..ذات «عصرية» من صيف مضى ،جمعتنى «قهوة البستان»ـ التى هى زهرة البستان بوسط القاهرة ـ وصديقى «عاطف عليوة»،و«غافر هايل» ،المثقف الصعيدى و«طارق شكرى» المثقف الليبرالى ،و«عزمى بشرى» ـ القبطى الشيوعى
وجعلا منه إنسانا ،يقرأ الشعر، ويسمع الموسيقى ،ويعطف على العشاق، ويساعد المحبين الطيبين على إتمام «الزواج» إن كانوا من الفقراء،وهوالوارث عن أبيه ،عمارتين فى شارع حيدر،بمدينة حلوان ، وعن أمه عشرين فدانا مزروعة بأشجار الفواكه فى «أشقاو» ويعتز بأخواله الصعايدة، ويكره عائلة والده القاهرية،وهو الذى بدأنى بالكلام ،وأنا أقول لصديقى «عاطف عليوه» :
ـ اشقاو،فيها مقبرة فرعونية ،مسجلة فى «هيئة الآثار» وعليها»غفير»حارسها..
فاقتحم «غافر»الحوار،وعرفنا نفسه ثم قال:
ـ لوتسمحوا يعنى ..حضراتكم من اشقاو؟
وجاوبته:
ـ أنا من بلد جنبها ،ونعرف ناس منها ،ورحتها كتير..
ـ أنا سمعت حضرتك بتقول «مقبرة فرعونية» ،ومعلومات مهمة عن اشقاو، دى بلد والدتى
ـ أهلا بحضرتك ..
ولم أكن قلت غيرإن «أشقاو» فيها مقبرة فرعونية ،وأهلها «عربان «جاءوا من ليبيا ،وبعثة أثرية عثرت فيها منذ سنوات على برديات من زمن الفتح الإسلامى ،ورد فيها اسم الوالى «قرة بن شريك» ،وإن نساءها ،جميلات ،لهن شعور طويلة ، وعيون واسعة جذابة ،وابتساماتهن تنير الوجوه القمحية اللون ،والسمراء ذات «الغمازات» ،ورجالها كرماء ،سريعو الغضب ، سريعو الرضا،وقال «غافر هايل» :
ـ بالمناسبة ،خد رقم تليفونى ، وكلمنى بكره ،عشان أعرفك على «حورية محارب» ،هيه فنانة تشكيلية ،أبوها من «اشقاو»
وضحك وهويقول :
ـ حورية هتنبسط بيك خالص ، هيه بتحب ناسها جدا ، وتحب أى حد من ناحيتهم
وهمس»عاطف عليوة» :
ـ واضح إن «البليه» هتلعب معاك،والأشيا هتبقى معدن ،وهتبقى قصة..
وودعنا«غافرهايل» وهويخاطبنى مؤكدا:
ـ ماتنساش ..تكلمنى ضرورى بكره الساعة 12الضهر،هاكون منتظر مكالمتك ..
ـ2ـ
..فى اليوم التالى ،فى «قهوة البستان « ، وفى المكان الذى جلست فيه بالأمس ،جلس «غافر هايل» الوارث عن أبيه عمارتين في»حلوان « وعشرين فدانا مزروعة بأشجار الفواكه فى «أشقاو» ،المتهم السابق فى قضية»التكفيروالهجرة» ،الليبرالى ،عاشق الفنون ـ حاليا ـ وجلست الفتاة القمحية اللون ،ذات الغمازتين فى الوجه البيضاوى والعينين السوداوين ،والشعرالناعم المنسدل على الكاهلين ،وقال «غافر» مبتسما ابتسامة ودودة :
ـ أقدم لك الفنانة «حورية محارب»،صعيدية ،والدها من «اشقاو»،.. وخاطبها ،والابتسامة مازالت تغمر وجهه بدفء:
ـ الأستاذ «كرم قايد» ،من بلدياتك ،كان هنا امبارح،بيقول كلام مهم عن بلدكم..
وقلت لها :
ـ أهلا بحضرتك
وقالت :
ـ ميرسى لحضرتك
وهب «غافرهايل «واقفا وعلق «الشنطة» الصغيرة فى كتفه ،وقال :
ـ كده أنا عملت اللى عليه ،اتعرفوا واتكلموا ،وأنا رايح «بولاق « هنا قريب ، خدوا راحتكوا ، وخدوا وقتكوا ،وهارجع تانى..
وابتسمت «حورية» ،وابتسم «غافرهايل» ، وابتسم عاطف عليوة»،وابتسمت ،وأشعلت سيجارة ،وفاجأتنى الفنانة التشكيلية ،الصعيدية :
ـ أنا «حورية محارب»، فنون جميلة اسكندرية ،شعبة تصوير، سبعة وعشرين سنة ، عندى مرسم محندق فى «الجمالية» ،باكتب قصة قصيرة، وباكتب فى رواية بقى لى سنة ونص ،مش عارفه أخلصها ، وباحب القهوة السادة ، وباعشق «فيروز» وبادخن سجايرسوبر،وإنت؟
ـ أنا أمى اسمها «لواحظ عطية» ،ست بيت غلبانه ، لاتقرا ولاتكتب، اتجوزت أبويا بقرار من أبوها ،ويوم جوازها، كانت عيلة، خدوها سننوها عند الدكتور،مربيه فى بيتنا القديم،أربع عنزات ، وعشرين دكر بط ، وفروج بلدى وأرانب ،وأنا سايبها من سنتين ،وأبويا مات فى العراق ،وأختى «شيماء» خلصت «دبلوم تجارة» ،ومنتظرة جواب القوى العاملة ،وانا صحفى فى جورنال خليجى ،باحاول أدخل جورنال مصرى عشان أبقى عضو نقابة الصحفيين ،وباكتب شعر، واعرف من «اشقاو» ناس كتير..
ـ زى مين ؟
ـ زى الدكتور»رأفت منصور«مديرمستشفى طما المركزى»، والحاج على عتمان ،عضوالبرلمان،ومحمدتغيان أستاذ الفيزيا فى «مشطا الثانوية «..
ـ ومين كمان ؟
ـ و«فوزى عطية»التومرجى فى الوحدة الصحية بتاعة بلدنا ..
ـ نسيت شخصية مهمة ..
ـ مين؟
ـ أنا .. حورية محارب فواز،من «آل فواز» بحرى البلد ،وأمى «أمينة غالي» ..
وضحكنا،وقال «عاطف عليوه» :
ـ أسيبكم أنا ، عندى مشوارعائلى ناحية شارع عدلى ..سلام..
وقالت حورية محارب:
ـ ممكن أعزمك على شاى صعيدى عندى فى المرسم بتاعى ؟
ـ ممكن جدا..أنا باحب الرسم جدا ،بس ما باعرفش أرسم ،ممكن تعلميني؟
ـ أعلمك لأ..أرسمك ممكن ،وهاعمل كده لوتسمح لى ..
ـ 3ـ
..مرسم «حورية محارب» ،موجود فى مبنى عريق ،من العصرالمملوكى ،النقوش والأحجار،ورائحة المكان ،تسحب روحى من الحاضر،وتجعلنى فى زمن الجوارى الشركسيات ، و»حورية» صارت بطلة المشهد التاريخى المبهج لى ،سمعتها تقول «طوع أمرك يامولاى « ،فابتسمت ،وقلت لنفسى «إنت مجنون ،وهتخرب اللحظة الحلوة بالهبل اللى إنت وارثه من أمك لواحظ بت عطية»،ورأيت حورية ترفل فى بدلة من الحريرالأبيض ،وشعرها المنسدل على كتفيها أكمل الصورة فى خيالى ،وسمعت «زوزو نبيل « تقول «طوع أمرك يامولاى « ،وكأننى أسمع «الراديو» فى شهررمضان ،وأنا فوق سطح بيتنا ،وحلقات «ألف ليلة وليلة « كانت تسحرنى ،وسألت «حورية محارب»:
ـ تعرفى «باباشارو»؟
ـ كل الناس تعرفه ،هوه إسكندرانى ، وكانت معايه واحدة قريبته فى فنون جميلة ،إيه اللى فكرك بيه؟
ـ الجو هنا .. المرسم بحالته وتفاصيل المكان ،حسسنى كأنى فى زمن «الف ليلة وليلة»،جو رائع ..
ـ أنا باعشق «ألف ليلة» ، وزوزو نبيل وهيه بتقول «طوع أمرك يامولاى «،وآخر الحلقة تقولهابأداء مختلف «مولاااى «..
ـ أشقاو..ماقلتيش حاجة عنها ..
ـ قلت ،بس إنت مش مركزمعايه،تركيزك كله فى جو المرسم..
ـ قلتى إيه ؟
ـ قلت لك تعال معايه نروح المرسم ..
ـ مش فاهم ..
ـ تعال المرسم ، يعنى إنت حد قريب منى ، يعنى «أشقاو».. وضحت ؟
وابتسمت وأنا أقول لها :
ـ همه بيقولوا ،الفنون جنون ، اسمحى لى أتجنن وأسألك يافنانة :روحانياتك أخبارهاإيه؟
ـ برضه «أشقاو» .. وضحكنا معا ..
ـ روحانياتك هيه «أشقاو» ولاتقصدى إنها مستمدة من «أشقاو»؟
ـ أقصد إن «أشقاو» هيه أم الروحانيات فى مصرالقديمة ،إقراكتاب «الديانة المصرية القديمة «بتاع «ياروسلاف تشيرنى « وهتعرف مكانة «أشقاو» والروحانيات بتاعتها ..
ـ قارى ومطلع ..
فانفجرت ضحكتها ،وطالت حتى دمعت عيناها :
ـ إنت ما لكش حل ، وإنت بتقول «قارى ومطلع» ،فكرتنى بالشيخ بتاع «الزوجة التانية»
ـ حسن البارودى ..
ـ كان بيقولها بطريقتك دى..
ومسحت دموع الضحكة وقالت :
ـ هاعلق ع الشاى ،نشربه ونبتدى الشغل..
ـ شغل إيه؟
ـ هارسمك ،زى ما وعدتك ..
ـ4ـ
..وفى اللقاء العشرين ،أوالثلاثين ،لم تعد»حورية محارب» صديقة عادية ، ولم تعد «واحدة بلديات»،وبساطتها شجعتنى على الاهتمام بها ،وفى «قهوة البستان «،فى عصرية من يوم صيفى ،جلست وأمامها «فنجان القهوة السادة» وبيدها «السيجارة السوبر» يتصاعدمنها خيط دخان ،وقالت :
ـ طوع أمرك يامولاى ..
وضحكنا..
ـ أنا اللى طوع أمرك يامولاتى ..
ـ نعم ..عاوزإيه ؟..إتكلم ..
ـ عاوزأتجوزك ..
ـ ليه؟
ـ عشان حبيتك ..
ـ وإيه كمان ؟
ـ وحاسس إنى ممكن نعمل حياه حلوة مع بعض ..
واكتسى وشها بجدية ،ونظرت بعيدا ، وأشعلت سيجارةأخرى ،وظهر»غافر هايل» من بعيد، وارتبكت ،وشعرت بحرج ،وخجل ،وصافحنى «غافر» وقال لها :
ـ إنطلقى إنتى ..أنا ليه طريقتى ..
وانطلقت من دون كلام أوسلام ،وقال «غافر هايل» الوارث عن أمه عشرين فدانا مزروعة بأشجار الفاكهة فى «أشقاو» :
ـ تشرب شاى ولا قهوة ولا حاجة ساقعة ؟
ـ إنت اللى جاى ونا قاعد ،تشرب إيه إنت ؟
ـ ولاحاجة ..
وقلت له بود مصطنع :
ـ فين ؟ ..مختفى بقى لك مدة ..
ـ اختفاء مقصود ..
ـ مقصود..خير؟
ـ حبيت أسيب لك المجال مع «حورية» ،لكن ما نفعش..
ـ مجال إيه؟
ـ مجال العلاقة والحوار..
ـ هيه قالت لك حاجة عنى ؟
ـ حورية دى بنتى ،أنا اللى مربيها ، كل سرها عندى ،كنت أتمنى تقربوا من بعض ، لكن دماغها فى حته تانية ..
ـ وضح قصدك ياريت..
ـ حورية بكل وضوح ،بتحب واحدتانى ..
ـ تمام ،ربنا يسعدها ..
ـ5ـ
..أمام محطة مترو»السادات»،ميزت ملامح «حورية محارب» ،الأمراستغرق عدة ثوان ، لم يطرأ على وجهها المستدير،تغيير،بعض تجاعيد أسفل العينين ،لما نظرت إلى ثم نكست عينيها فى الأرض، وكانت عشرون عاما قدمضت على اللقاء الأخيرفى «قهوة البستان»،وأناأصبحت أشيب الشعر،وظهر»اللغد» أسفل عظمة ذقنى ،وتهدلت عضلات وجهى ،لكننى ميزتها ،وتألمت ،ذات الألم الذى أحسسته وأنا جالس معها فى «القهوة» ،وتذكرت المرحوم «غافر هايل « ،الذى قدمنى لها ،مات فى حادث قطارالصعيد عند مدينة «العياط» ،وتفحم جسده ،وشاركت فى توديعه حتى مقابر»المجاورين « ، وقدمت واجب العزاء لأخيه الموظف بمصلحة السكة الحديد ،و»حورية «تشاغلت بحديث مع صديقة لها ،محجبة سمينة ، وشعرها كان معقودا على هيئة «كعكة» ،واقترب «أتوبيس 67» المتجه إلى «الجيزة» ،كان فارغا من الركاب تقريبا ، ركبت بهدوء،وفتحت زجاج النافذة ، ومضى فى خط سيره المعتاد ، وأنا حزين ،أسترجع أقوالها :
ـ وإيه كمان ؟
ـ عشان أنا حبيتك ..
ـ وإيه كمان ..
رابط دائم: