شتاء هذه السنة كان شتاءً عاصفًا، حتى الأشجار والكلاب كانت ترتجف. النار لا تبعث على الاطمئنان بقدر ما تشيع الخوف، المطر ينهمر ليلًا ونهارًا ولا يكف عن تبوله فوق الرؤوس. غياب الشمس كان يصنع فى النفس حزنًا لا يعبر عن ذاته، وبالضرورة لا ينتهى. الجميع متوجس لسبب ما، على الوجوه دهشة، أو ربما لا مبالاة. شيء يشبه التثاؤب أصاب الجميع. العصافير لا تكف عن الرغى.
فى آخر الشارع أراه كل يوم جالسًا داخل كوخ صنعه من علب الكرتون، يضحك من غير تصنع أو زيف، غير أنه يضحك لسبب لا أحد يعرفه. لا يبدو على قسمات وجهه الجنون، لا أراه ينظر إلى آفاق بعيدة أو يتحدث فى الفراغ، أو يركب الهواء. فقط هو يضحك لسبب غير معلوم، هذا كل ما فى الأمر. كان المطر ينقر على علبة من الصفيح بجانبه ويصدر صريرًا. كل هذا فى الوقت الذى انتابتنى فيه رغبة ملحة ومتوحشة فى الكلام إليه، كانت رغبة يصعب ترويضها.اقتربت منه، كانت المرة الأولى التى أراه فيها على مقربة؛ لحيته طويلة ومتشابكة، شاربه كث متدلٍ على شفتيه، منخاره يزمجر مثل صافرة قطار، عيناه حجريتان كعينى دمية، شفتاه غليظتان شهوانيتان، سترته مهترئة،بنطاله مرقع مثل قاعدة الشطرنج.
اقتربت منه وهو يعبئ غليونه القديم بالتبغ وبقايا عشب الذرة، أشعل فيه عودًا من الثقاب ثم سحب نفسًا عميقًا ونفخه ببطء. ارتبك قليلًا عندما رآنى، ولكنه سرعان ما بدا متجاهلًا وجودى. بحثت عن صوتى حتى وجدته، وسألته بصوتٍ خفيض أشبه بأنين الخرس:
«هل تحلم مثلنا؟»
أجابنى من دون تفكير وكأن الكلام خلق فى حلقه بغتة:
«أضعت كل أحلامى ما عدا واحدًا».
«هل لى أن أتطفل وأعرفه؟»
سألته.
«معطف. أحلم بمعطفٍ جديد».
أصابتنى دهشة، توقعت أن يكون حلمه بيتًا، أرضًا، سيارة، رحلة فى الصحراء،امرأة يبادلها الرعشة، لكن معطف؟ هذا الرجل أضاع حلمه، لا بل خلط بين حلمه وأبسط حقوقه فى الحياة.
«معطف؟ كل ما تريده معطف جديد؟»
سألته بغيظ.
سحب نفسًا أكثر عمقًا من غليونه ونفثه فى وجهى من غير اكتراث، وطلب منى أن أعطيه معطفًا. تنهد بعمق مثل الغارق، ثم قال:
«نعم أريد معطفا.
«هل تعرف ماذا يعنى معطفٌ لي؟»
تجاهلت سؤاله ولم أنبس بكلمة، فاستطرد قائلًا:
«معطف يعنى لى وطنا، يعنى أن عندى ما أعيش لأجله».
تمتمت بنفاذ صبر:
»معطف يعنى وطن؟ يعنى أن أعيش؟ ما هذا العته؟ وهذه السطحية؟»
قاطعنى متسائلًا:
«هل عندك ما تعيش من أجله؟»
«نعم، عندى امرأة أطارحها الفراش كل ليلة، وأملك بيتًا اشتريته بالتقسيط من البنك، ووظيفة، ولدى فتاة جميلة وُلدت منذ سنتين».
«تافه».
تافه؟»
قلت له.
«هل تقصدنى أنا يا سيدي؟ هل تتهمنى بالتفاهة؟»
سألته بعصبية، كنت على وشك الانفجار.
نظر إلى وكأنه ينظر فى سماء فارغة، وتكلم كالذى يكلم الهواء:
«الاستغراق فى المسائل الكبري؛ كأن يكون عندك امرأة تطارحها الفراش وتملك بيتًا أو أرضًا، أو حتى عبيدًا، كل هذا تعمق فى السطحية ونفخ فى الفراغ.
ألَّا تملك شيئًا هو أنك تملك كل شيء. وحدها التفاصيل الصغيرة فى الحياة ما يجب أن نعيش لأجله. ديكارت فى تأملاته؛ تلك التأملات التى كانت بجوار المدفأة، هل تعرفها؟»
هززت رأسى فبدأ يسترسل من جديد:
«تلك التأملات التى بدأ فيها من نقطة الشك فى كل شيء، حتى فى نار المدفأة، ووصل فى نهايتها إلى صرخته الأهم: «أنا أفكر إذن أنا موجود!» كل هذا كان هراءً. كان لابد لديكارت أن يتمتع بنار المدفأة، كان عليه أن يطعمها من الحطب الجاف ويقضى تلك الليلة وهو يدندن بالموسيقي».
كان الرجل ما يزال يثرثر وينفث فى غليونه وأنا كالغريق، تركته. وبعد أن انتبه أننى فى منتصف الطريق، صرخ قائلًا:
«هل عندك معطف لي؟»
قلت له دون أن ألتفت:
«نعم، وفى الغد سأحضره لك، وسأنام اليوم بجوار المدفأة وأطعمها من الحطب الجاف».
رابط دائم: