برغم مرور أكثر من عقد ونصف على وفاته، وعقود على نشر رواياته وقراءتها ودراستها نقديا و تكييفها فى فنون مختلفة؛ سيظل صاحب نوبل، نجيب محفوظ يثيراهتمام الباحثين والنقاد فى محاولتهم لاكتشاف المزيد عن سر معينه الإبداعى وبصمته الأدبية، ربما أحدث تلك الاكتشافات هو محاولة تقصي أبعاد العلاقة المهنية والصداقة التى جمعت بين محفوظ وناشره الأول الكاتب عبد الحميد جودة السحار، صاحب “مكتبة مصر» وكيف تأثر كل منهما بالآخر إبداعيا فى أعماله عبر مقاربة إبداعية اختص بها كتاب جديد ننفرد بعرضه وقراءته اليوم قبل طرحه بالأسواق، مقاربة تعكس ميل محفوظ الدائم إلى التجريب فى كتاباته وتمرده على الكلاسيكية بحثا عن روح الرواية النابعة من روح التعقيد.
التجريب، الذى مارسه محفوظ على مدى خمسين عاما بحثا عن الحقيقة، طور خلالها روايته الخاصة وترك بها أثرا كبيرا على الرواية العربية والإنسانية العالمية، جعله يكتب دائما ما يريد منفتحا على آفاق لا تقبل بالانغلاق . هذا الانفتاح، للأسف، واجهه انغلاق نقدى كجزء من أزمة النقد العربي المعاصر المحتجز طوعا بالأكاديمية والتقليدية، مما جعله محدودا فى تعامله مع النص الأدبي، ومن بينه نص محفوظ، بينما الانفتاح على القراءة المتعددة المرتبطة بالفنون والمعارف تقود إلى انفتاح النص وتأويله على مستويات متعددة، هو ما أثبته وأكده بالتجربة جهد بحثى ونقدى رائع قدم قراءة مغايرة لأعمال محفوظ من زاوية معرفية فلسفية بحثا عن بلورة لفلسفته الروائية. مما يؤكد أن أعمال محفوظ لا تزال تخفى المزيد من الإمكانات الأدبية العظيمة التى لم يتم اكتشافها ودراستها بعد.
تمثل علاقة صاحب نوبل، نجيب محفوظ بناشره الأول «مكتبة مصر» ثنائية فريدة من ثنائيات المشهد الأدبي .لم تكن علاقة محفوظ بالمكتبة مجرد علاقة ناشر بمؤلف بل كانت أعمق من ذلك.
عرف السحار أن محفوظ لم يجد ناشرا يقبل بقصصه لأنه لم يكن كاتبا مشهورا بعد، حيث كان يبحث عن ناشر لروايته «رادوبيس»، فزاد الأمر من إصرار السحار على تأسيس دار نشر تهتم بإبداع شباب الأدباء المغمورين فأخذ السحار «الناشر» بيد محفوظ «الكاتب» وهما بمطلع الثلاثينيات من العمر، ليصبح ناشره الأشهر طوال مسيرة محفوظ الإبداعية.
محفوظ والسحار.. تأثير إبداعى متبادل
تلك الصحبة الإنسانية والمهنية اللافتة، التى امتدت نحو35 عاما، لفتت انتباه الكاتب د.سامح الجباس ليرصد أبعادها ويحللها فى كتابه الذى سيصدر خلال الأسابيع القادمة عن دار ريشة بعنوان «محفوظ والسحار..أسرار روائية» ، والذى ننفرد اليوم بعرضه وقراءته قبل طرحه رسميا بالأسواق. جذبت العلاقة بين محفوظ والسحار، الجباس لسنوات طويلة، خاصة بعد قراءته لمذكرات الأخوين السحار وما كتباه عن علاقتهما بنجيب محفوظ، فعكف على دراسة متأنية للأعمال الروائية للصديقين محفوظ والسحار باحثا عن إجابة سؤال ظل يلح عليه: هل تأثر نجيب والسحار ببعضهما البعض روائيا وإبداعيا؟ ليقدم لنا مقاربة أدبية وإبداعية تكشف عن مفاجآت غير متوقعة حول كيف تأثرا ببعضهما البعض إبداعيا لدرجة وصلت أحيانا إلى تشابه الشخصيات فى أعمالهما من حيث الوصف الشكلى والحياة الاجتماعية والمصيرالنهائي، وذلك خلال إبحاره فى كتابات الصديقين منــذ عــام 1939 إلى عام 1974 بعد استبعاد الروايـات الدينيـة والتاريخيـة للسـحار لعـدم وجـود مثيـل لنوعهـا عنـد محفـوظ.
منذ عام 1943 كان محفوظ والأخوان السحار يلتقيان كل جمعة مع مجموعة من الأصدقاء سميت بـ»شلة الحرافيش» يتناقشــون فى نـدوة أدبية ثقافية، واستمر ذلك اللقاء يعقد بانتظام على مدى 30 عاما حتى وفـاة عبـد الحميـد السحار. كان عبد الحميد هو أول من يقرأ أعمال محفوظ بوصفه ناشره .سبق محفوظ السحار بدخول الساحة الأدبية، وكانت أول رواياته «عبـث الأقـدار» تدور بالعصر الفرعونى ، لاحقا فى عـام 1943 أصدر السحار أول أعماله «أحمــس » و«أبــو ذر الغفــاري» رواية فرعونية وأخري دينية، ويبدو أن اختيـار السحار البدء برواية فرعونية كان تأثرا برواية محفوظ الأولى. اختار السحار شخصية أحمس بطلا لروايته وفى العام التالى 1944 نشر محفوظ روايته «كفاح طيبة» التى تناول فيها قصة أسرة أحمس، فهل كان للجلســات المشتركة بـيـن محفــوظ والسحار تأثـير فى اختيارهما لنفس الشخصية رغم ثراء التاريخ الفرعونى بشخصيات ملهمة مختلفة ؟.
سبق السحار محفوظ فى كتابة رواية الأجيال بروايته «فى قافلة الزمان» هي أيضا أول رواية واقعية للسحار، وتـدور أحداثها فى حـي الحسـينية ، وهـو حـي مصـري شـعبي مثـل خان الخليلــي وزقـاق المدق الذى كتب عنه محفوظ برواياته، ويلفت الجباس إلى التشابه بين تلك الرواية وبين رواية محفوظ «بين القصرين» فبطل الرواية أسعد وأحمد عبد الجواد يتشابهان فى وصفهما الشكلى، وكلاهما يعيش وأسرته فى بيت عائلة كبير وكلاهما يخون زوجته. وهنـاك سـمات مشتـركة بينهـا وبـين روايـات محفـوظ السـابقة مثل الاهتـمـام بوصف القاهرة كما فعــل محفــوظ، وتسـجيل بعـض الطقـوس الشـعبية .كما أن المشـهد الأول بهـذه الروايـة يشـبه إلى حـد غريـب المشـهد الأول مـن روايـة «الحرافيـش» لنجيـب محفـوظ التـي سـتصدر لاحقا عـام 1977.
تعتبر «المستنقع» ، التى تحـكـي قصــة أخــت تســتولى على خطيــب أختهــا، رواية مختلفة للسحار لجــرأته الحسية غـيـر المســبوقة بهذه الرواية، التى يبدو متأثرا فيها بأبطال ثلاثية محفوظ بدليل أنها لم تتكرر لاحقا فى أى من رواياته. أيضا فى روايته «أذرع وسيقان» برزت الاستشهادات الفلسفية ربما تأثرا بصديقه محفوظ فى روايته «قصر الشوق».
فى عام 1965 كتب السحار أضخم رواية عربية منسية، كما يصفها الجباس، «إبراهيم أبو الأنبياء» وهى رواية عن السيرة النبوية منذ عهد إبراهيم، عليه السلام، وحتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تزخر بعشرات الأحداث التاريخية، ومئات الشخصيات.ويبدو أنها أتت ردًّا على ما جاء فى رواية محفوظ « أولاد حارتنا».
لم تخل الدراسة من المفارقات مثل الدور الكبير للمكوجية فى طباعة رواية «رادوبيس»، فبسبب ارتفاع أسعار الورق اضطرت مكتبة مصر لشراء ورق تم انتشاله من سفينة غارقة لطبع الرواية، وتمت الاستعانة بالمكوجيـة ليبسـطوا مـا بـه مـن تقلصـات حتى يصلح للطباعة، لذا كما يقول الجباس ربما لولا المكوجية لما كنا قد قرأنا «رادوبيس»!.
يقول الجباس إن الإصرار على الإجادة فى فن الرواية ومحاولة استكشاف عوالم جديدة توسع من أفقها كان المشترك الرئيسي الكبير بين الكاتبين ، ولكن تميز نجيــب محفــوظ بالجسارة الأدبية التى دفعتـه إلى التجريب مبكرا، بينما ظل عبــد الحميــد الســحار محبوســا داخل الكلاسـيكية يخاف مغادرتها. قـضى نجيــب محفــوظ عمــره باحثا عن « روح الرواية « النابعة من روح التعقيد، كما وصفها ميلان كونديرا، على عكس صديقــه عبــد الحميــد السحار.

انغلاق نقدى
برغم مرور عقود على نشر رواياته وقراءتها ودراستها نقديا أو تكييفها فى فنون مختلفة، ومع جنوحه للتجريب والتعقيد فى رواياته؛ مازالت أعمال محفوظ تخفى إمكانات أدبية عظيمة لم يتم اكتشافها ودراستها بعد، لم يستطع النقد العربي أن يقف حتى الآن على أعتابها ليقدم ما يليق بمحفوظ وبمكانته، وربما يرجع ذلك بالأساس إلى أزمة النقد العربي المعاصر، بحسب ما يؤكده الناقد د. محمود الضبع فى كتابه «أزمة النقد وانفتاح النص : نجيب محفوظ والفنون السبعة»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ينتقد الضبع انغلاق النقد العربي وإغراقه في الأكاديمية، مما يتطلب إعادة وضع أسس لقراءة نقدية ثقافية متشابكة تتسم بسعة الأفق بهدف إعادة التواصل مع الخطاب الثقافي المعاصر بأبعاده، وأجياله المتنوعة، وتعدد الأذواق العامة للاستقبال والتلقي. وفى هذا السياق يتناول الضبع كتابات نجيب محفوظ، واشتباكها مع الفنون السبعة، ومع فروع المعرفة المختلفة كالفلسفة والاجتماع والتراث، وكيف أثر انفتاح نصوصه على النقد الأدبي.
يعتبر أن القراءة الكلية لأعمال محفوظ محيرة لتشابكها مع الفنون السبعة ومع الحقول المعرفية العديدة التى تجلت عنها تلك الفنون ، وخاصة مع معايشته لأعماله الإبداعية في تحولها إلى سينما (الفن السابع الذي جمع كل الـفـنـون) واشتباكه معها عبر نصوصه الإبداعية، وهو ما يمكن رصده في كثير من أعمال محفوظ السردية. وهذا سبب أدعى لضرورة عدم اعتماد مدخل وحيد لقراءة هذه الأعمال، وإنما تفرض الأعمال من داخلها تعدد المداخل والقراءات وليس فقط تطبيق منهج نقدى بعينه. مما سيدفع بالنظر إلى كتابات نجيب محفوظ باعتبارها نصوصاً مفتوحة على تأويلات تتشابك والفنون السبعة فتظل متجددة ومتطورة استنادا إلى تطور وتجدد تلك الفنون وإلى تطور الأدب والنقد نفسه، ومن شأن ذلك إعادة النظر في قراءة نجيب محفوظ، وعدم حصره فقط في مراحل التقسيم التاريخي والواقعي والفلسفي، والخروج به إلى انفتاح النص، وتعدد القراءات والاتجاهات، وتداخل الفنون والآداب، والتفكير في ثقافته وليس في تخصصه فحسب، لذا لم تعد المداخل النقدية التقليدية تصلح معه .
تنوع ثقافى وتأثير للسينما
يبرز الضبع تنوع الحضور الثقافى فى أعمال نجيب محفوظ الروائية والقصصية لما حملته من تسجيل لأثر الثقافة على الشرائح المتنوعة من البشر، ورصد الثقافة في إنتاجيتها وليس على مستوى التداول النظري فقط، فاستطاع أن يصـور القاع في علاقته بالقمة، وشرائح المجتمع المصري على اختلاف مستوياتها بالثقافة والفلسفة والدين والدولة والحضارة، وأثر ذلك على تشكيل الشخصية المصرية وتوجهاتها الفكرية.
واستطاع محفوظ كذلك أن يعود إلى التاريخ ليس لمجرد استحضار معانيه، أو إعادة حكيه وإنما ليسائله، ويحلل معطياته، لفهم حركات الحياة الزمنية وتحولاتها في امتدادهـا الحـاضـر الذي لا ينفصل عن نشأتها في الماضي، مثل أعماله التاريخية :أمـام الـعـرش ، والعائش في الحقيقة، وكفاح طيبة، ورادوبيس، وعبث الأقدار، وغيرها. مثل الواقع السياسي رافـدا كبيرا فى روايات محفوظ من الملكي إلى الجمهوري، وتحولات الوضع السياسي بعد ثورة يوليو١٩٥٢ وبخاصة إلى الفكر الاشتراكي، ثم العدوان الثلاثي، ثم نكسة عام ١٩٦٧، وتحولات عهد السادات، وسياسة الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية، والديمقراطيات الشكلية، وغيرها من النظم السياسية التي كان لها تأثيراتها على أبنية المجتمع وثقافته .
وأتت أيضا ثقافة الدين وفلسفة العلم فى أعماله التى صنفت كأعمال فلسفية، مثل «قلب الليل» ، و»رحلة ابن فطومة» . وفى هذا السياق لم يغفل محفوظ ثقافة النخبة فى الحضور المتنوع لأشكال وأنواع المثقف برواياته، وهو ما تتضمنه جميع أعماله منذ رواية «القاهرة الجديدة « الصادرة عام 1945، وانتهاء بمجموعته القصصية « فتوة العطوف» الصادرة عام 2001.
شغلت الأسرة المصرية وتحليل روافدها الثقافية نجيب محفوظ، فصورها لنا عبر أعمال متعددة، وتبرز الثلاثية كنموذج قوى لذلك برصدها لتحولات الأسرة المصرية عبر أجيال متعاقبة، وتقف معها على خط سواء روايات عدة منها: حديث الصباح والمساء، محفوظ خصيصا للسينما، وهو ما يفتح الباب أمام دراسة هذه العلاقة المتبادلة بين تأثير محفوظ في السينما وتأثره بها في كتابته السردية، وامتد هذا التأثير فيما بعد مع الأجيال التابعة لنجيب محفوظ .

الشر والوجود والأسئلة الكبرى
ما ينتقده الضبع من انغلاق نقدى يؤدى بالضرورة إلى انغلاق النص وقراءته بينما الانفتاح على القراءة المتعددة المرتبطة بالفنون والمعارف يقود حتما إلى انفتاح النص وتأويله على مستويات متعددة، هو ما أثبته وأكده بالتجربة الجهد البحثى والنقدى الرائع للناقد فيصل دراج فى كتابه الجديد «الشر والوجود: فلسفة نجيب محفوظ الروائية»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، الذى لابد وأنه قد استغرق منه أعواما من البحث والدراسة ليخرج بهذا المستوى العالى من العمق والرصانة.
فى محاولته للبحث فى فلسفة الكاتب الروائية وبلورتها؛ يقرأ دراج هنا أعمال محفوظ من زاوية معرفية فلسفية فيفتح بذلك نصوص محفوظ لتتكشف همومه الفكرية والأسئلة الكبرى التى حيرته، وما برح يحاول بحث إجاباتها فى أعماله وهو الروائي الدارس للفلسفة التى أرهقته فجعل أدبه وعاءً فكرياً رسم خلاله فلسفته الروائية الخاصة التى حددت نظرته إلى الوجود والعالم، نظرة لونتها المفارقة والسخرية من وضع الإنسان، وقيوده المفروضة عليه من السلطة والقدر، ومدى حريته فى هذا العالم، يستهل دراج قراءة النص المحفوظي بمداخل ثلاثة تضىء تقنيته وفلسفته : السلطة والمفارقة، والصدفة. رصد هذا النص الوجود الإنساني في وجوهه الأساسية المتمثلة في رعب الزمن ودلالة الموت، وفي ذلك «السر» الذي يعاني منه الإنسان ولا يستطيع تفسيره. أفضت هذه الوجوه إلى مقولة استقرت في ثنايا عالم محفوظ الروائي، عنوانها الأكبر «الشر» في مراتبه المتعددة،التي يرى دراج أنها تغلف عمل محفوظ السردي كله، وتشكل وسيلته لتأويل الوجود، وعلاقة الإنسان بخالقه، وبالكون، وبالواقع المادي، وبالحياة والموت. وبحسب دراج، فقد وصل محفوظ إلى نتيجتين: أبدية الشر الإنساني الذى لا حدود له، وأن تحرير الإنسان من مسئولياته، يبرئه من تهمة الشر التي يمكن أن تصمه لتحمل وزره الأقدار، فيصبح الفرد متجردا من قدرته الفاعلة وحريته بالاختيار.

علاقة مضطربة مع السلطة
فى مدخله عن السلطة يؤكد دراج أن محفوظ عمد فى «عبث الأقدار» أن يكون سؤاله عن الفرعون وشعبه مدخلا لحكاية تبرهن عن شرور السلطة، حيث حول الروائي أسطورة قديمة إلى رواية تسائل الحاضر بمنظور سياسي، منتقدا السلطة المتوارثة التى تنكر حق الشعب في اختيار حاكميه، ليحيل ذلك إلى حاضر مصري كان يفتقر إلى المجد والعدل والحرية معا. وانتقل فى «القاهرة الجديدة» و»يوم قتل الزعيم» لينتقد السلطة وصناعة الأقنعة الزائفة، واستغل حضور الفتوات فى رواياته لإسقاط تلك الأقنعة.
كان محفوظ فى عداء دائم مع السلطات المختلفة وهياكلها التى تضطهد الإنسان بأشكال متنوعة. يعتبر دراج أن محفوظ أنجز بجرأة مشروعا روائيا، قصر عنه الروائيون العرب جميعا عندما اختبر»الحقيقة الروائية» معتبرا أن الرواية بحث في الحقيقة، وأن صعوبات البحث عن الحقيقة تبدأ بالسلطة قبل غيرها، وأن السلطات المستبدة تأمر بأشكال روائية جديدة، يتكامل فيها الإبداع والمقاومة.
لا رواية دون مفارقة وصدفة
وظف محفوظ أيضا ببراعة تقنيات المفارقة التي تعلن عن نظرة الروائي إلى العالم. تتعين المفارقة، نظريا، فى المواجهة بين ضدين ينتج عنها فعل روائى. تعلن المفارقة عن هشاشة الإرادة الإنسانية، التي تنصاع إلى سلطة الأقدار، وتعجز عن تحقيق ما رغبت به.وهو ما اتضح فى روايته الفرعونية الأولى ، لينتقل من مفارقة الأقدار إلى مفارقة المصائر كما فعل فى روايته « خان الخليلي». تكشف المفارقة المتعددة الأشكال في نص محفوظ الروائي عن معرفته الدقيقة لدلالاتها، وعمق معرفته بالفلسفة الحديثة. يرى دراج أن محفوظ قد نظر إلى العالم والوجود بتشاؤم، وكراهية للسلطة لم تغيرها الأقدار، وعثر في مفهوم الصدفة على ما يوطد تشاؤمه وسخريته معا، وهو ما يبرز بشدة فى «ملحمة الحرافيش» بسرد عوالم إنسانية معطوبة، تعيش شخصياتها بأقدار مختلفة، وتختبر «مصادفات الوجود» المتنوعة، التي تنقل الفقير إلى عالم النعمة، وتحول الضحية إلى جان. كما واجه محفوظ، في «اللص والكلاب»بلاغة الثورة، بصدف ضاحكة لا ترتهن إلى إرادة أحد. تبدوالصدفة، عند محفوظ، سلطة مراوغة، ترأف بالمستضعفين في ساعات الغفلة، وتقف إلى جانب السلطة الشريرة.اشتق محفوظ الشر من الوجود ورأى في السلطة صوتا جهيرا له، وأذاب سؤال الشر في عطب الأخلاق والسياسة وغموض الوجود، وفي إنسان يحلم بسلطة ذاتية جديدة التاريخ متحررة من مورث سلطوي ظالم طويل. كذلك ارتكن محفوظ، في مرحلته الفرعونية، إلى تقنية القناع، الذي يحجب وراء الوجه الخارجي وجها متخفيا لا يريد الإعلان عنه، كتقنية فنية تستوعب الزمن والشخصيات والموضوع الروائي. لجأ محفوظ إلى القناع الفرعوني، ليضيء شرور السلطة في الحاضر والماضي، والتمس أقنعة أخرى في كتاباته اللاحقة، كأن يعود إلى الملحمة في «الحرافيش»، أوأن يأخذ «بالأمثولة» في» أولاد حارتنا». حجبت الأقنعة وجوه السلطة في أزمنة متباينة، واختصرتها في مكر «روائي» حاذر محفوظ الكشف عنه.
الثلاثية بين دوستويفسكي ومان وبلزاك
وفى محاولته لتحليل فلسفة محفوظ التي ترهن الإنسان بلعبة الأقدار، وبصدفة الوجود، وعدم القدرة على التأثير في اختيار مصيره، يقارن دراج بين محفوظ وثلاثة روائيين عالميين بارزين : الروسي فيودور دوستويفسكي ، والألماني توماس مان، والفرنسي أونوريه دو بلزاك . يرى دراج أن وجه الشبه بين «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي وثلاثية محفوظ يكمن فى أن كليهما تشاركا صورة العائلة، وتأمل الوجود الغامض للبشر، لكن دوستويفسكي يميل للتأويل الديني للتاريخ والوجود، ثم يصور لنا نفوسا قلقة حائرة، على عكس محفوظ الذى يرصد أحوال البشر فى ظل الفضول المعرفى وغلبة سلطة الأقدار. يتشارك توماس مان ومحفوظ أيضا تصويرهما لسطوة الزمن و»تداعي العائلة»، كما فعل مان في «آل بودنبروك: تداعي عائلة»، فعل محفوظ في ثلاثيته التي تأخذ من مان تصوره لرواية الأجيال، وكما أسقط مان على بطله تجاربه، أسقط محفوظ على كمال غربته الوجودية واستهانة غيره بميوله الأدبية. وجاء الإنسان المخفق ليكون نقطة التقاء واهتمام مشتركة بين محفوظ وبلزاك . فكما جعل بلزاك من باريس مركزا لفضائه الروائي، جعل محفوظ القاهرة القديمة فضاءه الروائي.يتفق الطرفان على الإخفاق الإنساني كظاهرة حتمية، يتبادل فيها القدر والنظام الاجتماعي المواقع، ويختلفان في الدرب الذي يفضي إليه. يمكن اعتبار «الثلاثية» كمرآة لمنهج محفوظ في الكتابة، منهجا أعلن خلاله عن فلسفة روائية متسائلة، حاورت وجودا لا يراهن عليه. قصر محفوظ، بعد الثلاثية، المسافة بين الرواية والفلسفة، أوكل إلى الأولى معالجة قضايا فلسفية وعالج المسائل الفلسفية بمنظور روائي فأفسح في الحالين مكانا لأسئلة الزمن والاغتراب الإنساني وقضية الموت. هذا الاغتراب عالجه عن قرب فى «اللص والكلاب» حيث يعيش الإنسان اغترابا سياسيا وحقوقيا يتولد عنه اغتراب وجودي يمحو العلاقة بين الفرد والمعنى، وكذلك فى رواية «الطريق» ، حيث يسأل محفوظ الوجود عن معناه ويوحي بإجابات تتضمن الأسئلة بطريقة جديدة.
الروائي وفلسفته
وبالنهاية وكإجابة لسؤال عن ماهية فلسفة النص الروائي المحفوظي؛ يوضح دراج أنه لا يمكن إرجاع فلسفة نص محفوظ الروائي إلى فلسفة جاهزة، ينطوي النص على فلسفة خاصة به، يفرض البحث عن فلسفة الرواية المحفوظية قراءتها في أشكالها المتنوعة، ورصد الثابت والمتحول فيها، لاختلاف أساليبها وموضوعها، ومن ثم تبدو الرواية المحفوظية كفناً متعدد المستويات، يبدأ من الواقع المصري ويؤكد السياق السلطوي مركزا، وينفذ إلى الإنسان في عالميه الداخلي والخارجي، رواية تصف الواقع وترسم شقاء الإنسان، لا علاقة لها بالتحريض أو بالتعويض، تتوجه إلى قارئ تعترف به وتقاسمه قلقه. ويلفت إلى أن محفوظ قد اجتهد روائيا باتكائه على الفلسفة، وعبر عن قضايا فلسفية مصاغة روائيا، حيث استفاد من معارفه الفلسفية في هندسة كتاباته الروائية، وانتاج شخصياته و مقولاته، فجعل نصه الروائي يستولد الفلسفة التي يريد، وارتكن إليها بأدوات فلسفية الدلالة أدواتها: المفارقة التي هي مواجهة الضد بالضد، والصدفة التي تبدو قانونا وتعبث بالقانون، والمجاز الفني الذي يختصر المجموع في مفرد، ويضيء بالمفرد مجموعا يتجاوزه، حال «الفتوة»، الغليظ القوي، ينهر الخير ويستقوي به الشر، ويضم بين دفتيه نماذج مختلفة الأزمنة: الفرعون، الملك، الرئيس، الزعيم، الأب، الموظف السلطوي...إلخ . كما يشير دراج؛ لقد طور محفوظ الرواية العربية وهو يطور روايته على مدى خمسين عاما مر خلالها بأشكال روائية مختلفة جنح فيها إلي التجريب مما جعله يكتب دائما ما يريد منفتحا على آفاق لا تقبل بالانغلاق. أعطى محفوظ لأسئلة الوجود المتدفقة صياغة روائية، مختصرا المسافة بين الروائي والفلسفي والنسبي والمطلق والواقعي والأسطوري والعقلاني الصريح والغامض المحوط بالأسرار.
اقترب محفوظ من فكرة كون العقل الإنساني متعددا مشبعا بالاحتمالات، فالفلسفي يكمل العلمي ويستدعيان معا الديني ويتحاورون جميعا داخل الرواية، وخارجها. يجاور المتخيل الروائي ألوان المعارف المتعددة، طالما أن هواجس الإنسان لا تنفصل عن معارف متعددة، تلك المعارف نفسها فى تداخلها وتشابكها مع المتخيل الروائي تفرض قراءة جديدة متعددة الطبقات والمستويات للنص تجعله منفتحا على الحوار داخليا وخارجيا، وهو ما فعله هنا بجدارة فيصل دراج فى تقصيه ومحاولته لبلورة فلسفة محفوظ الروائية من زاوية معرفية فلسفية.
رابط دائم: