عقب الإعلان عن إجراء الاستفتاءات الشعبية فى «جمهوريتى» دونيتسك ولوجانسك واثنتين من المقاطعات الأوكرانية وهما زابوروجيه وخيرسون، اللتان سبق أن أعلن الجانب الروسى عن تبعيتهما التاريخية لروسيا، بكل ما واكب ذلك من خلافات وصخب، فاجأ الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الأوساط السياسية والاجتماعية داخل روسيا وخارجها، بخطاب «نارى» أوجز فيه مواقف بلاده إزاء كثير مما يحتدم من جدل، ولا سيما ما يتعلق منه باحتمالات استخدام الأسلحة النووية.
هذا الخطاب حسب تقديرات مراقبين كثيرين، يأتى ليس فقط من حيث الشكل والجوهر قريبا من خطابه الذى سبق أن استهل به «العملية العسكرية الروسية الخاصة»، فى 24 فبراير الماضي، بل ويتجاوزه من حيث تأثيره وقوته بما تضمنه من إعلان حول التعبئة الجزئية فى روسيا، وبما كشف عنه من استعداد روسيا لاستخدام الأسلحة النووية، فى توقيت مواكب لبداية أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما تعلقه شعوب العالم عليها من آمال فى التوصل إلى حلول سلمية لما يواجهها من مشاكل وقضايا.
فى هذا الخطاب استعرض الرئيس بوتين مفردات الأوضاع الراهنة فى مناطق العمليات العسكرية، وعلى خطوط المواجهة مع أوكرانيا، وما فرضته الأوضاع والسياسات التى كانت فى مقدمة أسباب اندلاع «الحرب» فى المنطقة. وعاد بوتين بالذاكرة إلى المقدمات والجذور التى تستمد بداياتها من سنوات ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتى، مستشهدا بما قاله زعماء أوكرانيا فى ذلك الزمان حول «إنهم تمكنوا فى عام 1991 من تقسيم الاتحاد السوفيتى. والآن حان الوقت لتقسيم روسيا نفسها إلى العديد من المناطق وهو ما يخططون لتحقيقه منذ فترات طويلة» . وأعاد الرئيس الروسى إلى الأذهان ما قام به خصوم بلاده من دعم لعصابات الإرهاب الدولى فى القوقاز، إلى جانب ما قاموا به من تطوير للبنية التحتية الهجومية لحلف الناتو على مقربة مباشرة من الحدود الروسية، فضلا عن محاولات تأجيج مشاعر العداء ضد روسيا لعقود طويلة. ومن منظور ما أشار إليه هنرى كيسينجر، عميد الدبلوماسية الأمريكية الأسبق من «الإيمان الصوفى لبوتين بالتاريخ»، استعرض الرئيس الروسى الكثير من مشاهد الماضى القريب وما يتعلق منها بالانقلاب على الرئيس الأوكرانى الأسبق فيكتور يانوكوفيتش فى فبراير 2014، وما أعقب ذلك من تطورات، وما جرى إقامته من علاقات وثيقة مع القوى المضادة لروسيا كانت وراء «استخدام القوات المسلحة ضد السكان المدنيين، وتنظيم الإبادة الجماعية والحصار والإرهاب ضد الأشخاص الذين رفضوا الاعتراف بالقوة التى نشأت فى أوكرانيا نتيجة للانقلاب»، فى إشارة إلى إعلان «مقاطعتي» دونيتسك ولوجانسك فى منطقة الدونباس انفصالهما عن أوكرانيا، ما كان مقدمة لكل ما شهدته هذه المنطقة من مواجهات عسكرية مباشرة لما يزيد على ثمانى سنوات.
ولم يغفل الرئيس الروسى الإشارة إلى ما شهدته هذه السنوات الطوال من اتصالات ومباحثات استهدفت التوصل إلى الحل السلمى، بما جرى توقيعه من «اتفاقيات مينسك» تحت رعاية مجموعة نورماندى التى ضمت زعماء ألمانيا وفرنسا وروسيا مع الرئيس الأوكرانى السابق بيتر بوروشينكو فى 2015. ورغم رفض القيادات الأوكرانية المتعاقبة تنفيذ هذه الاتفاقيات، قال بوتين إن حلا سلميا تبدى فى الأفق حين كشفت كييف «بعد بدء العملية العسكرية الخاصة»، وخلال المباحثات التى جرت فى اسطنبول، عن رد فعل إيجابى للغاية على المقترحات الروسية، وهى أولا وقبل كل شيء ، تتعلق بأمن روسيا ومصالحها. لكن من الواضح أن الحل السلمى لم يناسب الغرب. لذلك، بعد التوصل إلى حلول وسط معينة، تم إعطاء كييف أمرا مباشرا لتعطيل جميع الاتفاقات، حسبما أشار بوتين فى خطاب أمس. كان الرئيس الأوكرانى سارع إلى إعلان رفضه الالتزام بما جرى التوصل إليه من قرارات، لتتحول أوكرانيا إلى طريق التصعيد، وهو ما أشارت إليه موسكو فى فضحها ما جرى تشكيله من عصابات جديدة للمرتزقة والقوميين الأجانب، يتم تدريبها وفقا لمعايير الناتو وتحت القيادة الفعلية للمستشارين الغربيين، إلى جانب تعزيز نظام القمع فى جميع أنحاء أوكرانيا ضد مواطنيها، والذى تم إنشاؤه فور الانقلاب المسلح فى عام 2014، «بأقسى الطرق»، على حد ما قاله الرئيس فلاديمير بوتين.
كان الرئيس الروسى توقف أيضا فى خطاب أمس، عند ما أعلنه الرئيس الأوكرانى فلادومير زيلينسكى فى خطاب ألقاه فى مؤتمر الأمن الأوروبى فى ميونيخ، حول رغبته فى استعادة بلاده لوضعيتها النووية التى فقدتها بموجب «إعلان بودابست» فى عام 1994، فضلا عن إصراره على استعادة شبه جزيرة القرم والدونباس بكل السبل بما فيها «القوة المسلحة». وذلك ما كان مقدمة لتحول الرئيس الروسى إلى الحديث عن احتمالات «المواجهة النووية» فيما أشار إليه حول قصف الجانب الأوكرانى لمحطة «زابوروجيه» النووية التى تظل كبرى المحطات النووية فى أوروبا والثانية فى العالم. قال بوتين إن هناك «فى واشنطن ولندن وبروكسل من يدفع كييف مباشرة إلى نقل العمليات العسكرية إلى أراضينا. لم يعودوا يخفون أن روسيا يجب أن تهزم بكل الوسائل فى ساحة المعركة، مع ما يترتب على ذلك من حرمان سياسى واقتصادى وثقافى، بشكل عام، من أى سيادة، مع نهب كامل لبلدنا». وأضاف بوتين أن «الابتزاز النووى لعب أيضا دوره. نحن نتحدث ليس فقط عن قصف محطة الطاقة النووية فى زابوروجيه، الذى شجعه الغرب، والذى يهدد بكارثة نووية، ولكن أيضًا عن تصريحات بعض كبار ممثلى دول الناتو حول إمكانية استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا، ولذا فقد كان من المنطقى أن يجيب عن هذه التهديدات بالمثل وهو الذى سبق أن أشار إلى احتمالات استخدام الأسلحة النووية فى حال تعرض بلاده لخطر يستهدف وجودها واستقرارها وأمن ومصالح شعوبها. ومن هنا أعلن بوتين عن أن البلدان الغربية تجاوزت فى سياساتها العدوانية المعادية لروسيا كل الخطوط الحمراء وغير الحمراء، فى تهديداتها لروسيا ومصالحها الوطنية. وكأنما يستعيد ما سبق أن قاله سياسيون كثيرون فى الأوساط القيادية الغربية ومنها قيادات الناتو والاتحاد الأوروبى ومنها جوزيب بوريل مفوض الاتحاد للشئون السياسية، حول ضرورة حسم المعركة مع روسيا فى ساحة القتال، وليس حول مائدة المفاوضات عبر السبل السياسية والدبلوماسية. وقال بوتين: إن من وصفهم بغير المسئولين فى الغرب «يتحدثون عن خطط لتنظيم توريد أسلحة هجومية بعيدة المدى لأوكرانيا ، وهى أنظمة تسمح بضرب شبه جزيرة القرم ومناطق أخرى فى روسيا. وقد تم بالفعل تنفيذ مثل هذه الضربات الإرهابية، بما فى ذلك استخدام الأسلحة الغربية ، على المستوطنات الحدودية لمنطقتى بيلجورود وكورسك. وقال إن الناتو يقوم باستخدام الأنظمة الحديثة، الطائرات، السفن، الأقمار الصناعية، الطائرات الإستراتيجية بدون طيار، بالاستطلاع فى جميع أنحاء جنوب روسيا».
ما صدر عن بوتين فى هذا الشأن ليس جديدا. فقد سبق أن قاله فى أكثر من مناسبة على مدى سنوات طوال، لم يكن يطلب خلالها أكثر مما اضطر وعاد إلى طرحه على الأوساط الغربية من مطالب أمنية لبلاده تقدم بها إلى الإدارة الأمريكية وإلى حلف الناتو فى منتصف نوفمبر من العام الماضي. قال بوتين بضرورة التوقف عن توسع الناتو شرقا، والعودة إلى خطوط عام 1997، قبل ضم الكثير من بلدان شرق أوروبا ومنها بلدان البلطيق السوفيتية السابقة. طالب بوتين بضمان عدم نشر الأسلحة الإستراتيجية فى أوكرانيا وإعلان تخليها عن حلم الانضمام إلى الناتو. وكان بوتين أعلن فى ميونيخ فى فبراير 2007 فى مؤتمر الأمن الأوروبى كثيرا من مخاوف روسيا من أخطار التمسك بنظام «عالم القطب الواحد»، مؤكدا ضرورة التحول نحو عالم متعدد الأقطاب. ومنذ ذلك الحين ظل بوتين حريصا على التحلى بالكثير من الصبر، وتوخى الكثير من الحذر حتى تاريخ وقوع الانقلاب الذى أطاح بالرئيس الأوكرانى الأسبق يانوكوفيتش عقب الموجة الثالثة من «الثورة البرتقالية» ، قبل أن يتخذ قراره بضم القرم استجابة لنتيجة الاستفتاء الشعبى الذى جرى هناك، لاستباق ما كان أقرب إلى «مخطط تسليمها» إلى البوارج الأمريكية التى كانت فى طريقها إليها. وعاد بوتين إلى صبره وحذره من اتخاذ خطوات مشابهة مع «جمهوريتي» دونيتسك ولوجانسك اللتين كانتا أعلنتا انفصالهما تأكيدا لرفضهما الاعتراف بنتائج انقلاب فبراير2014 فى كييف. وظل الرئيس الروسى متمسكا بهذا الموقف لما يزيد على ثمانى سنوات، فى انتظار تنفيذ اتفاقيات مينسك وما طرأ عليها من تعديلات قدمها شتاينماير الرئيس الألماني، ووزير الخارجية الألمانية الأسبق، دون استجابة من جانب السلطات الأوكرانية فى كييف.
وها هو يعود ثانية إلى سابق ما واجهه من مواقف فى مواجهة الولايات المتحدة وكبريات الدول الغربية بكل ما تملكه من قوى مدججة بأحدث أسلحة العصر التى سبق أن أعلنت صراحة هدفها الذى ترومه منذ عقود طويلة ويتلخص فى ضرورة الإطاحة به وبنظامه، وما لا بد أن يعقب ذلك من تقسيم روسيا على غرار ما سبق أن واجهه الاتحاد السوفيتى السابق. وذلك ما أعلنه صراحة الرئيس الأمريكى جو بايدن حين قال إن «هذا الرجل لابد أن يرحل»، فى إشارة إلى الرئيس بوتين.
أما عما جرى الإعلان عنه من استفتاءات حول الانضمام إلى روسيا، تقول الكثير من المؤشرات إنها جاءت لوضع حد لما يجرى من تطورات دامية فى جنوب شرق أوكرانيا، ولما هو يبدو أقرب إلى مخطط الاستمرار فى استنزاف روسيا، بما يعنى عمليا بداية تغير فى «إستراتيجية» الحرب فى المنطقة. وليس ثمة شك فى أن نتائج هذه الاستفتاءات ستكون إيجابية بأغلبية ساحقة تؤكد الرغبة فى الانضمام إلى روسيا، بما يكفل ـ كما قال بوتين ـ «حماية مواطنى هذه المناطق بعيدا عما كانوا يواجهونه خلال السنوات الماضية من فظائع النازيين الجدد من ورثة بانديرا»، وهو (الزعيم النازى الأوكراني) إبان سنوات الحرب العالمية الثانية حسب الأدبيات الروسية.
ومن المعروف أن الدستور الروسى وبموجب ما أُدخل عليه من تعديلات فى عام 2020، يقضى بتجريم التخلى عن أى جزء من الأراضى الروسية، ويحظر التفاوض عليه بأى شكل من الأشكال، ما يعنى عمليا ضم كل ما سوف يجرى الاستفتاء حوله إلى الأراضى الروسية إلى الأبد وهى المناطق التى سبق أن أعلنت روسيا فى أكثر من وثيقة ومناسبة، عن أنها «أراض روسية» ومنها نوفوروسيا (روسيا الجديدة) المتنازع عليها حاليا. وللقصة فصول أخرى نواصل الحديث عنها تباعا من موسكو، على ضوء ما يُسْتَجد من أحداث لاحقة تقول المؤشرات إنها سوف تكون أكثر سخونة وخطورة عن ذى قبل.
رابط دائم: