منذ نشر عملها الأدبى الأول، «صخب الصمت» 2010، نجحت الروائية رشا عدلى فى أن تغزل السرد التاريخى بالفنون البصرية، كونها حاصلة على الدبلوم العالى فى تاريخ الفن التشكيلى من «أكاديمية لايم للفنون». وتوالت أعمالها الإبداعية ومثلت روايتها السادسة «شغف»عام 2017 نقلة فى مسيرتها الأدبية إثر ترشحها ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية فى عام 2018. وسبق أن فازت بجائزة «دبلن العالمية. وعقب إطلاق أحدث رواياتها «أنت تشرق..أنت تضىء» كان لنا معها هذا الحوار الذى أكدت فيه أنها مفتونة بالتاريخ وأدب الحروب، واعتبرت أن التنقل بين الأزمان المختلفة فى الكتابة يثرى الخيال ويتيح المرونة فى الكتابة التى رأت أنها تمتعها قبل القارئ .
عشر روايات، الوصول مرتين لجائزة البوكر، حصول ترجمة «شغف» على جائزة «بانيبال» العالمية ووصولها للقائمة الطويلة لجائزة «دبلن» .. حدثينا عن فلسفتك ورؤيتك للإبداع ؟
هو نضج ومعرفة وخبرة بالنسبة لى، كل تجربة روائية استفدت منها تماما مثل القارئ، واستمتعت بكتابتها كما استمتع هو بقراءتها، الكيف فى الأساس وليس الكم، فأنا حريصة جدا على ما أقدمه لقرائى لأنى أعلم أنهم على درجة عالية من الوعى والفهم والذكاء، وهذا يهمنى جدا ويسعدنى أيضا، فعندما يأتى قارئ ليخبرنى بأنه أخذ يبحث وراء معلومة، أو حدث، أو لوحة، فذلك بالتأكيد شيء جميل وفى اعتقادى أن كتابة الأدب مسئولية كبيرة، يجب على الكاتب تقديرها وتحملها، وكلما زادت شهرتك ونجاحك تزداد هذه المسئولية، كثيرا ما كنت أعتقد مثل الآخرين أن الموهبة وحدها قادرة على صناعة أدب جيد، ولكن مع الوقت تأكدت أن الموهبة وحدها ليست كافية ويجب على الكاتب أن يصقلها دائما بأنواع شتى من المعرفة والتجارب.
أعمالك الأدبية يغلب عليها الطابع التاريخى.. لماذا؟
أنا مفتونة بالتاريخ وأجد فيه شغفى وهو ملهم لى وعلى وجه الخصوص أحداث بعينها، أتناول التاريخ من منظور مختلف لا أسعى وراء الأحداث والشخصيات المهمة والكبيرة بل ألقى الضوء على تفاصيل كانت أقل من أن يهتم بها أحد، وبالرغم من ذلك لها تأثير كبير على الحياة والمجتمع، وأقصد بالتفاصيل شمولية الحدث وكل ما يحيط به، فمثلا عندما كتبت فى رواية «آخر أيام الباشا» عن حدث إهداء الزرافة لملك فرنسا كان راعى الزرافة حسن البربرى هو البطل وهو المحرك الرئيسى للعمل وللأحداث وكذلك زميله عطى، وكان للقنصل الفرنسى دور، وأظهرت الحياة الاجتماعية والثقافية فى كل من فرنسا ومصر فى ذلك الوقت وعلاقة الشرق بالغرب هذا تحديدا ما يحدث فى جميع أعمالى التاريخية، الحدث من أسفل ومن ثم يتدرج حتى يصل للقمة وليس العكس.
مدى تأثر أعمالك بدراستك لتاريخ الفن التشكيلي؟
الأمر أشبه بالدمية الروسية «ماتروشيكا» كلما فتحتها وجدت دمية أخرى بداخلها، فتاريخ الفن هو جزء من التاريخ لأنه يبحث فى تاريخ القطعة الفنية وكل ما يحيط بها، وما وراء رسمها فى فترة زمنية معينة. ذلك بالتأكيد يقودك للبحث فى التاريخ الذى بدوره يسهم فى كتابة رواية ما، فمثلا لوحة «تفتيش ليلي» للفنان الهولندى «رامبرانت» دراستها مدخل لفهم الحياة السياسية والاجتماعية فى هولندا فى آخر القرن الخامس عشر، ولوحة «آكلو البطاطس» للفان «جوخ» تقودك لمعرفة الحياة الاجتماعية فى طبقات الريف الفرنسى فى ذلك الزمان وكذلك الحال فى لوحة «لاعبو الورق» «لسيزان». وذلك قد يساعد فى فهم أكثر.. لماذا يغلب على أعمالى الجانب التاريخى، فتاريخ الفن والتاريخ هما وجهان لعملة واحدة. بعض الأعمال و تندرج تحتها الفكرة الرئيسية للرواية مثل رواية «شغف» ولوحة «زينب البكرى» ورواية «آخر أيام الباشا» ولوحة «حسن البربري» المعلقة فى متحف اللوفر وكذلك روايتى الجديدة (أنت تشرق .. أنت تضىء) عن لوحات وجوه الفيوم.
رواية «صخب الصمت» 2010 تدور أحداثها منتصف القرن الماضى، تستعرضين خلالها واقع الحياة خلال الحرب العالمية الثانية.. فكيف جاءت فكرة عملك الأول؟
هى أول عمل لى وبالرغم من أن الكثير من الكتاب دائما يتبرأون من تجربتهم الأولى إلا أننى أحببتها وأفتخر بها لتضمنها ما أحببته وأردت كتابته، لطالما كنت مفتونة بأدب الحروب والقصص التى تكمن وراء ذلك، وفى فترة معينة كنت أقرأ كل ما يتعلق بالحروب سواء أعمال أدبية، أو كتب توثيقية وأعتقد أن ظلال ذلك خيم على جميع أعمالى (حروب وثورات وانتفاضات) فمنذ ظهور الأدب كانت الحرب هى أحد مواضيعه الأساسية. وهناك كتاب عنوانه «الحرب والأدب» يؤكد ذلك، وهو كتاب جماعى أشرفت عليه «لورا ايش» أستاذة الأدب الإنجليزى فى جامعة أكسفورد و«إيان بيترسون» الشاعر وأستاذ اللغة الإنجليزية فى المعهد الملكى البريطانى، وهذا الكتاب يشير بالمراجع إلى أن الحرب كانت الموضوع الأول للأدب، وهذا صحيح فى جميع الأزمنة، هذا إذا لم تكن موضوعها الوحيد فى العديد من الأحيان. جاءت فكرة العمل من هذا المنطلق فى الأساس، وكيف كان تأثير الحرب العالمية الثانية على مصر وبالتحديد مدينة الإسكندرية كبيرا ومدمرا فى الوقت الذى لم تكن مصر طرفًا فى الحرب.
لماذا اخترتِ لوحات «وجوه الفيوم» محورا لروايتك التى صدرت مؤخرا «أنت تشرق أنت تضيء»؟
بجانب أهمية هذه الأعمال من الناحية الفنية والتاريخية، حيث إنها تحمل سمات ثلاثة من أهم وأعظم الحضارات القديمة، المصرية والإغريقية والرومانية، وتعد أول رسم ذاتى يحمل المفهوم فى رسم البورتريه، فأنا مفتونة بها وذلك منذ رأيتها للمرة الأولى منذ سنوات طويلة. هذه الوجوه لها تأثير كبير على المشاهد لا تستطيع أن تتأملها وتمضى، هذا إذا كنت شخصًا عاديا فما بالك إن كنت من المهتمين بالفن والتاريخ، والبحث فيما وراء الخفايا والأسرار. تابعت على مدار سنوات طويلة الكشف الذى أسفرت عنه الأبحاث وراء هذه الوجوه وكان هناك دائما المزيد من الاكتشافات المثيرة والمبهرة فى المجال التاريخى والتشكيلى. لذلك ظلت هذه الوجوه تراودنى. وكشف بعد آخر كنت اكتب فصول هذه الرواية فى عقلى حتى اكتملت الفكرة وشرعت فى كتابتها. الرواية تعكس حالة من الافتتان باللوحات.
تدور أحداث رواية «شغف» بين زمنين مختلفين، الرابط بينهما لوحة فنية تعود إلى أيام الحملة الفرنسية.. فما الضرورة الفنية لتلك التقنية فى الكتابة؟
عندما أكتب عن تاريخ فأنا ملزمة بحدود معينة، والكتابة التاريخية جامدة إذا لم يتداخل معها عنصر الخيال بقدر كبير، وفى النهاية أنا أكتب أدبا وليس تاريخا، وأعتقد أن التنقل بين فترات زمنية متعددة يتيح المزيد من المرونة وممارسة الخيال بشكل أكبر. وفى أغلب أعمالى أحيل ما يحدث فى حاضرنا إلى الماضى، فأصطحب القارئ فى جولة عبر الزمن لنرى أن ما نعيشه اليوم ونعانى منه أو نحبه هو بدون شك يترتب عليه أحداث ووقائع سابقة. ففى رواية «شغف» ترميم لوحة حرقت فى حادث حريق المجمع العلمى بعد ثورة 2011 يقود لكشف أحداث كبيرة ومهمة فى تاريخ إنشاء هذا المجمع، ويفتح أبواب الماضى على مصراعيه.
إلى أى مدى تحقق لك الصيت والانتشار بعد ترشحك للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2017؟
إلى حد كبير تحققا، فجائزة البوكر هى أهم جائزة أدبية فى العالم العربى، وتلقى الضوء بالتأكيد على أعمال مهمة، ومن خلالها يمكن للكاتب أن يخرج من المحلية إلى الإقليمية ومن ثم إلى العالمية. وهذا تحديدا ما حدث معى فرواية «شغف» ترجمت للإنجليزية وحصلت على جائزة «بانيبال» ووصلت للقائمة الطويلة لجائزة دبلن.
«جهاد» بطل الرواية حرص خلال الأحداث على تغيير الصورة التى رسمها التاريخ عن «محمد على باشا» ...فهل تحقق له ما أراد؟
هل لو أخبرتك مثلا أن هناك الكثير من القراء أخبرونى أنهم بدأوا فى معرفة محمد على باشا بشكل أفضل وفهمه بشكل مختلف، بل وذهبوا لأكثر من ذلك فبحثوا أكثر فى تاريخ هذا الرجل، لإعادة اكتشافه من جديد وهذا ما حاول جهاد أن يثبته عن هذا الرجل، فهو يرى فيه ما لم يره المؤرخون، فحاول أن يبدل تلك الصورة النمطية التى درسناها عنه فى كتب التاريخ محاولا أن نفهمه كما نراه من خلال عقولنا وأفكارنا نحن وليس كما يريد البعض.
كتاب «القاهرة المدينة والذكريات» تجولتِ خلاله فى الأزقة والحارات وسجلتِ بالقلم حياة أرباب المهن والصناعات.. حدثينا عن فكرة العمل؟
أعتبره عملا توثيقيا لمدينة القاهرة فى القرنين الثامن والتاسع عشر من خلال رحلات المستشرقين، ويعد ذلك العصر بما يسمى العصر الذهبى للاستشراق، وفد فيه الكثير من المستشرقين إلى مصر من مختلف أنحاء العالم وفى مختلف المجالات أدباء ورسامين وفنانين، وقد سجلوا بأقلامهم وفرشاتهم أحوال مدينة القاهرة بشكل خاص وأيضا بعض المدن المصرية، فمنذ أن اعتلى محمد على حكم مصر فتح الباب على مصراعيه للمدنية والحضارة ورحب بكل من جاء من أوروبا، وقد استمر العصر الذهبى للاستشراق، ووصل ذروته خلال فترة حكم الخديوى إسماعيل. وكتاب القاهرة يرصد ويوثق جميع الأحداث المهمة على جميع الأصعدة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وأحوال البلاد والعباد ومزود بمجموعة رائعة من اللوحات الاستشراقية، وينقسم الكتاب إلى قسمين، الأول تناولت فيه حكم مصر فى الأسرة العلوية منذ حكم محمد على حتى حكم الخديوى إسماعيل، الثانى عن الاستشراق فى ذلك الوقت.
كيف تقيمين دور النقد والنقاد لأعمالك؟
أعمالى أصبحت تقابل بأهمية من قبل النقاد مقارنة بالسابق، والاهتمام ليس فقط من النقاد المصريين ولكن من جميع أنحاء الوطن العربى، وهو شيء جيد وفى صالح العمل فى المقام الأول، لأنه يزيد من قيمته ويمنحه أهمية. ويسعدنى أيضا أن أعمالى يتناولها الكثير من النقاد فى كتبهم المعنية بالنقد الأدبى، ويتناولها طلبة الدراسات العليا لنيل أطروحاتهم.
رابط دائم: