رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة.. يكتبه: مفرح سرحان
حتى لا تهاجر العصافير

مفـرح ســرحان

كانت المرة الأولى التى أشعر بأن قلبى تتعلق دقاته بعقارب الساعة، فى الشرفة انسحب ضوء النهار، وتسلل الليل إلى شارعنا الضيق بظلام قبل موعده، أمشى متثاقلة إلى الشرفة، فلا أجدها فى نهر الطريق، وأظل أتفرس وجوه العابرين حتى تمسح عيناى الشارع إلى آخره، دون أن يأتى عنها خبر.

أعود إلى شاشة الهاتف، أعاود الاتصال بها، فتأتينى الرسالة المسجلة بصوت لا يرحم قلقي: «الهاتف الذى طلبته قد يكون مغلقا أو خارج نطاق الخدمة».

كانت المرة الأولى التى حل فيها الظلام كاملا من دون خيط ضوء واحد، ثم اغتالت عقارب الساعة روحى حتى بلغ الليل ثلثه الأخير ولم تأتِ بعد، إلى أن غلبنى النعاس والدموع خلف باب البيت.

فى المرة الأخيرة، التى حدثت قبل أيام، عادت فى ساعة مبكرة من الصباح، استجمعتُ قواى لألقنها الدرس جيدا، فأشاحت بوجهها الشاحب وعينيها الغارقتين فى هالتين سوداوين عنى، وسبقت ضعفى بخفة حركتها إلى الغرفة وصكت بابها.


 

فى الأحياء الشعبية ليس كل الزحام جيدا، نحن نشعر بالاطمئنان لأن هناك أناسا كثيرين يجلسون فى الشرفات وعلى الأرصفة وأمام المحلات، وتتبادل السيدات الحكايات والتحايا من النوافذ والسطوح، كل ذلك يبدو جيدا ما دامت الأمور بخير، وهو ما لم يحدث فى حالتى التى صار جو الألفة فى الحارة الشعبية لها خانقا، وأعين الجيران سهاما تخترقها، وألسنتهم -حتى فى صمتها- تطرح أسئلة كثيرة وتلوك ألغازا، لا أملك تفسيرا للغز، ولا إجابة لسؤال منها.

ابنتي.. الحب الوحيد والوجع الوحيد، جعلت من الحياة، التى كنت أستمتع بكل تفاصيلها، فصولا من العذاب والحيرة، كنا صديقتين منذ كانت تلهو بألعاب الطفولة، وتتهجى الأسماء بصعوبة، راقبتها وهى تكبر أمامي، حتى خرطها خراط البنات، فتحولت إلى فتاة غريبة فى بيتي، لسانها لم يعد يألف الكلمات الرقيقة العذبة التى طالما تعودت عليها، فى البداية حاولت أن أقنع نفسى أن اللهجة المتحمسة الذكورية التى طرأت عليها تتخذ منها درعا لحماية فتاة وحيدة تخرج إلى الشارع وتتعامل مع سلوكيات غريبة من سائقى التوك توك والميكروباص وكذلك من زملائها فى الدراسة، لكن تلك المستجدات كانت تأخذها بعيدا عن أنوثتها، وانعكست على تعاملاتها معى فى البيت، فلم تعد الفتاة التى ربيتها.

قبل 17 عاما، احتفلت أنا وزوجى بولادة عالمنا الجديد الذى حملته إلينا طفلتنا الأولى والأخيرة، كنا قد فقدنا الأمل فى أن ننجب، بعد سنوات من البحث عن بارقة أمل فى عيادات الأطباء ووصفات العطارين، حتى توقفت عن السعى إلى تحقيق تلك الأمنية، واعتبرت أن كل التلاميذ الذين أبذل لهم وقتى ومحبتى أبنائي، لكن الله كافأ صبرى بعطاء فاق أمنيتي، ورزقنا بها وقضينا حتى عامها العاشر حياة هانئة انطفأ نورها بمصرع زوجى فى حادث سير.

أضحيت أنا اليتمية من دون الرجل الذى كان يسندنى ويسترني، قررت أن أكون الأب والأم لابنتى الصغيرة، لم تفارق يدى لحظة، من لطف الأقدار أن المدرسة التى أعمل بها لا تبعد سوى أمتار قليلة عن منزلي، لذا لم أجد صعوبة فى التوفيق بين العمل وتربيتها، وأوصدت الأبواب أمام كل رجل حاول الارتباط بي، لأنى وهبت حياتى كلها لابنتي.

جاوزتُ العقد الخامس، والتحقت ابنتى بالجامعة فى التخصص الذى اختارته، لم أضيق عليها فى شيء، منحتها الحرية بالقدر الذى يتيح لها أن تعيش سنها دون أن ينال ذلك من صورتى أمام الحى الشعبى الذى نعيش فيه، ولأبقيها بعيدة عن انتقادات عائلة أبيها وكذلك عائلتي، وساعدتنى ظروفى المالية المتيسرة على أن أوفر لها كل ما تحتاجه من نفقات.

انتظرت أن تكافئنى ابنتى لما أبذله من تضحيات لأجلها، لكنها لم تفعل، فوجئت بها تتأخر كثيرا عن البيت.. تغلق باب غرفتها وقلبها فى وجهي، وتتلفظ بألفاظ لا تليق، لم أعد أعرف عنها شيئا بعد أن كنا ندس رأسينا فى وسادة واحدة تستقوى كل منا بالأخرى.

عاتبتها برفق، حاولت التقرب إليها أكثر، فلم أجد منها غير النفور والتمرد على الحى الشعبى وأنها لن تكمل حياتها فيه، ذكرتّها أننا بلا رجل وأن الأعين ترصدنا وتتربص بنا، فأعرضت عنى غير مبالية. كانت الأيام تمر وهى تزداد بعدا عني، حتى بالغت فى تمردها، فتكرر منها إغلاق هاتفها والتأخر كثيرا، ثم المبيت مرة إثر مرة خارج البيت.

تتبعتُ خطواتها، فوجئت بأنها تقيم مع زميلات لها فى إحدى الشقق القريبة من الجامعة، عندما دخلت المكان كدت أختنق من دخان السجائر، والحالة التى تبدو عليها الفتيات من عبث، تحدثت إليهن كأم، فهالنى ما رأيت منهن: اللامبالاة والتمرد والتبجح وسوء القول وقلة الحياء، سحبت ابنتى من شعرها كالمجنونة محاولة العودة بها إلى البيت ، لكنها اتهمتنى بالتخلف وتطاولت عليّ أمام زميلاتها اللاتى اجتمعن لنصرة صديقتهن، شعرت بإهانة بالغة من فلذة كبدي، وخرجت مسرعة غارقة فى دموعى لا أرى الطريق.

تدهورت صحتى بعد أن أُصبت بالسكر والضغط، وأصبحت فى حيرة شديدة، لا أقوى على منعها من الخروج بملابسها الفاضحة، وهيئتها التى تغيرت تماما، ولا من عودتها متأخرة ومبيتها باليومين والثلاثة خارج البيت، ولا أحتمل سوء أدبها وسلوكها الفج وعصيانها الدائم وتطاولها على باللسان واليد إذا ما ثارت ثورتى فاضطررت لضربها، ولم أجد من مهرب سوى تجنبها ومقاطعتها، والآن أسمع كلمات مسمومة من جاراتي، وأقرأ فى عيونهن أسوأ مما سمعت، وأخشى فى الوقت ذاته اللجوء إلى أى من رجال العائلة ليعيدها إلى الصواب، فلا ينوبنى غير الشماتة والتجريح فى تربيتى والطعن فى سمعة ابنتى التى كنت حريصة طوال الوقت أن أبقيها بعيدا عن محيط العائلة قدر الإمكان.

مشكلتى يا سيدى أننى معلمة مشهورة بالحزم والتربية قبل التعليم، هذه الصفات أيضا يعرفها أهل الحارة ويقدرونها جيدا، ولذلك فإن المعلمة التى تعد أيقونة وقدوة لما ينبغى أن تكون عليه الأم فى بيتها، فشلت أمام الجميع فى تربية ابنتها الوحيدة، وعجزت أن تكمل مسيرة عائلة بلا رجل، بعد أن كنت أحظى بمهابة الرجال وعزيمتهم وحزمهم.. أخشى على ابنتى من خطواتها الهوجاء ورفقة السوء، وأخشى على نفسى أن أموت كمدا، فماذا أفعل؟

س.ع (الجيزة)

 

رفقا بنفسك يا سيدتي

هذه ليست مشكلتك وحدك، إنها مشكلة تعانيها أسر كثيرة، ونستقبل رسائل من تلك النوع يتألم أصحابها من أبنائهم الذين يتمردون على البيت الذى نشأوا فيه، وعلى الآباء الذين أفنوا أعمارهم ليصنعوا منهم رجالا صالحين، لكن الحقيقة أن رسالتك دفعتنى إلى نشرها لأن سبب الألم فتاة، ولعل تلك المرة الأولى التى تصلنى رسالة من هذا النوع، وعلى الرغم من ذلك أقول لك إن هناك فتيات كثيرات يهجرن بيوتهن، ويبحثن عن فضاء أوسع يتحللن فيه من قيود منظومة الأمر والنهى، خاصة تلك التى تحيط بالأنثى رغبة فى درء المخاطر عنها وحمايتها من طيش المراهقة.. فلماذا تحاول ابنتك هجرة العش الصغير الذى يسعكما ويؤنس وحدتكما؟

من الضرورى يا سيدتى أن تنتبهى إلى أمرين مهمين: أولهما، أن ابنتك التى لا تزال فى مرحلة المراهقة، تتجاذبها، كما تعلمين، تغيرات بيولوجية تنعكس على استقرارها النفسى وعلاقتها بمن حولها، هذه التغيرات ربما كانت فى أوقات سابقة محل سيطرة وضبط من أولياء الأمور، لكنها فى ظل ما توفر لهذا الجيل من مخترعات وتواصل فى عالم مفتوح بلا رقابة ولا ضوابط، أصبحت أسرع تأثيرا وأعقد نتائج من ذى قبل، الأمر الذى أصاب ابنتك بفقدان التوازن، والسعى إلى التحرر من مرحلة «الطفولة المثالية» لصغيرة لا تفارق أمها فى البيت والمدرسة والشارع، إلى مرحلة فوران متصاعد يريد أن يفعل أى شيء فى أى وقت، من دون أن يقول له أحد: هذا صحيح وهذا خاطئ.

أما الأمر الثانى الذى أود تنبيهك إليه، هو أنه نتيجة لفوضى العالم الجديد الغريب الذى نشأ فيه هذا الجيل، فإن مفهوم الحرية تعرض لانتهاك غير مسبوق، وتشوهت ملامحه إلى الحد الذى أخرجه من نطاق المسئولية إلى التمرد والعشوائية والتهور والتسكع واللامبالاة والتقليد الأعمى، فصارت الرغبة فى استقلال الفتيات عن عوائلهن موضة يتسابقن إليها، ولا يحسبن عواقبها الوخيمة التى يدفعن ثمنها غاليا فيما بعد.

وإذا ما أدركتِ هذين الأمرين جيدا يا سيدتي، نكون قد وقفنا على أرضية مناسبة، ويمكننا أن نطرق معا أبواب الحلول الممكنة، ولكن قبل ذلك يجب أن تكون ابنتك هى ما تخشين عليها فقط دون خوفك من الناس، وأن يكون دافعك فى إصلاح شئونها لأنك تريدينها فتاة تليق بأن تكون ابنة لمعلمة فاضلة، هو غايتك الأولى والأخيرة، فهذا شأنكما وحدكما ولا شأن لأحد به.

أنتِ امرأة تُربى فتاة فى بيت بلا رجل، لكن لا تنسى أنك معلمة تربى الرجال والنساء على حد سواء، وتحملين رسالة سامية تتطلب الصبر والمداومة على الإصلاح والتهذيب، ولنتعامل منذ الآن مع ابنتك كتلميذة ضعيفة الفهم بطيئة الاستيعاب لا تُبدى الاستجابة المأمولة لمعلمتها، فماذا تفعلين مع تلميذة من هذا النوع؟

بالتأكيد سوف تصبرين عليها، وتعيدين إفهامها ما استعصى عليها فهمه مرة واثنتين وثلاثا وربما أكثر، وبالطبع لن تضربيها لأنها لم تفهم سريعا، إذن فالقسوة هى الخطأ الأكبر الذى تقع فيه الأم إذا ما أرادت إصلاح ابنتها، لأنها تولد العناد والتعنت والاستمراء فى سلوكيات لا ترغبين فيها، ولذا فإن الحوار اللين الودود دونما ملل (مهما كان الخطأ) بلا إهانة ولا تقريع مستمر ولا انتقاصٍ من ذاتها، خطوة مهمة تجعلها مستعدة لقبول ما تستائين منه، والاستماع إلى أوجه الخلاف بينكما، ومن ثم تتهيأ لإدراك خطئها والرجوع عنه.

وبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقا عن مراهقة ابنتك وما تفرضه عليها من تغيرات، فإن الحياة التى سردتِ تفاصيلها أيتها المربية الفاضلة، تنطوى على رتابة وملل ودائرة مغلقة من الأحداث القليلة المتكررة يوميا بين العمل والبيت والخوف من توسيع تلك الدائرة لحماية امرأة وابنتها من «كلام الناس»، وهو ما جعل ابنتك تبحث فى دوائر أخرى أكثر اتساعا عن رئة تتنفس فيها وأشخاص آخرين تجد ذاتها معهم، ولذلك كان ينتظرها فتيات مثلها تماما : مراهقة وتمردا وهروبا مما يعتقدن أنه قيود من الأُسر وتضييق على الفتيات، فأفرغن كبتهن فى الألفاظ الخادشة والملابس الفاحشة والسلوكيات الفاضحة التى ترفضها تقاليدك، وأخيرا فى الشقة التى تجمع مراهقتهن المشتتة وأحلامهن المتمردة.

الحرية التى تظنين أنك منحتها لابنتك يا سيدتي، حرية مقيدة داخل إطار منغلق بلا زيارات عائلية ولا علاقات اجتماعية ولا صداقات كانت ستبقى تحت سمعك وبصرك، وكانت أيضا ستستوعب تقلبات المراهقة فى قرينات لها من محيط العائلة وفى رحاب الزيارات المتبادلة، فأنصحك بالخروج بابنتك من تلك العزلة الأسرية والتواصل مع أرحامكما، وربما تجد هى فى أحد أفراد عائلة أمها وأبيها من يكون لها قدوة تستمع إليه وتثق فى نصائحه وتخجل من تصرفاتها إن علم بها، أو على الأقل سوف لا تجدين حرجا فى اللجوء إلى أحدهم إذا ما اقتضى الأمر ذلك.

المراهقة ـ يا سيدتى مرحلة مرهقة لابنتك قبلك، والمراهقات طائشات مدفوعات بطفرة السلوك وهوس الحرية وتشوه النماذج الملهمة، باحثات كالعصافير عن البراح فيتشردن أحيانا فى خيالات مضللة ويقعن فى فخاخ سوداء، والمراهقات أيضا بريئات يبحثن عن صدر يجفف دموعهن، ويحتمل توترهن وتقلبات مزاجهن، ويصبر على شطحاتهن التى تفرضها طبيعة تلك المرحلة المزمنة، ويدفع إليهن بتجارب سابقة رفضت النصح والإرشاد فضلَّت الطريق، وخسرت الرفيق، وضاعت فى دروب الفوضى المستترة خلف شعار الحرية.

اقتربى يا سيدتى من عصفورتك البريئة وإن رفضتك، واستمعى إليها وإن أساءت اللفظ، وقومى عوجها بصبر المعلمة على تلميذتها، وخذى بيدها الصغيرة إلى طفولتها الأولى، امنحيها الثقة التى تعبر بها مستنقعا زلت فيه قدماها، وعلميها برفق أن الحرية والاتزان لا يتعارضان، وأن استقلال الفتاة لا يعنى انسلاخها عن العائلة والعادات. وختاما أناشدك وأناشد كل أم لرفيقات ابنتك: لا تقاطعى ابنتك مهما فعلت فليس لها سواك، أعيدى ترتيب العش واملئيه بالراحة والرحابة حتى لا تهاجر العصافير إلى حيث لا تعود.. وتقبلى تحياتي.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق