-
«الزناتى خليفة» كان يركب فرسه وسنه تسعون عاما ليحارب الهلالية
-
-
الأسطورة «عقيدة لا يتطرق إليها الشك عند أصحابها» فإذا لم تؤمن بها فلا تقل إنها خُرافة أو كذب لأنها حقيقة عند أصحابها
-
-
«الزناتى خليفة» كان بطلا نادر المثال يعطى بلا مقابل.. وشجاعته دفعتنى لجمع روايات السيرة بشغف شديد
-
-
الشعراء الذين ينتهكون الأسطورة تجد شعرهم بلا طعم ولا متعة عكس «أمل دنقل»
-
-
دورة الإله القادم من معبد الكرنك ليزور زوجته فى معبد الأقصر هى مسار رحلة «أبى الحجاج» الذى التقى الراهبة تريزا وتزوجها
-
-
البطل يولد مع «الغُلب» والفقر والغُربة والهزيمة والضغوط فيخرج غريبا ويقاوم ثم ينجح ويعفو عمن ظلموه
يندر أن تجدّ روحا صافية كقطر الندى مثله أو قلبا صادقا يناصر الحق بثبات ودِعَة دون مزايدة على المخطئين سليل الشيخ «أبى الحجاج» الذى تفتحت عينه على مسجد جده فى حضن معبد الأقصر، يجاور كنيسة السيدة تريزا التى تزوجها، ليجسدا عبر الزمان والمكان رمزا وحيدا من نوعه لتماهى الحضارات على ضفاف النيل.
مزج جده أطياف العشق الإلهى بروح المعبد المصرى القديم وغمسها بسماحة المسيحية فمنح حفيده نفسا طيبة لا تشوبها كراهية ولا بغضاء وتمقت الإحن، ليعانق وجدانه الصوفية، فلم يعد يحتمل غير محبة البشر، وتلمس الأعذار للنادمين. «إن لم يكن ذنب ففيم المغفرة»!!.
عشق العربية وأتقن خفاياها، واجتذبته الأساطير فتعقبها ليفضّ ما أحاطها من التباسات، وتأمل تجلياتها فى الرواية والشعر وضروب الإبداع. وفتنه المسرح فدرس جمالياته وبحث تاريخه، وكتبه، وكوّن رؤية واسعة فيه، ونادته السير الشعبية فهام بها، وساح فى دروبها، متمنيا ألا يعود، وأن يبقى بصحبة عنترة عند تشبيبه بعبل،ومفتونا بـ «الزناتى خليفة» البطل التسعينى الهُمام الذى أرهق الهلالية بشدة على أعتاب تونس. وأغرم بالجازية التى أدارت المعركة، وحملت الأيتام، وحاربت وانتصرت وحمت أبا زيد الهلالى. وتوصل إلى أن السير الشعبية لم تُمجِّد يوماً سلوكا خسيسا. ليخرج من كل هذا بقانون «مولد البطل فى السيرة الشعبية» فكان أول من توصل إليه، ويهدينا تُراثاً بحثياً عامرا، وأفقاً ثقافيا فيّاضا.
التقيناه فكان معه هذا الحوار:

الرحيمى يحاور شمس الدين الحجاجى
ما أول المكونات الثقافية التى أثّرت فى روحك وشكّلت وجدانك؟
الأقصر المدينة التى نشأت وترعرعت فيها. وبذرتى الثقافية الأولى. وولدت بين جدران معبد الأقصر، فكان ملعب طفولتى. وصادفت فيه الأساطير التى تدور حول المعبد وقدماء المصريين والمتصوفة، ومسجد سيدى أبى الحجاج. الشيخ الكبير الذى حمل إلى الأقصر معانى العشق الإلهى.
بحكم القدم صار مسجد أبى الحجاج أثرا. وكذا الكنيسة، فهل ترى أن من حق أى حضارة أن تركب السابقة عليها؟
الحضارات تركب بعضها. ويصبح مع الوقت تجاورا وتداخلا فى النهاية. وإن كانت فى البداية تبدو استيلاء أو هيمنة، وإذا نظرت فى إنجلترا مثلا ستجد معظم الكنائس مبنية على معابد.
لا تعد وجود الكنيسة والجامع فى المعبد اعتداء على الحضارة المصرية القديمة. بل تراه تواصلا؟
المعبد ثقافته انتهت بعدما حوله المتدينون المسيحيون إلى كنيسة، ثم هدأت الثقافة المسيحية، وجاء المسلمون فحولوا الكنيسة إلى مسجد، لكن يظل العامل المشترك أن الناس يذهبون إلى المعبد والكنيسة والجامع للصلاة، وهذا تحول داخل الثقافة نفسها وليس اعتداء. وكذلك تحول جزء من معبد الكرنك إلى كنيسة، الذى يوجد فيه تمثال إيزيس وهى تحمل ابنها، كأنها السيدة مريم، فلا يمكن فصل الحضارة المصرية القديمة عن المسيحية أو الإسلام، بعد هذا التداخل، وتشابك وتداخل التراث الدينى، وحين نحتفل بمولد سيدى «أبى الحجاج» نلف حول مدينة الأقصر كلها فى دورة كاملة.
الدورة نفسها التى كانت فى مصر القديمة؟
نعم. دورة الإله القادم من معبد الكرنك ليزور زوجته فى معبد الأقصر، وهو مسار رحلة أبى الحجاج نفسه الذى التقى الراهبة تريزا وتزوجها كما قيل، ولما مات كان مدفنه مقابلا لكنيسة تريز، وجميعنا حين ندخل هناك لقراءة الفاتحة لجدى الشيخ أبى الحجاج وللراهبة تريزا، وهذا ما صنع حضارتنا ووطّد العلاقة الحميمة بين المسلمين والمسيحيين، والأقصر من أعظم المدن فى علاقة المسلمين بالمسيحيين. وأعود للقول إنها المكان الذى نشأت فيه، وأول مكون فى وجدانى وثقافتى، واستلهمت منه مفهوم الأسطورة.
ماذا تقصد تحديدا بالأسطورة؟
مشكلة الأسطورة فى المجتمع العربى أنها ارتبطت بالخرافة والأكاذيب، خاصة أن الأسطورة فى القرآن الكريم:«قالوا أساطير الأولين»، فتصور البعض خطأ أن أساطير الأولين مجرد أكاذيب، لكن فى الحقيقة أنها تعنى أديان الأولين، ومن لا يؤمن بأديان الأولين يعتبرها كذبا، كما فعل «النضر بن الحارث»، حين قال لأصحابه:«سأقول لكم خيرا مما يقول محمد، إنه يقول أساطير الأولين» وحكى لهم قصة التكوين أو الوجود الزرادشتى، ومن هنا حملت أساطير الأولين معنى الكذب عند العرب.
وفى أثناء وجودى فى كوريا تحدد لدى مفهوم الأسطورة بعد مقابلة أصحاب معتقدات متعددة، من عُبّاد الشجر وبوذيين ومسيحيين،وأدركت أن الأسطورة لا تزيد على كونها عقيدة صادقة عند أصحابها، وترتبط بالتكوين والوجود والمصير، بمعنى كيف وجد الكون، وماذا صنع بعد وجود الكون، وما هو مصيره بعد الموت؟. وخلصت إلى أن الأسطورة «عقيدة لا يتطرق إليها الشك عند أصحابها»، فإذا لم تؤمن بها فلا تقل إنها خرافة ولا كذب.
رجعت إلى القرية إذاً بفهم جديد وواضح للأسطورة؟
أطروحتى للدكتوراة كانت عن «الأسطورة فى المسرح»، وأصدقك القول إن معنى الأسطورة لم يكن واضحا فى ذهنى عند تسجيلى الدكتوراة، ما جعل د. عبد الحميد يونس يقول لى إننى سلكت طريقا وعرا، لكنى تغلبت على مشكلة عدم وضوح المعنى بعدما أيقنت إننى أمام دين أو معتقد. فضلا عن اكتشاف آخر بعد عودتى من كوريا وهو أن المسرح ليس فنا مستقلا بذاته ولكنه ابن التراث الشعبى.
توصلت لهذا المعنى فى أثناء جمع مادتك للدكتوراه؟
المسرح «فرجة»، والمعتقد الذى ولّد المسرح فى مصر القديمة فى ظل حكم اليونان هو «إله الخصب»، إيزيس وأوزوريس وحورس وكلهم آلهة خصب، والناس خارج المعبد جزء من الطقس، لكننا فى مصر لم نصل إلى المسرح المنفصل. بعكس أثينا التى توصلت الى فكرة المسرح المنفصل بسبب ما يسمى الديمقراطية، وعدم وجود قيود دينية كما فى مصر، التى لا يستطيع أحد فى ظلها أن يخرج عن الطقس الدينى السائد فى الشارع. وراودنى سؤال. لماذا لم يوجد عندنا مسرح؟
ألم تكن حركة الجموع فى أثناء القداس، والموسيقى والغناء، وأداء الكورال الجماعى للتراتيل مسرحة للطقوس، بصيغة أسبق من اليونان؟
هى أسبق، لكننا لم نصل لفن المسرح بمختلف تفاصيله، وكنا فقط نؤدى طقسا دينيا مهما تنوعت الأداءات. وفى فترات لاحقة ولد مسرح خيال الظل، والأراجوز، لكنه لم يتطور لانعدام الديمقراطية، شرط تطور الفن المسرحى.
متى اجتذبتك إذن السير الشعبية؟
قبل إنجازى الدكتوراه صدرت مسرحية لألفريد فرج عن الزير سالم، وبالرجوع إليها وجدتها جعلت الزير سالم بطلا مصريا يعيش فى التبين أو تلبانة، فأعددت بحثاً حول ما لم يعجبنى فى المسرحية، لأنها وقعت فى نفس الخطأ الذى يقع فيه المسرح المصرى، باعتمادها على السرد والحكى وشرح الأحداث لدرجة وجود شخص يشرح حكاية الزير سالم لمدة 15 دقيقة، فكيف يحتمل الجمهور الحكيّ الممل، فالمسرح المصرى لا يؤدى الأدوار، بل يحكى الأدوار وهو عيب قاتل، وهو ما جعلنى أحس أن عالمى هو الأسطورة، التى بدخولها انتقلت من المسرح إلى الرواية.
متى كان هذا التحول؟
فى أثناء وجودى فى كوريا. اشتغلت على «موسم الهجرة إلى الشمال» لـ «الطيب صالح»، وبعدها «دومة ود حامد»، و«عرس الزين»، التى أعجبتنى، وخلال وجودى فى أمريكا طلبوا منى أن أُدرِّس فى قسم الأديان مادة عن الدين والحياة، فدرّست «عرس الزين»، و«قنديل أم هاشم»، و«ألف ليلة وليلة»، وبحثت بدأب عن الأسطورة فى تلك الأعمال فوجدت فى أسطورة التصوف العالمى «عرس الزين»، وأسطورة «القنديل» لدى «يحيى حقي»، وأسطورة البطل فى «ألف ليلة وليلة». وكتبت بحثاً بعنوان:«الطيب صالح صانع الأسطورة»، والمحاضرات التى ألقيتها تلك صارت كتابا ووجد صدى واسعا لدى القراء. وبعد عودتى إلى مصر قدمت للقارئ شغلى عن الطيب صالح. ثم انتقلت للبحث عن الأسطورة فى أعمال «نجيب محفوظ».
تكرار كلمة أسطورة فى أعمال الطيب صالح ويحيى حقى هل له دلالة محددة، وما الذى جعلك تتعقبها فى تلك الأعمال الأدبية؟
تعقبتها لأنى أحب الأدب، ورغم تخصصى فى المسرح إلا أننى انشغلت بالأسطورة التى بحثت عنها فى الأدب خاصة المسرح والشعر، وقناعة الشعراء بالأسطورة التى تعنى المعتقد تباينت كثيرا، واختلف موقفهم تجاهها، فصلاح عبد الصبور كان رافضا للأسطورة فى بداياته وديوانه الأول، وفى ديوانه الثانى اقترب منها إلى حد ما، لكنه ارتمى فى أحضانها فى ديوانه «أحلام الفارس القديم» فازداد شعره عذوبة وجمالا، لكنك تجد كثيرا من الشعراء ينتهكون الأسطورة، فتجد شعرهم بلا طعم ولا متعة، لأن الشعر ابن الأسطورة والإلهام، وأمل دنقل مثلا كان شاعرا ذكيا امتلأ شعره بالأسطورة فزاد رونقه وبهاؤه، بعكس شعر عبد المعطى حجازى الذى ظل بعيدا عن الأسطورة، ومعظم الشعر الحديث دون الإبداع لبعده عن الأسطورة باستثناء محمد إبراهيم أبو سنة..
والمسرح الشعرى كذلك؟
المسرح الشعرى لم يشهد تطورا ملحوظا فى جانب الأسطورة، بعكس الحسّ الدرامى فى السير الشعبية فنجده عاليا جدا، كما أن الحب فى السير لابد أن يواجه أزمات حتى ينتصر، كما حدث مع عنترة وأبى زيد الهلالى، فعنترة لم ير أن مائة ناقة مهر غالٍ علي محبوبته عبلة.
وما أعمال نجيب محفوظ التى درست الأسطورة فيها كما أشرت؟
أولها «أولاد حارتنا»، حيث حاسبوه وكأنه تناول حياة الأنبياء (موسى وعيسى ومحمد) من وجهة نظره الخاصة، وعمل بناء موازيا للأنبياء فى حياة الناس، وخلص فى روايته إلى أن الحل يكمن فى العلم، خاصة بعدما حكم الفتوات البلد، ولم يعد ينفع معهم دين، فكان المُخلّص الحقيقى هو العلم. ثم انتقلت إلى الحرافيش، وبعدها اللص والكلاب، وأدركت أن هذه الروايات الثلاث امتداد لبعضها، فاللصّ والكلاب امتداد للحرافيش، فهى لقطة لحياة هذا اللص، وبدراسة الحرافيش أحسست بسيطرة الأسطورة على الناس، التى تتمثل فى الفتوّة، فهو السيد الذى تصلح الأمور بصلاحه وتفسد بفساده، حتى جاء آخر فتوة وقرر أن الجماعة هى القائد، ولا يوجد فتوة فرد يقود، ومن ثم أخذت الأسطورة منحى جديدا، وهو ما يفسر وجود كل عناصر الخير والشر فى الأسطورة، ويبرز فيها العالم الُمحرّك للجماعة.
متى انتقلت إذاً إلى دراسة التراث الشعبى وانشغلت بالسير الشعبية؟
بعدما عدت من أمريكا ذهبت إلى الأقصر، جذورى الأولى، وبدأت بجمع السيرة الهلالية التى عُرفت بها، وعُرفت بى، وكلما حضرت فرحا ينشد لى المُغنِّيِ مقطعا من السيرة الهلالية، أو الزناتى خليفة احتفاء وتحية لى.
ما أكثر ما استوقفك فى السيرة الهلالية؟
لفت انتباهى جدا أن «الزناتى خليفة» رجل عايش «الغلب والحرمان»، واستوطن بلده وكان يزوره آلاف البشر، حيث وجدوا فيه المُخلّص من الظلم والاضطهاد، وكان الزناتى شجاعا مقداما رغم كبر سنه، ففى التسعين من عمره كان يركب فرسه ويدور على أسوار المدينة، فى الفجر يكون على أسوار تونس يحارب الهلالية طوال 14 سنة، لم يكل رغم عدم وجود نصير له (لا عم ولا خال) بجانب معاداة أهله له رغم دفاعه عنهم! المعنى أنه كان بطلا نادر المثال، يعطى بلا مقابل، وشجاعته دفعتنى لجمع روايات السيرة بشغف شديد.
إعجابك به لأنه كان بطلا يقاوم الهلالية المأجورين لمحاربة تونس أم لسبب آخر؟
نعم. الهلالية كانوا يحاربون من أجل سلب تلك الأرض، فوقف الزناتى بوجههم سدا منيعا، وظل يقاتلهم 14 عاما دون أن تفتر له همة، فأحسست أننى أمام بطل عظيم، وإبداع رائع، هو «فن السيرة الشعبية» التى تحتاج إلى قانون يحكمها ويحدد ملامحها، مثل الإلياذة والأوديسا، وللملاحم قانون، خاصة بعدما شاع بيننا خطأ أن السيرة الهلالية ملحمة، والحقيقة أن السيرة أكبر من الملحمة، فعندما تتجزأ السيرة تكون عدة ملاحم، والهلالية تتكون من أربع ملاحم. ملحمة الأبطال وتكوين الدولة، ثم ملحمة الصراع، ثم ملحمة التغريبة، وأخيرا ملحمة المواليد. فرأيت أن أضع قانوناً لكيفية تكوّن البطل فى قصص المسرح والحكايات، فوجدت أنه يتطلب أن يعيش غريبا، ويعانى الفقر، والظلم والاضطهاد، ويعادى أهله، ثم ينتصر عليهم، ويفرض نفسه وفكره، فيعترفوا به، ويتزوج ويتسيّد، وهو ما ينطبق على كل السير الشعبية.
كنت أنت أول من توصل لهذا القانون، وضمّنته كتابك «مولد البطل فى السيرة الشعبية»؟
كثيرون تحدثوا عن ملمح أو أكثر حول البطل، لكن هذا القانون بأطره المحددة هذه، أنا الذى وضعته.
وصلنا إذا إلى «ميلاد البطل» فى السير الشعبية. فما أبرز ملامحها؟
البطل يولد مع «الغُلب» والفقر والغُربة والهزيمة والضغوط، فيخرج غريبا ويقاوم وإذا نجح يكون بطلا، أى أنه صنيعة الشدة والقهر، مثل النبى صلى الله عليه وسلم، وهو ما يؤكد أن السيرة النبوية هى أساس السير الشعبية، فالرسول انطبقت عليه كل قوانين السير الشعبية من حيث مولده يتيما فقيرا، أخذته مرضعة فعاش الغربة منذ نعومة أظافره، ثم جاءت مرحلة النبوة والاضطهاد من قومه، والهجرة، ثم العودة منتصرا، ثم الصفح والعفو والسيادة، الأمر نفسه ينطبق على عنترة العبسى.
وهل تبتعد رواية «سيرة الشيخ نور الدين» عن قانون السير؟
فى مرحلة الثانوية كنت قارئا نهما للأدب، ففكرت فى كتابة رواية عن أبى متأثرا بالسير الشعبية، بعدما وجدت أنه تتوافر فيه كل قوانين السيرة هو أيضا، حيث عاش حياة الفقر والحرمان فكان ابنا لجد فقير لا يملك من حطام الدنيا شيئا، وتعلم فى الأزهر بالقاهرة، وعاد ليعمل مدرسا وحوّل ضعف جدى إلى قوة، والمعنى أن أبى كان بطلا مثل أبطال السير الشعبية، فقد كان عزيز النفس، محبا للخير، خادما للناس جميعا.
كانت هذه الرواية أول أعمالك الإبداعية؟
كتبت قبلها قصصا كثيرة وفشلت لأننى كنت أقارنها بأعمال نجيب محفوظ، والمقارنة به ظالمة لأى كاتب. لكنى ظللت أكتب فى رواية «سيرة الشيخ نور الدين» 15 سنة، كلما سنحت لى فرصة، كتبت بعضها فى أمريكا، وأعدت صياغتها لاحقا، ولما عدت إلى مصر، أتممتها فى الأقصر، وشعرت آنذاك بأن آلامى تبددت، فكنت مؤمنا إيمانا جازما بأننى أعيش حلما جميلا استيقظت منه فإذا بى أجد هذا العمل الأدبى.
لكن الرواية لم تكن جزءًا من مشروع أدبى؟
لم تكن جزءا من مشروع أدبى، فقد خرجت بلا قصد، وكانت تعبيرا عن حبى الشديد لأبى، الذى أحبه كل من عرفوه، لكنى بعدها كتبت مسرحية «الخماسين» وهى قصة عن عمى وكان شيخ البلد، لكنها لم تجد صدى نور الدين، وأذكر أنها عُرضت فى «أبو تشت» ولقيت إعجابا جماهيريا وحضورا لا بأس به.
كيف حافظت على الشروط الفنية للرواية وتفاديت اختلاطها بالسير الشعبية؟
لإيمانى بالسيرة ومعرفتى بقوانينها التى تضمن تميزها، وفهمى لفن الرواية وشروطها الفنية، لذا كنت واعيا لمزج الشفهى والمكتوب دون خلط، وقد واجهت تلك الرواية مشكلة حين تحولت إلى مسلسل وعرض على شاشة التليفزيون، فبعدما لقيت قبولا وصدى واسعا، منع التليفزيون عرضها لاعتراض أحد شيوخ الأزهر عليها بزعمه أنها مسيئة للمشاهد، وهى تتكلم عن التصوف ومكارم الأخلاق، والحقيقة أن سبب منعها أن بشير الديك أضاف مقطعا لأحد الأعيان بالأقصر باعتباره صانع خوص، وابنه من ذوى النفوذ بالأزهر فتدخل لمنع الرواية من العرض.
وبعد كل هذا، ما الذى جذبك للأرواح والأشباح، وما أهم الحكايات التى جمعتها فى هذا السياق؟
بسبب هيمنة تلك المعتقدات على عقلية الناس فى الأقصر، فقد عملت استبيانا سنة 57 عن مدى تأثر الناس بتلك الأشياء، وخرجت بنتيجة مذهلة. أن عالم الأشباح ضخم ويستحوذ على أغلبية البسطاء. وقد سألت رجلاً فقيراً يبيع البرسيم عن الجن فأبدى فزعه وهلعه لمجرد السؤال، ومن الحكايات التى جمعتها قصة عن رجل يدعى السيد يوسف مات 1914، وفى زمانه ضرب أحد الناس كائنا فمات، وكان جِنيّاً، فاجتمعت الجن لتنتقم من ذلك الرجل الذى دافع عنه السيد يوسف وحارب الجن، ومن المعتقدات أن الميت له روح وتخرج تنتقم ممن أذاها فى الدنيا، وغيرها من الحكايات التى جمعت سنة 67 أيام النكسة.
عودة للمسرح والسيرة الهلالية. فهل ثمّة تشابك أو تداخل بينهما؟
السيرة الهلالية وغيرها من السير من أنواع المسرح الشعبى، فالمسرح بنى على السير، فسيرة عنترة بن شداد، والزير سالم، والسيرة الهلالية كلها اعتمدت على الموروث الشعبى.
كثرة الروايات الشفهية وتنوعها عكس قدرة المخيلة الشعبية على الابتكار؟
الرواية الشعبية بنت بيئتها. فالروايات التى تعتمد على المخمّسات والمربّعات والمسّبعات من الشعر الحر لا تخضع لقالب فنى ولابحر شعرى، وحملت السير الطابع الشعبى والصراع القبلى، فالراوى الشعبى له أعظم الأثر فى تهدئة الأجواء أو اشتعالها، فإذا ذهب إلى بلد فيه ثأر يغنى أغانى عن الحب تخفيفا للاحتقان، وإذا أنشد فى بلد لا توجد به صراعات على الثأر يغنى براحته عن الحروب والمعارك، وهناك رواة شعبيون رائعون مثل الشاعر الشعبى فتحى سليمان، والسيد حوّاس.
ألا ترى أن مصادفات السير الشعبية كلها مختلقة؟
الفن كله مُختلق لا شك وليس السير وحدها، فأبو زيد بذل الغالى والنفيس من أجل ناعسة التى كانت مطمعا للجميع خاصة السلطان حسن ودياب، فنجد أحداثا متشابكة ومتداخلة داخل السير، وهى ما يحفظ لها الثبات فى الوجدان.
من خصائص السير الشعبية أيضا تكرار الصراع. فما سرّ تلك التيمة؟
نعم السير مليئة بالدراما حتى فى الحب، وهذا ما نلمحه فى قصص زواج «أبو زيد» و«السلطان حسن»، كما نلمح إجادة الحروب وفن القتال حتى بالنسبة للمرأة، فجُلّ بل كُل النساء فى السير الشعبية محاربات من الطراز الأول، وهو عكس المرأة اليوم، فلا قيمة لها إذا قورنت بامرأة السير الشعبية، والمثير للفخر أننا الأمة الوحيدة التى لها سير باسم المرأة، انظر شخصية الجازية، التى أدارت المعركة، وحملت الأيتام، وحاربت وانتصرت وحمت «أبو زيد الهلالى»، فالسير الشعبية احتفت بالمرأة والحب والغزل ومدحت الجمال والقيم الرفيعة، ولم تُمجِّد مطلقا سلوكا خسيسا بل حطت من كل تصرف وسلوك غير سوى.
هل ألف ليلة وليلة أسبق من السير؟
لا أقول أسبق من السير، لأن ألف ليلة وليلة لم تكتمل، وأدخل فيها الخيال المصرى قصصا ليست منها، وهى بنت السير الشعبية مثل الزناتى خليفة، وعلى الزيبق وراس الغول وغيرها، والملاحظ أن هناك علاقة وثيقة بين الزناتى والإلياذة، فـ هيكتور بطل الإلياذة نفس شخصية الزناتى خليفة، وهذا يثبت أن المخيلة الإنسانية عامة متصلة بين مختلف الحضارات، وتتأثر ببعضها، وتستلهم من الحكايات والأساطير هنا وهناك، تماما مثل تلك العلاقة بين السيرة الهلالية والإلياذة.
من تحب من رواة السير؟
كثيرين، منهم حواس وشاعر عرفته ولكنه لم يكن مشهورا يسمى عوض عبد الجليل ومشكلته أنه كان يتسول بالسيرة. والسيرة الشعبية كانت مرتبطة لدى أغلب الناس بشهر رمضان، فكان شاعر الربابة يسرد السيرة خلال الشهر المبارك، ونلتف حوله فى ساحة واسعة أو أحد المقاهى قبل ظهور التليفزيون الذى قضى على الاحتفالات الشفهية وبطلها شاعر الربابة بصوته الجميل وسرده الشيق. وقد قمت بتقسيم الأدب العربى إلى عصور: الأول «الغنائي» ويشمل الجاهلى والإسلامى، والثانى عصر «القصّ» من الإسلامى حتى نهاية العصر العباسى الأول، وشمل فئات عدة منها المفسرون الذين هم فى حقيقتهم قُصّاص مما يبرز أهمية القصة فى حياة الناس، يلى ذلك عصر «السيرة الهلالية وذات الهمة»، بعدها عصر «التمهيد للمسرح».
رابط دائم: