عزز الإحساس الوطنى والفخر بتاريخ مصر وتغنت بمجده منيرة المهدية
لم يكن العثور على مقبرة الملك توت عنخ آمون مجرد كشف لأول مقبرة لم تمسسها يد بشر طوال ثلاثة آلاف عام. بل كان بوابة على التاريخ أطل عبرها المصريون على أمجاد أجدادهم، فتعزز إحساسهم بهويتهم المتفردة، التى كانوا قد بدأوا يستشعرونها بقوة بعد ثورتى 1881 و1919، وبعد أفول نجم الدولة العثمانية التى ظلوا تحت عباءتها نحو أربعة قرون.
بعد اكتشاف مقبرة الملك الذهبى «توت» والتهافت العالمى على فك شفرة حضارة مصر القديمة، أصبح شعار «مصر للمصريين «أكثر قوة. وأضحت الدعوة كى يدرس المصريون تاريخ الأجداد واقعا كسر احتكار الأجانب، خاصة الفرنسيين، لدراسة علم المصريات. وكان للأدب نصيب من تداعيات اكتشاف مقبرة الملك الصغير؛ حيث بدأ تيار لسرد روايات مستوحاة من التاريخ المصرى القديم.
........................
كانت أفكار رفاعة الطهطاوى اللبنة الأولى فى الكتابات التى تتحدث عن الهوية المصرية والاعتزاز بالشخصية الوطنية.
ثم جاء اكتشاف مقبرة الفرعون الذهبى فى ظرف زمنى مشتعل، فأصداء هتافات المصريين فى ثورة 1919 مازالت تتردد هنا وهناك، تطل برأسها بين زفرات إحباط بعدما عاد زعماء الحركة الوطنية من «فرساى» خالي الوفاض. وقد أيقنوا أن ما قيل عن حق الشعوب فى تقرير مصيرها مجرد شعارات جوفاء لذر الرماد فى العيون. لكن ها هو مليكهم القديم «توت» يرد لهم الاعتبار، ويؤكد أنهم أصحاب حضارة تستحق الاحترام والتقدير، لا التهميش والتقزيم.
حتى إن الصحف نصبت «توت»، بطلا شعبيا فى مواجهة الإنجليز، ومدافعا عن سعد باشا، زعيم الأمة؛ فنطالع على صفحات «اللطائف» المصورة فى عددها الصادر فى 29 يناير 1923، صورة مرسومة للملك توت وهو يجلس داخل تابوته مكفهر الوجه يصرخ فى وجه اللورد كارنارفون الإنجليزى، ممول حملة كارتر الأثرية، قائلا: «فهم شعبك الذى يدعى المدنية أن مصر كانت لاتزال عريقة فى المجد منيعة الجانب تحميها الآلهة وتثأر لها من الغزاة المستبدين، فاغسلوا الإهانة التى ألحقتموها بها، وأعيدوا زعيمها الأكبر وإلا استنزلت روحى ليحل عليكم السخط والنقمة إلى الأبد».
هيأ ذلك المناخ لمناقشة مفهوم الهوية المصرية خصوصا بعد سقوط الخلافة العثمانية 1924. فظهر تياران رئيسيان: «الأول تولى الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية لمصر، والثانى دعا لاستعادة الهوية المصرية القديمة. وهذا التيار تزعمه توفيق الحكيم وطه حسين وسلامة موسى وكتب طه حسين مناهضا فكرة ساطع الحصرى حول القومية العربية، مؤكدا: «أن انخراط مصر فى هذه الوحدة غير ممكن لأن الدين لا يصلح أساسا لها وإلا أصبحت الوحدة المزعومة وحدة إسلامية لا وحدة قومية وأصبحنا من جهة ندخل فيها شعوبا غير عربية وكذلك أصل السكان؛ فإن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربى بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء. ومصر اليوم هى مصر بالأمس أى مصر الفرعونية. المصرى فرعونى قبل أن يكون عربيا ولا تطلبوا من مصر أن تغير فرعونيتها».
تمصير «علم المصريات»:
كان أحمد باشا كمال، أول أثرى مصرى، يكسر احتكار الأجانب لدراسة الآثار المصرية، رغم أن الأثرى الفرنسى مارييت تصدى بقوة لتعيين أحمد كمال فى المتحف المصرى. فقد كان مارييت يريد أن يبقى وفريقه من العلماء الفرنسيين تحديدا أصحاب الكلمة الأولى فى كل ما يتعلق بالآثار المصرية. وكيف لا وقد كان يعد استكشافاته فى سقارة امتدادا لمجد فرنسا فى مصر. لكن أحمد باشا كمال ناضل من أجل دخول المصريين المجال، وسعى لدى الملك فؤاد لتعيين ثلاثة من المصريين فى المتحف المصرى كان بينهم تلميذه سليم حسن.
وكأستاذه، كافح سليم حسن من أجل تمصير «علم المصريات»، وجاء اكتشاف مقبرة الملك توت ليعزز ضرورة تدريس علم الآثار للمصريين.
الأدب الحديث يستلهم
تاريخ الجدود
لم يكن الأدب ببعيد عن تداعيات اكتشاف مقبرة الملك توت وما تلاها من اهتمام بسبر أغوار التاريخ المصرى القديم بكل فصوله، فلجأت الرواية إلى تلك الحقبة التاريخية البعيدة البكر لتستلهم منها، فقدم نجيب محفوظ: «عبث الأقدار» 1939، ثم «رادوبيس» 1943، و«كفاح طيبة» 1944.
ولذا لم يتردد سلامة موسى فى نشر الكتاب الذى تقدم به له نجيب محفوظ «مصر القديمة» وهو ترجمة لكتاب المؤلف الإنجليزى جيمس بيكى، والذى كان جزءًا من سلسلة كتب تعليمية تحت عنوان «لمحات عن البلدان». وكان الكتاب قد نشر عام 1916، وبينما كان محفوظ فى السنة الثانية بكلية الآداب قام بترجمة الكتاب عام 1932.
روائى آخر استلهم التاريخ المصرى القديم فى الحقبة نفسها،وهو الأديب عادل كامل الذى كتب هو الآخر عن إخناتون رواية «ملك من شعاع» 1943، ونال عنها الجائزة الأولى فى مسابقة مجمع اللغة العربية.
الملك وأهل المغنى
هام أحمد شوقى بالملك الصغير وكتب عدة قصائد عنه، مبينا كيف أنارت مصر القديمة الأرض بالحضارة حين كانت الدنيا فى ظلام دامس واقتبست روما وأثينا منها:
شَبابٌ قُنَّعٌ لا خَيرَ فيهِم
وَبورِكَ فى الشَبابِ الطامِحينا
فَناجيهِم بِعَرشٍ كانَ صِنواً
لِعَرشِكَ فى شَبيبَتِهِ سَنينا
وَكانَ العِزُّ حُليَتَهُ وَكانَت
قَوائِمُهُ الكَتائِبَ وَالسَفينا
وَتاجٍ مِن فَرائِدِهِ اِبنُ سيتي
وَمِن خَرَزاتِهِ خوفو وَمينا
لكن أطرف ما حدث هو أن الملك توت أصبح نجم الأغنية الشعبية فى مصر فتنافست أهم مطربتين آنذاك على الغناء للملك توت:
> الأولى:الست منيرة المهدية «1885 ــ 1965» سلطانة الطرب، التى أنشدت فى نوفمبر 1922 من كلمات يونس القاضى وألحان القصبجى:
ما يجيش زيى إن لف الكون
واحنا أبونا توت عنخ آمون
وتقول مخاطبة الإنجليز:
وليه تزيد أنت عليا
وبلادى مهد الحرية
ومصر أم المدنية
واحنا أبونا توت عنخ آمون
المطربة الثانية: نعيمة المصرية «1894-1976»، التى كانت زعيمة الأغنية الوطنية فى عصرها بامتياز بعد أن وجد سيد درويش فى صوتها ضالته المنشودة.وكانت الست نعيمة «ملكة الأسطوانات» عند حسن ظنه، فتحدت معه الإنجليز حين غنت الأغنية الشهيرة «يا بلح زغلول» حين كان النطق باسم سعد باشا جريمة يعاقب عليها الاحتلال.
وبمجرد أن غنت الست منيرة المهدية أغنيتها عن الملك توت، كان على نعيمة المصرية أن تدخل حلبة المنافسة. وردت على منافستها الست منيرة بطقطوقة مثيلة عن توت عنخ آمون، يقول مطلعها:
قوم هات لى بدلة تكون
لونها بديع توت عنخ آمون
الله عليها مالهاش مثيل
رابط دائم: