كنت أتعلقُ بطرف جلبابها الواسع أينما ذهبت، علمتنى منذ الصغر أن أمسك طرف جلبابها فلا تفقدنى أو أفقدها. فطمتنى أمى من حليبها وتركتنى لها قبل أن أتم عامى الأول. أنجبت قبلى خمس بنات. لكن الجدة لم تفكر فى اختيار أحد سواي, جرتنى خلفها ولم أكن قد تعلمت المشى بعد. حاولت أمى أن تثنيها عن جرِّى، طالبةً منها أن تحملنى على كتفها ولو لشهرين على الأقل حتى أتقن المشى، لكن الجدة لم تقبل.
جرتنى من يدى حتى إنى تعثرت وتمرغت فى الأرض أكثر من مرة، ثم بدأت ساقى المثنية فى الاعتدال وتمكنت قدماى الصغيرتان أخيرا من حمل جسدى فوقهما باعتدال مقبول, وإن ظلت القدمان تلتويان خلف بعضهما من وقتٍ لآخر, حتى أن تلك المشية الملتوية ستلازمنى لبقية عمرى.
جرتنى الجدة من بلدة لأخرى. كنا نطوى القرى والبلدان باحثين عن مقامات لأولياء صالحين. كانت متعتها فى اكتشاف مقامات وأضرحة جديدة طواها الزمن وامتنع عنها مريدوها.
الجدة كانت طويلة لها وجه ذو بشرة قمحية, صبغتها شمس الطرق والبلاد التى طويناها بسمرةٍ داكنة. فى وجهها أنفٌ بارز وحاد, وعينان ضيقتان ومسحوبتان إلى الخارج, لها أيضا كتف عريض وقوي, وظهرٌ رحبٌ ومفرود كالرجال. بينما قامتى الصغيرة وجسدى النحيل يجعلان منى كائنا لا يكاد يُرى فى جوارها. كانت حين تتعب من المشى تُمسك بقبضة كفها رقبتى من الخلف, وتجعلنى أسبقها بخطوة. كأنها تصنع منى عصاة لتتوكأ عليها. فيتملكنى حينها شعور بالأهمية والقداسة وكأننى عصا موسى التى يتوكأ عليها النبى وتمنحه معجزاته.
كنا ندخل القرى ليلا كنباشى القبور, نمسح التراب, نسقى الصبارات التى جفت من تباعد الزيارات, ندقق فى الشواهد, نبحث عن أسماء ربما تعرفها الجدة بعينها, أو ينشرح لها قلبها فقط. نبحث عن أضرحة تآكلت جدرانها بفعل الزمن وهجر الأحبة. نبحث عن قباب مستديرة. ننفض المقامات من التراب. نمسح القبة وندهنها بطلاء جديد, وحين يجف نصقلها بطبقة خفيفة من الزيت الذى تحمله دائما فى صرة من القماش, تلفها وتطويها بعناية قبل أن تخفيها فى قماشة أخرى ملفوفة حول خصرها كحزام تعقد طرفيه خلف ظهرها, تلمع بعدها القبة القديمة من أثر الزيت الذى لم تبح لى أبدا بنوعه, ولا حتى بمكان شرائه أو كيفية حصولها عليه.
بعد انتهاء عمليات الترميم التى نقوم بها, كانت تبدأ فى الدعاء للولى الذى لا تعرفه, ثم تدعو لكل الموتى الراقدين فى الجوار, تمر عليهم, تدقق فى الشواهد, تدعو لكل واحد باسمه, تتهجى الأسماء بحرص كى لا تخطئ فى أسماء الموتى فيخيب أملهم المعلق بزيارتها اليتيمة. بعدها نبحث عن أحد دكاكين البقالة, نشترى الدقيق, ونعود لمكاننا قرب الجبانة, نعجن الدقيق بالماء النظيف الذى نجمعه من زير متروك للسقاية, أو حتى من طرمبة مدقوقة فى الأرض. ثم نذهب لاستئذان بعض النسوة لنشاركهن الخبيز فى أحد الأفران.
نتم الخبز.. ونحمل الأرغفة الساخنة. ثم تطلب من كل الصغار الذين نلتقيهم فى الشوارع أن يأتوا معنا, تغريهم بأرغفتها الساخنة. يمضون خلفنا بسعادة. نفترش بعدها الأرض أمام المقام الموجود, تعطيهم الأرغفة وتقول ادعوا لساكن البيت واطلبوا الرحمة للجميع.. يسمع الصغار الكلام وينفذونه بالحرف, كى تعطيهم من أرغفتها.. كان الأطفال يحضرون ويحملون بعض الغموس فى جيوب جلابيبهم الصغيرة, يأخذون الأرغفة التى لا تشبه فى مذاقها أى خبز طعموه من قبل. تعطينى رغيفا كالصغار وتشحذ لى قطعة من الجبن القريش أو المش لأطويها فى داخل الرغيف الساخن وأدعو لصاحب المقام كالبقية. نقيم لعدة أيام عند كل مقام, قبل أن نرحل ونذهب باحثين عن آخر. نقضى تلك الأيام المعدودة, فقط فى إطعام الخلق واستنطاقهم للدعاء. بعد انقضاء مدتنا التى تحددها هى نرحل. وكلما سألتها عن سبب ما نفعله, تقول: نذر وأوفيه
ـ ألا تنتهى نذورك يا جدة؟
ـ النذور طريقى إلى الله. مشيت فى الطريق حتى لم يعد لى سواه.
ملقتش ف الدنيا أغلب من المقطوع.. فقررت أن أؤنس الناس كى يؤنسنا الله بعدما نصبح مقطوعين مثلهم. قالت لى فى مرة بينما كنا نخلط الماء بدقيق جديد فى قريتنا: ابتدأت الحكاية وأنا صغيرة, كانت أمى مريضة بمرضٍ عضال أرقدها ثلاثة أشهر, حتى يئسنا جميعا من شفائها. حينها كنتُ طفلة فى الثامنة. جاءتنا إحدى القريبات وقالت لأبى: اندر لها ياحج
سألت أبى عن معنى الكلمة. وبعدما فهمت, قررت أن أفعل مثله ويكون لى نذرى الخاص. حين شفيت أمى شعرت بأن الأمر كالسحر, صرت أضع نذرا لكل شىء, نذرا لو سمحت لى أمى باللعب فى الشارع, ونذرا لو خاطت لى فستانا جديدا أو اشترت لى حذاء من المدينة الكبيرة التى لا نزورها إلا قليلًا. بعدها بعامين أحببت ابن جارتنا ونذرت وقتها نذورًا كثيرة, نذرًا لو لمحته بالصدفة, ونذرًا لو ابتسم لي, ونذرًا لو حاول أن يتحدث معي, ونذرا لو تمكنت أنا من الرد عليه, ففى المرات القليلة التى حادثنى فيها, كنت أبتسم فى وجهه فقط, ثم أطوى الطريق بعدها راكضة لأبتعد عنه قدر الإمكان.
لكن نذورى لم تفلح حين توفى أبوه وأخذته أمه ورحلت به إلى بلدة بعيدة, حيث كان يسكن أهلها. قبلها نذرت أن أنفق مصروفى كله على الغلابة لمدة عام كامل إذا لم ترحل به... بعد رحيله شعرتُ بوحدة قاسية, وبوخزة فى قلبي, وفقدت رغبة الاستمتاع بكل الأشياء, وقررت أن أوفى نذرى عن الأمر الذى لم يتحقق, ظللتُ أطوى البلدة كلها كل يوم أبحث عن غلابة أو صغار..أوزع مصروفى الزهيد على كفوفهم المتلهفة وأمضي, وأحيانا أظل واقفة أراقب الصغار وهم يشترون الحلوي, ويبتلعونها سريعًا فى أفواههم, فيسيل لعابى الذى أمسحه بكم جلبابى وأنا أحاول إقناع روحى بالشبع. لسنوات وأنا أنفق كل ما معى.. وحين تنفد نقودى أتبرع بحصتى فى الطعام لأى عابر.. أتظاهر أمام أهلى بالمضغ, بينما أسنانى لا تطحن سواء الهواء والحسرة المكتومة فى حلقى.
كانت الجدة قد أمرتنى فى الصباح أن أقول للجميع: إنها ستخبز الليلة.. فركضت بحماس, طرقت كل الأبواب لأخبر الجميع.. تهللت الأوجه كالعادة بمجرد رؤيتى. كانوا يعرفون جيدا أن الخير يأتى دائما معى أو حتى بعدى بقليل..
انتهينا من العجين, فردنا الأرغفة بالنشابة ووضعناها فوق المطرحة الخشبية قبل أن نلقى بها إلى لهيب الفرن. حضر الصغار أولا ككل مرة, ثم بدأ الكبار فى المجيء, تحلقوا حول البيت, معهم الغموس, يفرد كل واحد رغيفه ويضع ما معه من غموس فى داخل الرغيف قبل أن يطويه ويبدأ فى قضمه وابتلاعه. بعضهم يبتلع ثلاثة أرغفة وبعضهم أكثر. والجدة لاتزال منهمكة فى العجن والخبز.
وحين امتلأت كل البطون. بلعت جدتى ريقها الذى انساب بعضه منها دون أن تشعر. وكانت آخر كلماتها معى: شبعت.. شبعت.
رابط دائم: