وديع فلسطين، غادر الدنيا عن عمر قارب المائة وتجارب وأعمال مزجت معارف تتجاوز فى مجملها مئات الأعوام . فالصحفى والكاتب الكبير ابن أخميم السوهاجية، الذى ولد فى الأول من أكتوبر عام 1923، لأسرة كان ربها يعمل مديرا للحسابات فى السودان .
سمى الرجل الذى رحل عصر يوم الجمعة الماضية اسما مركبا، وكان لـ»فلسطين» جانب منه. ولذلك سر يرتبط بعادات الصعيد المصرى فى زمن ميلاد الكاتب الهادئ. فكثيرا ما أطلق أقباط الصعيد على أبنائهم اسم « فلسطين»، لأنها موطن السيد المسيح ، عليه السلام. لكن اسمه كثيرا ما أعطى انطباعاً بانه «شامى» الأصول، خاصة وأنه كان دائما ما يتحرك فى دوائر أهل الشام الذين كانت لهم الريادة فى إدارة العمل الصحفى بمصر نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
> .. وغلاف أحد مؤلفاته
يقول وديع، واسمه بالكامل وديع فلسطين حبشى، فى واحدة من تصريحاته الإعلامية النادرة إنه ما كان يسعى كثيرا لتصحيح خطأ أنه من أصول شامية، لأنه كان بالغ الامتنان لتجربة عمله مع «الشوام» الرواد فى مجال العمل الصحفى فى مصر.
تمنى وديع فلسطين لو درس علوم الكيمياء، لكن الأحوال المالية لأسرته، جعلت الشاب المصرى يدرس فنون الصحافة بالجامعة الأمريكية فى القاهرة، ليتخرج منها عام 1942. كانت هذه نقلة رئيسية فى حياته، لينطلق فى عوالم الصحافة، كاتبا ببعض أبرز صحف لهذا الزمن، مثل «المقطم» و»المقتطف». وعلى هذه المنابر، مارس الشاب الهادئ مختلف فنون المهنة، حتى تولى رئاسة قسم الترجمة فى «المقطم»، وكتب العديد من افتتاحياتها المؤثرة. وظل على هذا المنوال من الاجتهاد والتجديد حتى انتهت تجربة «المقطم» وأغلقت أبوابها بعد قيام ثورة يوليو عام 1952.
لكن تجربة فلسطين لم تنته هنا، فبات كاتبا ومترجما فى العديد من المطبوعات المصرية ومراسلا ومتعاونا مع عدد آخر من المطبوعات العربية. وانطلق بعد ذلك فى رحاب الترجمة الواسع، فترجم من العربية إلى الإنجليزية وبالعكس عدد كبير من النصوص والكتب، التى أكد فى حياته أنه لا يتذكر كل عناوينها أو إجمالى عددها. ولكنه كان دائم الاعتزاز بترجمة كتاب» المسألة الفلسطينية» للكاتب الفلسطينى هنرى قطان.
تكشف محاولات اقتفاء أثر أعمال وإنجازات وديع فلسطين عن أكثر من أربعين كتاباً بين مترجم ومؤلف ومدقق، من أبرزها «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره»، والذى يتحدث فى جزءيها عن تجربته وعلاقته بنحو مائة من أعلام مصر والعرب. كما شارك فى إعداد وتحرير عدد من الموسوعات مثل «الموسوعة العربية الميسرة».
تعرف على الشاعر السورى نزار قبانى ( 1923- 1998) فى بدايته وقت كان الأخير قد انتهى لتوه من ديوانه الأول « طفولة نهد». وكان صاحب الدور فى تعريفه بالجمهور الأدبى فى مصر، حتى إنه صحبه للقاء الأديب عباس محمود العقاد (1889-1964) لأول مرة.
مقالات وديع فلسطين تشكل تراثاً لا يستهان به من تاريخ الدوريات والمجلات الأدبية فى مصر والعالم العربى. ومن أبرزها السلسلة التى نشرتها مجلة «الأديب» اللبنانية تحت عنوان « شعر ناجى المضيع» فى محاولة منه لجمع وتدقيق أعمال الشاعر المصرى الكبير إبراهيم ناجى (1898- 1953).
من التجارب اللافتة فى حياة وديع فلسطين كان عمله ككبير للمترجمين فى قضية دولية نفطية. التجربة دفعت شركة بترول سعودية كبيرة إلى طلب تعاونه معها، وهو ما وقع عليه. ومن هنا بدأ عمله بصحيفة محدودة الشأن كانت تصدر عن الشركة بعنوان «قافلة الزيت». ونجح المترجم والكاتب المصرى فى رفع شأن ذلك الإصدار، بأن استكتب العديد من الأقلام المصرية البازغة كما كان مع استكتابه العقاد.
فقد جمعته بالعقاد علاقة متباينة السمات تجمع بين الاحترام والاختلاف الشديدين. وصف وديع فلسطين العقاد فى واحدة من كتاباته بأنه «دودة كتب»، فى عرضه مؤلف العقاد «مطالعات فى الأدب»، وذلك فى استعارة للتعبير الشائع فى الإنجليزية لوصف كثير المطالعة. فيرد عليه العقاد بأنه « كتيبة من الديدان».
بخلاف العقاد، جمع وديع فلسطين علاقة وثيقة مع أعظم أدباء زمنه مثل طه حسين ونجيب محفوظ، وتوقع للأخير أن يكون علما من أعلام الحركة الأدبية المصرية والعربية، وهو ما كان.
ولم تنته تجربة وديع فلسطين هنا. فقد أسس الرجل الذى عرف بأنه بالغ الدقة فيما يخص مواعيده وعاداته فى القراءة والكتابة «رابطة الأدباء» عام 1935 من قيادتها حتى إغلاق أبوابها عام 1952. وهو عضو مؤسس فى رابطة «الأدب الحديث» ، وعضوا بنقابة الصحفيين المصريين ومجمع اللغة العربية بالأردن وسوريا. كان هذا بعض، مجرد من فيض معارف رجل عاش بين الكتب مئات الأعوام.
رابط دائم: