربيع العربى، بعيدا عن الانزلاق إلى تقييم كل من هذه الثورات. وكانت الإدارة الأمريكية حرصت على دعم «الثورة البرتقالية» منذ الإطاحة بالرئيس الأوكرانى الأسبق فيكتور يانوكوفيتش فى فبراير 2014، والوقوف وراء تحركات القيادات الأوكرانية الموالية لها بكل ما رفعته من شعارات معادية لروسيا، لتصل بالأوضاع فى أوكرانيا والمنطقة إلى ما هو عليه الآن . ومن ذلك ضمنا تشجيع الحكومات الأوكرانية على عدم تنفيذ ما وقعت عليه من اتفاقيات مينسك فى عامى 2014-2015 رغم مشاركة ألمانيا وفرنسا فى رعاية هذه الاتفاقيات، فى نفس الوقت الذى كانت تقوم به من تدريبات عسكرية ومناورات مشتركة مع الجيش الأوكرانى الذى حرصت على إمداده بأحدث الأسلحة الغربية طوال الفترة من 2014 حتى تاريخه فى عام 2022 بما تدفق ويتدفق على أوكرانيا من أسلحة حديثة وخبراء ومتخصصين ومرتزقة تتسابق بلدان الناتو والبلدان الحليفة فى إمدادها به منذ اندلاع الصراع المسلح مع روسيا فى فبراير من العام الحالى.
أما عن المباحثات التى يدعو الكثيرون إليها، فتلك قضية يحار الكثيرون أمام مفرداتها، وإن كانت تتضمن عمليا ضرورة وحتمية ما يمكن تسميته بالحلول الوسط والتنازلات المتبادلة. فماذا يمكن لكل من الجانبين تقديمه أو القبول به؟، فى وقت يعلن فيه الطرفان عن ثوابته وما ينشده كلاهما من أهداف يقول باستحالة التفريط فيها؟. ورغم تباعد المسافات بين مواقف الجانبين، فإن الأمل فى تقليص هذه المسافات، وكما يقول شاعر تركيا الكبير ناظم حكمت سيظل «آخر من يموت».
رابط دائم: