التاسعة صباحًا فى منيل الروضة، وسط القاهرة، الشوارع خالية، ونسمة رقيقة محملة بهواء لطيف تأتى من البحر الصغير، ذلك الذى يفصل بين مصر القديمة ومنطقة المنيل، واليوم يوم الجمعة، ومعظم سكان القاهرة يستيقظون قبل آذان الجمعة مباشرة، أضحك مع عمّ رزق قائلا: يا سلام لو تظلّ شوارع القاهرة هكذا خالية طول النهار!
يضحك فى مرآة السيارة قائلا: هذا حلم، القاهرة اليوم عدد سكانها أكثر من خمسة وعشرين مليون نسمة يا أستاذ!
نودع مدينة شبرا الخيمة وراءنا، يظهر البساط الأخضر من حقول الذرة والأرز، مساحات شاسعة، كأنها سجادة خضراء مفروشة تحت سماء الله، يتنهد عمّ رزق قائلا: والله يا أستاذ أحلم باليوم الذى أعود لقريتى وأعيش هذا الجو الساحر!
على طريق مصر الإسكندرية الزراعى وأمام مستشفى بركة السبع العام نتوقف بالسيارة، الساعة الآن العاشرة والنصف يشتعل التليفون المحمول مرة أخرى، أطلب مصطفى:
يا أستاذ المستشفى على يمينى، الآن أنا تحت الكوبرى مقابل موقف الميكروباص!
يردّ مصطفى: تمام.. دقيقة واحدة إحنا بجوارك.
لم أقدر كتمان شوق اللقاء الأول بعد سبعة وأربعين عامًا، تزداد دقات قلبى، كأننى قادم على امتحان صعب، صحيح أتكلم مع الأستاذ كامل منذ سنتين، ونتبادل الكثير من الحكايات والمواقف التى لا يزال يحفظها، وأضحك طويلا عندما يخبرنى أنه لا يعرفنى بصورتى الحالية، ويضحك وهو يقول:
أريد صورتك وأنت فى سنة ثالثة إعدادى! هذه صورتك التى لا أزال أحفظها لك!
وأظلّ نصف ليلة أبحث فى أوراقى القديمة حتى أجد شهادة نجاحى بالشهادة الإعدادية عام 1976، أرسل له نسخة من صورتى المثبتة باستمارة التقدم لامتحان الشهادة الإعدادية، أسمع ضحكته العالية ترّن صافية عبر التليفون وهو يقول:
هذا هو الجيزاوى الذى أعرفه!
والأستاذ كامل تم تعيينه لأول مرة مدرسًا للغة الإنجليزية نوفمبر عام 1973 فى مدرسة كفر الديب الإعدادية المشتركة، وقتها كان عمره خمسة وعشرين عامًا، وكنا تلاميذه بالصف الأول الإعدادى فى بداية عامنا الثالث عشر.
يقطع رنين التليفون فيضان مشاهد الذكريات، وأمام دقات القلب الزائدة أفتح باب السيارة، أكيد سأعرف الأستاذ دون مقدمات، من بعيد رأيته، صورته لم تتغير كثيرًا، فقط ترك لحيته تطول قليلا، أهرول ناحيته، أبتسم، يعلو صوتى فرحًا:
أهلا أستاذى العظيم.
أتناول يده، أهمّ أن أقبّلها، يخطف يده ويشدنى لحضنه، بطرف إصبعى أمسح دمعة تتأرجح ساخنة، أحضنه طويلا، كأننى أحتضن والدى رحمه الله الذى رحل مُبكرًا ولم يكمل السادسة والثلاثين من عمره، يضمنى الأستاذ طويلا لصدره، أقبّل رأسه وكتفه كثيرًا كثيرًا، ولسانى يلهج وهواء صدرى يعلو وينخفض، وأعود لأقبّل الأستاذ مرات ومرات، والأستاذ فرحان وسعيد، وابنه يقف يرى مشهدًا من مشاهد الأفلام السينمائية تحدث أمامه للمرة الأولى.
ألتفتُ ناحية ابنه قائلا: سامحنى يا مصطفى، فالأستاذ كامل كان والدنا قبل أن يكون أستاذنا!
أطلب من ابنى محمد أن ينزل من السيارة للسلام على الأستاذ كامل، ثم أقول:
يا محمد اجلس بجوار عمّ رزق سائق السيارة، وأنا سأجلس مع الأستاذ كامل على كنبة الكرسى الخلفى!
طول الطريق يتذكر الأستاذ تلاميذه واحدًا واحدًا وبالأسماء الثلاثية والرباعية، ويتذكر مواقف لا تزال حاضرة برأسه!
السيارة تتهادى على طريق الأسفلت جوار ترعة العطف وعن اليمين واليسار مساحات خضراء ممتدة، وسط هدوء حالم، وكانت معظم القرى ساكنة هادئة، والأستاذ يتذكر شريط الذكريات، وأنا مستمتع بقصصه ومساحات الأرض الخضراء، ساعة أخرى والسيارة تطوى المسافة من بركة السبع حتى محطة أباظة طريق زفتى طنطا، أطلب لبيب عمارة بالتليفون الذى سبقنى بالنزول من حيّ عين شمس حتى يحضر لقاء الأستاذ كامل وزملاء دفعة الشهادة الإعدادية عام 1976.
يردّ لبيب قائلا: أنا بالانتظار، أجبته: أننى سأتوقف أمام مقابر القرية؛ لقراءة الفاتحة على روح أمى وأبى.
يقترح لبيب عمارة أن نركن السيارة أمام بيت بكير سالم خلف الجامع الكبير، وكان لقاء بكير سالم والأستاذ ومن قبله لبيب عمارة لقاءً يفيضُ بالمحبة والشوق، ندخل الجامع الكبير الساعة الحادية عشرة والنصف، مع بداية إذاعة شعائر صلاة الجمعة وتلاوة القرآن الكريم، بعد الصلاة يلتف الكثير من الزملاء يُقبّلون الأستاذ بالأحضان فى شوق كبير: مختار حسب الله، نجيب عمارة، رضا سالم، ماهر أحمد حسن، عبدالحليم العماوى، وبعد الغداء فى بيت بكير سالم يتوافد بقية الأصدقاء: نشأت سليمان، حسين أبو زيد، محمد الطيبى، رضا أنور حسن، رضا محيى سعيد، عبدالحميد صحصاح، وفجأة يسأل الأستاذ عن: محمد عبدالقادر سعيد، أجبنا جميعًا: لقد توفى إلى رحمة الله، يعود الأستاذ كامل بظهره للوراء ثم يقول: هذا الولد كان رجلا منذ صغره: فى الحصة وجدته أخطأ فى كلمة، رفعت العصا لأضربه، أخذ العصا الأولى على يده، وأردت أن أضربه الثانية فحرّك يده، ورأيت العصا تنزل منتصف عينه، وقفت دقيقة ساكنًا لا أعرف ماذا أفعل؟! وبعد دقيقة يرفع محمد سعيد رأسه ويقول: يا أستاذ أنا عينى سليمة! موقف لا أنساه طول حياتى.
يعلو صوت رضا محيى سعيد ضاحكًا: عشان تعرفوا أن أولاد أبو سعيد كلهم رجالة.
يعود الأستاذ كامل يسرد موقفًا آخر لا يزال يحفظه فى ذاكرته: فى بداية حصة أخرى، وقفت أمام الفصل قائلا:
يلا طلعوا كراسات Exercise، فردت البنت.. عكاشة قائلة: يا أستاذ إحنا أحضرنا الكتاب!
أسألها غاضبًا: حمار مين اللى قال لكم هاتوا كتاب الإنجليزي؟! ترد بسرعة قائلة: أنت.. حضرتك!
وينفجر الأولاد والبنات فى ضحك متواصل، ولم أعلّق، وبعد دقيقة قلت لهم: يلا افتحوا الكتاب على درس..
أجبتُه قائلا: كنّا أولاد وبنات صغار يا أستاذنا، وكنّا نتصرف بتلقائية وعفوية!
الثالثة عصرًا تبدأ رحلة العودة بالسيارة للقاهرة، بعد جلسة ثلاث ساعات مع الأستاذ محمد كامل عبدالرحمن شكر، كل الزملاء تجاوزا الآن الستين عامًا، والأستاذ تجاوز الرابعة والثمانين عامًا، ولا يزال الأستاذ ويحفظ أسماء تلاميذه الثلاثية والرباعية.
رابط دائم: