وجه الشاعر العظيم جبران خليل جبران رسالته الشهيرة للبيئة: «لو أصغت الطبيعة إلى مواعظنا فى القناعة لما جرى فيها نهر إلى البحر، ولما تحول شتاء إلى ربيع». ولكن ما تمر به أوروبا ومناطق عديدة فى آسيا وأمريكا حاليا خير دليل على أن أنهارها تدفع ثمن الأخطاء البشرية التى تلاعبت بالتوازن البيئى، لتفقد ماءها العذب وتظهر فى قيعانها الجافة «حجارة الجوع».
فقد تسببت موجات الحر المتواصلة فى انخفاض منسوب المياه وجفاف الكثير من الأنهار من الصين وباكستان، حتى العراق وأوروبا ممتدة إلى أمريكا. ما أدى إلى أزمات عميقة ضربت الملاحة والسفن والزراعات، ولم يستفد من المحنة سوى بعض الكنوز المدفونة فى الأعماق، واستغلت نقص منسوب المياه لترى ضوء الشمس بعد ظلام مئات السنين.
وامتدت الاضطرابات العنيفة، الناجمة عن تبخر مياه نهر الراين فى جبال الألب السويسرية على الحدود الألمانية وهولندا، إلى حركة التجارة عبر هذا الشريان الحيوى، والذى يعد عنصرا مهما للنقل بين دول القارة، ويسهم بنحو ٨٠ مليار دولار فى اقتصاد منطقة اليورو، حسب بيانات هيئة «يوروستات». وحدد العلماء أسباب الجفاف القاتل فى التغيرات المناخية التى أدت إلى ارتفاع درجات حرارة الأرض بنسبة درجة واحدة مئوية، وتراجع التساقطات الثلجية خلال فصل الشتاء، الذى انعكس على حجم المياه التى تندفع عادة من الجبال.
وأطلقت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن تحذيرها السريع بتشكيل فريق للتعامل مع موجة الجفاف الأسوأ فى تاريخ البلاد منذ ٦٤ عاما، خصوصا بعد أن اصطدمت سفينة حكومتها بصخور ١٠٠ منطقة باتت تعانى من غياب تام للمياه الصالحة للشرب، ومن المتوقع أن يستمر الوضع خلال الأشهر المقبلة.
ونضبت منابع نهر التيمز البريطانى لتضطر الحكومة الجمعة الماضى إلى إعلان دخول أجزاء من جنوب ووسط وشرق البلاد رسميا فى حالة جفاف، بعد فترة طويلة من الطقس الحار، وقال وزير المياه البريطانى ستيف دوبل «سنواصل مراقبة الوضع عن كثب، بما فى ذلك الآثار المترتبة على المزارعين والبيئة، واتخاذ المزيد من الإجراءات حسب ما تقتضى الحاجة».
وبالأرقام، كشف مكتب الأرصاد الجوية أن موجة الجفاف هزت أرجاء المملكة المتحدة ٨ أشهر متصلة منذ نوفمبر ٢٠٢١ وحتى يونيو ٢٠٢٢ فى ظل ما سجلته بريطانيا من درجة حرارة تجاوزت الـ ٤٠ لأول مرة فى تاريخ البلاد.
فيما عاشت إيطاليا مظاهر جفاف بطلها نهر «بو» الذى كان يبلغ طول تدفقه ٦٥٢ كيلومترا، وفجأة تراجع إلى ١٠٪ عن المعتاد، وانتقلت العدوى إلى مياه أنهار بلجيكا التى لم تفقدها منذ عام ١٨٨٥.
أما الصين، فقد أعلنت إنذارا عاما فى البلاد من الجفاف، بعدما أصاب نهر يانجتسى العظيم فى إقليم سيشوان، إثر تراجع مياه الأمطار الموسمية إلى النصف تقريبا.
ولم تسلم الأنهار فى أستراليا والهند والولايات المتحدة من موجة الجفاف، التى أصابت نهر كولورادو وريو جراندى الأمريكيين ونهر موراى الأسترالى الذى يعانى من العديد من الأزمات البيئية.
لقد خرجت «حجارة الجوع» عن صمتها منذ القرن الخامس عشر، وابتلعت مياه أوروبا بين صخورها فى القرن الواحد والعشرين، لتصرخ أمام ملايين البشر :»إذا رأيتنى فابكِ» إيذاناً بأن المصاعب والأهوال وشبح العطش ينتظر البشرية جمعاء!.
رابط دائم: