رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

البوابة

فكرى عمر
ريشة : ماهر بدر

لم ينتبه من قبل لتلك الحديقة المهجورة، كان يمضى إلى مقر عمله عَبْر هذا الشارع أحيانًا، أو يتخذ من شوارع أخرى طريقًا مختصرًا، وهو شاردٌ فى بقايا أحلامه، وخُطاه أكلتها الطُرق والأيام، حتى برزت أمام عينيه فجأة كخدعة فاتنة. حَدَثَ الأمر هكذا: فى الصباح برفقة «هناء» يكون لدنياه طعمٌ آخر، فى ذلك النهار ترك لها نفسه، فانعطفت به يسارًا، ثم توقفت مرة واحدة قُرب بوابة قديمة، حينها شاهد وراء هيكلها أشجارًا ووردًا هائشًا وحجرات فارغة، سأل نفسه: «كيف لم أرها من قبل؟!» خصوصًا وهى تبدو من أوائل الأشياء هنا، مع البيوت ذات الشرفات الخشبية، والمقرنصات البارزة على واجهاتها، تلك المبانى النادرة المتوارية خلف أبراج سكنية عالية، ومحلات ومطاعم ذات واجهات زجاجية حديثة.


لكنه أوقف سلسلة تخيلاته قبل أن تنفرط من رأسه، فليس هذا وقتها. إنها فرصة مُتجددة ينتقم فيها من الوقت الذى يجرى كالقطار السريع كلما ألتقى بها، ثم يتوقف طويلًا بهيئة مقبضة خلف أوراق عمله، أو إلى جوار مقعده بالمقهى، أو فى الليل على جدران غرفته وسقفها المُصفرَّ.

رغم ذلك لم يستطع الإفلات من داخلها، فعينا «هناء» الباهرتين كانتا تُحرِّضانه على ذلك بالتفاتاتهما المتوالية. ربما كان للمساحة الفارغة أمامها حيث تركن بعض السيارات الخاصة سببًا فى اختبائها، هكذا بَرَّر غفلته عن اكتشافها سابقًا. كانت واجهتها مُهملة ومغدورة، لكن السحر كامنٌ فى ترابها. هكذا همس قلبه، وسكن لسانه أمام بوابة قائمة بين عمودين من الجرانيت الأخضر، نسجت العناكب بيوتها فى أركانهما، وغمر التراب وسطيهما، فيما تكسرت بعض قطع القرميد فى سقفيهما. قضبان حديدها تآكل بعضه من الصدأ، ودُفنت عتبتها تحت ركام من العُلب، والأكياس والأوراق الممزقة، وكُتل طينية خلفتها أمطار الشتاء.

قالت: «لولاى لما عرفت بوجودها».

أحاطت به الحيرة، هو الذى يحاول طوال الوقت أن يُظهر أمامها إلمامه بكل شىء. بان غضبه، وقلة حيلته؛ لأنها أمسكته فى لحظة ضعف. هَزَّ رقبته، وهو يُصفِّى رأسه من دبيب أقدام المارة، وزعيق أبواق السيارات، والصيحات المتداخلة.

- غريب جدًا أنِّى لم أرها من قبل. تخيَّلى، أنا دقيق الملاحظة، دخلت المدرسة بعض مَرَّة، والمحلات المجاورة، لكنِّى أكون متعجلًا لإنهاء مشوارى!

ردَّت: «مهما كنت دقيق الملاحظة، فلن تكون بارعًا فى الاكتشاف، والتفتيش وراء كل التفاصيل أكثر من الأنثى».

ضحكا.. قالت نبرتها الساخرة: «لا تتحدانى»، ورَدَّد قلبه: «يبدو أنك تفشل أحيانًا فى الاختبارات».

هل كان الأمر مُقلقًا ومُلحًا إلى درجة أن يزوره فى الحلم؟! نعم، فزهرة الصباح المُتوَّجة لن تتركه إلا أسير الفضول المُنهك.. كان يقف فى ظلام شبحى وراء البوابة متشبثًا بقضبانها. يُحدِّق إلى كل تفاصيل الحديقة وهى تتلون أمامه، ثم تمتلئ بالناس. حاول القفز من الأعلي؛ ليشاركهم ألعابهم، وأفراحهم، وما إن ثَبَّت قدمًا ورفع الأخرى ليصعد، حتى انمحى كل شىء فجأة، وأطبق ظلامٌ سرمديٌ على التفاصيل، ليستيقظ على إحساس مريع بضياع الفرصة.

فى الضحى التالى وقف هناك وحده. كان خارجًا من عمله لمهمة دورية فى مكان آخر، أنهاها بأقصى سرعته وطاقته، ثم لاذ بالمقهى المواجه للحديقة فى الناحية المقابلة؛ يشاهد الرائحين والغادين حولها، ويشغل نفسه، حتى يجىء الوقت المناسب، بأحاديث تليفونية يطالع بواسطتها آخر أخبار الزملاء، والترقيات. خطواته حذرة وبطيئة، لا مكان هنا للغفلة حيث العربات، والدراجات البخارية، ونظرات المراقبة التى تسكن الشقوق، والشبابيك المواربة. عَبَرَ إلى الناحية الأخرى، ثم عَرَّج على البوابة. حينها لم يكن ثَمَّ أحد إلى جوارها.

معاينتها عن قرب أَمرٌ آخر. أرضُها لا تقل عن مِئة وخمسين مترًا مربعًا، ممهدة ونظيفة سوى من بعض الأوراق، والزجاجات فى جوانبها. يتمدد فيها العشب حُرًا، وتتطاول نباتاتها حول دوائر ومربعات من الأحجار متآكلة الحواف، وتعيش بها وعليها عدة طيور وحيوانات. أبصر كلبًا أبيض كسولًا طويل الشعر يرقد إلى جوار شجرة ريحان تمتد أفرعها فى الاتجاهات كلها.. قطة سوداء تمشى بتكاسل وهى تحفر حول شجرة جارونيا ذات أوراق قليلة خضراء، وبقايا زهور حمراء ذابلة.. هدهدًا ينقر فى مساحة العشب الخضراء بحثًا عن الدود. رأى فراشات قلائل حول الورد، ونحلًا، وشجرة توت تنبت أول أوراقها الربيعية الجديدة على أفرع بنية كثيرة. كان الذباب يَطِّنُ حوله. كم من كائنات لا مرئية تعيش هناك أيضًا فى بقع المياه، وبآخرها مبنى قديم من طابقين، حجرتان عاليتان ترتفعان فوق بعضهما، وسلم متهاو إلى جانبى الحجرة الأرضية التى تَقشَّر طلاؤها. تراجع خطوة للوراء، نقوش البوابة العليا أوراق نباتية بَهُت لونها المُذهَّب والفضِّى، ووجه غزال من النحاس الأحمر بقرنين بارزين ملفوفين فى منتصفها. يتخيلها مزدهرة من جديد: «مَنْ هو المجنون فى زمننا هذا، ليترك أرضًا كتلك فى مكان حيوى بين المدرسة الثانوية، وبرج سكنى واجهته مطعم شهير، وسوبر ماركت، ومكتبة؟!».

- ما أجملها فى الليل!

صوت عاملٍ فى المطعم المجاور اقتحم تأملاته. كان، بأقصى ما تستطيع يده من قوة، يرشُّ المياه من زجاجة نحو النباتات هناك، العلامة المميزة للمطعم الشهير والطاقم الذى يرتديه أخفيا هيكله الحقيقى، لكن نحافته أظهرها تهدل الطاقم نفسه، والوجنتين البارزتين لشابٍ شاحب الوجه فى ثلاثينات عمره، واصفرار عيونه من الإرهاق.

سرقه الخيال، فلم يضع فى اعتبارى كل الذين يمرُّون من هنا، أو يجذبهم المكان مثلما جذبه بالضبط، قال للعامل:

- ما الذى يجعلها أجمل فى الليل؟

تَبخَّر الأسى فى عينيه؛ لتنبثق فيهما لمعة مُفاجِئة:

- مقابلات.. لعب.. ضحك.. «غمز بعينيه» رأيتك مع فتاتك بالأمس هنا، لكن حذار من المغامرة.

- لم؟!.

- لأنهم وإن كانوا يأخذون راحتهم وراء الشجر، والضوء الخفيف، لكن لا يمكنك أن تعرف كيف يدخلون، أو يخرجون إلا إذا كنت صاحبهم. هناك متشردون أيضًا يشربون الحشيش، ويلعبون بالسنج والمطاوى.

نظرته صارت فضولًا دفع ابن المكان إلى مزيد من الكلام.

- صحيح أنه ولا واحد منهم يجور على آخر إلا نادرًا، كأن بينهم اتفاقًا ما، أو أنهم فريق واحد، لكنى بحثت عن مدخل للحديقة دون فائدة. راقبت البوابة لأيام، وأسابيع وأنا خارج المطعم. اكتشفت أنهم لا يستخدمونها إطلاقًا.

- ربما يتسللون من ثغرة بالمدرسة، أو من مكان ما فى الأبراج التى تجاورها.

أدار العامل رقبته، وزَمَّ شفتيه، ثم مضى.

تتحرك الحديقة من مكانها. تترجرج، تنشق أركانها، ثم تطير فوق العمارات، والمآذن، وقباب الكنائس، والنهر؛ لتأتيه مرة ثانية فى الحُلم.. بأحلى حُلة تُزِّين ترابها، وبها روادها. شبابٌ، وفتياتٌ يقفزن حول أشجار الزينة. يلمح أطرافًا بيضاء متعانقة، وصوت قبلات يأتى محمولًا على أنسام الهواء. يرى سكاكين تلمع شفراتها فى الفضاء، ودمًا يتناثر فى الأرجاء. رغم ذلك لا تصدر من أحدهم أو إحداهن صرخة، ولا صيحة، ولا نداء عالٍ. فقط ضحك، قهقهة رعناء، وصياح شقى لفتيات ورجال. كأنهم يمثلون أدوارًا خارج حسابات الدنيا والقوانين.

توقف الشاب، الذى ينثر الماء فى الضحى إلى الزرع، قليلًا. كان سارحًا. كأنه يستعيد أطيافًا رافقها فى الليل، لم يأت إليه ويتحادثا كالمرة الفائتة، أمال رأسه استجابة لنداء رئيس عمله، فهرول إليه. السرحان هو السمة التى تتملك زواره فيما بدا له من مراقبته لهذا العامل، ومن تجربته الشخصية. غاب بعينيه طويلًا، لينبهه صوت حشرجة شيخ هَرِم. كان يتكئ هو الآخر على قضيب حديدى ويمد بصره إلى هناك، إلى نقطة قريبة جدًا من مكانه، وبعيدة جدًا فى ذاكرته؛ لأن عينيه علتهما لمعة غامضة أثناء التقاء نظراتهما. فى المرات التى أخذ فيها هذا الطريق معها، بأصابع متشابكة ونظرة محمومة متلهفة تَعمَّد الحديث عنها. راح يجُرّها إلى الاعتراف بمزيد من التفاصيل، وقد صار أسيرًا لتلك الحديقة وحكاياتها القديمة.

- متى رأيتِها؟ وهل كنت تقفين هنا دائمًا؟

- زمان. أنا وزميلات الثانوية العامة. كان الشارع أهدأ قليلًا.

- ما رأيك أن نلتقى هناك فى إحدى الأمسيات؟

فاجأته ضحكتها الساخرة ذات الرنين:

- أتأمن علىَّ هناك وسط السُكرية والحشاشين؟! وإذا رآنا أحد ممن يعرفنا، فماذا تفعل؟! وإذا فتح علينا أحدهم مطواة وأنا معك، فكيف تواجهه؟!

دفع يده نحوها معتذرًا أن وصل بها الحال إلى ذلك الفهم الخاطئ، فهما يسرقان ملذاتهما الصغيرة فى الضوء والظلام. رفضها أيضًا شجعه ليخبرها بأحلامه، وأمله أن يعيد أحدهم هذا المكان إلى عهده الذى عرفه من كلام الناس، حديقة ساحرة وسط تلال من الأسمنت، والزجاج الملون، والمدارس، والمحلات. قالت بعينين جامدتين:

- يعنى واحد يدفع ملايين الجنيهات من أجل أن يفتح قهوة بجنينه! أنت رومانسى جدًا.

- أنا أحلم.

- عِش الواقع وفكر فى برج سكنى.. عمارة يسكنها أطباء.. توكيل كامل لشركة من الشركات.

فى الأيام الأخيرة صارت مهماته أشق كثيرًا، وغدا لقاؤه بها قليلًا. حاصرته بوعده، ولم يكن قد امتلك بعد ما يؤهله للإيفاء بشىء، كما أن أحاديثهما الأخيرة كشفت طُرقهما المتعاكسة. كان الإنذار الأخير حين طلبت فى الاتصال الهاتفى تأكيدًا قبل أن يتقابلا، فانسحب مُرغمًا؛ ليوسع الطريق لطُلَّابها قبل أن تُحمَّله مسئولية ضياع عُمرها.

فى تلك الليلة أخذته قدماه إلى الحديقة. كان الحَرُّ يَخفُّ كلما اقترب منها، وتهلُّ عليه النسمات، فيهزم احتباس أنفاسه، يشاهد البيوت، والناس، والسيارات كلوحة متحركة بألوان كالصراخ. أما هناك حولها، فخفتت الأضواء، وفرش قمرٌ وحيدٌ معلق بالسماء نورًا أبيض هادئًا أضاء زهورها، وأشجارها، ورسم أشباحًا تتجول بها فى خفة عجيبة. أَنْصَت إلى الخطوات، والتنهدات، والكلمات. أبصر أطيافًا تشبه الناس، لكنها تطير بين الأشجار. وراء البوابة كان مُنهكًا من الطريق، والكوابيس، وصياح الأبواق والأفواه.. رغم ذلك أخذ يصارع مَنْ هم حوله؛ كى لا يخسر مكانه؛ لأن كل الأعمدة الحديدية شبه المتآكلة أخذت تتشعلق بها، شيئًا فشيئًا، كثيرٌ من الأجساد والأيادى.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق