أن يبتسم. هذا فقط ما كانت تفكر به، حين دخلت المكتب للمرة الأولى، باغتته بابتسامة استطاعت أن ترسمها على شفتيها بشكل حيادى ليس فيه مبالغة أو تردد. ابتسامة لا يمكن وصفها أو تحديد أبعادها بشكل قاطع، كأشياء كثيرة فى الحياة، مثل ثمرة الأفوكادو، هل فكرت يومًا أن تصف ثمرة الأفوكادو، إنها تشبه الكمثرى ولكنها ليست كمثرى، أو حيوان الكوالا الذى هو مزيج بين الدب والسنجاب، أو سمكة الديك الرومى والتى بالقطع لا توجد علاقة قرابة بينها وبين أى نوع من أنواع الطيور، هى أشياء وجدت فى الكون دون شخصية أو تأثير، كذلك كانت ابتسامتها له، ولكنها كانت كافية ليرفع نظره عن كومة الأوراق المكدسة أمامه على المكتب وينظر لها بتعجب.
التعجب لم يكن دافعه ابتسامتها ولكن هيئتها البسيطة، تبدو فى المكان الفخم كنقطة حبر سقطت بين سطور خطاب رسمى، من الصعب السيطرة عليها فلا نستطيع محوها ولا يمكن تجاهلها، تساءل كيف استطاعت أن تغافل الحرس والسكرتارية وعامل البوفيه حتى وصلت لمكتبه.
هو مدير مكتب رئيس المؤسسة، يقع على عاتقه تنظيم المواعيد وإجراء الاتصالات وترتيب المقابلات، وبجوار مكتبه الفخم يوجد مكتب صغير أقل وجاهة وأكثر حيوية لشاب فى العشرينيات.
حين طلبت منه مقابلة رئيس المؤسسة لإجراء حوار صحفى، بتوصية من نائب مدير التحرير، جال وصال بعينيه ابتداء من بلوزتها الزرقاء المنقوشة والبنطلون الجينز الضيق والحزام الأسود، تعلقت نظراته بخاتم فى إصبع يدها اليمنى على هيئة طائر يحلق بجناحيه فى الهواء وقدماه تجذبه لحلقة الخاتم، طلب منها الانتظار فجلست أمامه على المقعد الجلدى الفخم، غرقت عيناها فى تفاصيل لوحة معلقة على الجدار خلف مكتبه.
وضع رأسه بين الأوراق وكلما لاحت له الفرصة كان يختلس لمحة من وجهها الطفولى، بينما حاجبه الأيسر مازال مشدودًا فى دهشة غاضبة وفمه الصغير يعتصر فلتر سيجارته بعصبية. الشاب على المكتب المجاور يفيض وجهه بسرور لا تعرف مصدره، ربما حبيبته أهدته قبلة عبر الفضاء الأزرق أو ربح دقائق مجانية أو قد يكون شعر بالانتشاء حين رآها تدخل عليهما المكتب. فكرت أن هذه المفارقة لم تحدث مصادفة، وإنما وجودهما معا رغم اختلافهما الشديد كان بتدبير حكيم، وتصورت أن هذا الشاب رغم بشاشته يبدو عليه بعض الخبث، وقد يكون عمله فى مواجهة رجل متجهم طوال الوقت هو بمثابة عقاب إلهى، أو يكون ذلك بتدبير من رئيس المؤسسة حتى يحدث التوازن المطلوب بين شاب دائم البشر ورجل فى خريف العمر لا يبتسم قط.
هذا ما قالته لها السيدة التى جلست بجوارها فى قائمة الانتظار:
«لم أره يبتسم من قبل»
مالت برأسها جهة اليمين قليلًا، تتأمل تفاصيل وجهه بروية لتعرف ما الذى يمنعه من الابتسام، هل هو ذلك الأنف المعقوف الذى يفرض سطوته على شفته العليا أو ذلك الذقن الذى يسيطر بمساحته العريضة على شفته السفلى، تذكرت صديقتها إلهام سعد التى كانت رغم خفة ظلها كلما ابتسمت تضع كفها على فمها لتدارى لثة داكنة وأسنانًا غير منتظمة، والشيء بالشيء يذكر، كان جورج برسوم ابن جارتها ذلك الرجل الوقور الذى يخجل من ابتسامته لأنها تسطو على ملامحه الوقورة وتستبدل بها ملامح شديدة السذاجة.
هل تعرف لمن اللوحة على الجدار؟
التفت خلفه يتأمل اللوحة وكأنها لم تكن طوال الوقت خلف مكتبه وبين كتفيه، وقبل أن يتكلم، قالت: إنها لوحة محمود سعيد، عندما كنت صغيرة كان لدينا لوحة تشبهها، طالما فكرت فى اقتحامها لأتحدث مع تلك السيدة التى ترتدى اليشمك.
رأت طفولته تحلق فى براح عينيه باتساعهما، مندهشا من بساطة حديثها وكأن مظهرها البسيط مرآة تعكس ما بداخله من رغبة فى الحديث، سألها عن واجب الضيافة:
«شاى لو سمحت»
كانت هذه آخر إجابة يتوقعها، وإنما هيأ نفسه أن يسمعها تشكره أو ترفض بأدب أو تبتسم وتفكر، لكنها لم تتردد وكأن الإجابة انزلقت من فوق لسانها دون سبق إصرار، وأطلقت معها سراح ابتسامة صغيرة من فمه، كانت تختبئ خلف ربطة العنق الملتفة بقسوة حول رقبته.
أدركت بحاستها كم تتعذب روحه تحت وطأة تلك الكرافتة اللعينة، لو يدعها تخلع عنه تلك المشنقة ماركة فيرزاتشى بالتأكيد سيتبدل الحال.
تحول الأمر بداخلها لنوع من التحدى. سارت بضع خطوات، اقتربت تتأمل اللوحة، وفى لحظة خاطفة قفز من مقعده وهو ينفض قطرات سقطت من كوب الشاى الذى كان يترنح فى كفها وفوق قميصه، فى غمرة اضطرابه بينما تتظاهر بمساعدته، استطاعت أن تفك العقدة وتمسك الكرافتة بيدها وتبتسم. ارتفع حاجبه الأيسر حتى كاد يلامس سقف الغرفة، وحين بدت لها أسنانه تلمع تذكرت مقولة إذا رأيت انياب الليث بارزة، فتراجعت خطوتين للوراء وابتسامة باهته ترتعش فوق شفتيها. بعد فترة من الصمت المراوغ، سقط حاجبه واستقر فوق عينه باستكانة، لكن صوتًا مكتومًا ظل يخرج متقطعا من أنفه، احتقن وجهه وبدا كأنه يهم بالبكاء، التفتت للشاب الذى كان يدارى ضحكته بمحاولات ساذجة، رأته يلقى بالقلم أسفل المكتب وينحنى ويغيب لبعض الوقت ثم يعتدل، تكرر هذا الأمر أكثر من إحدى عشرة مرة، وبعدها لم يتمالك نفسه فانفجر ضاحكًا، خرج يتعثر من الغرفة وجسده يهتز تحت وطأة الانفجار.
انسحبت من المكان معتذرة، وفى الممر الطويل المؤدى إلى الباب الخارجى تذكرت أنها مازالت ممسكة بالكرافتة فى يدها، فكرت فى إعادتها لكنها عدلت عن الأمر. بعد أن اطمأن أنه وحيد فى المكان خرج الصوت المكتوم من أنفه بحرية ودمعت عيناه ضحكًا، لكن ملامحه المتجهمة ظلت ثابتة متجمدة، تذكر أنه لم يضحك منذ زمن طويل، وقت أن استلم عمله فى مكتب رئيس المؤسسة.
انتصف اليوم ولازالت الضحكة تلون شفتيه كلما التفت للوحة محمود سعيد، ولكنها تظل ضحكة أقرب للبكاء ليس لها تأثير على ملامحه الغاضبة، ضحكة ليس لها شخصية كما حيوان الكوالا وثمرة الأفوكادو.
رابط دائم: