لا يعرف الكثيرون عن فترة ازدهار المسرح الغنائى والدرامى المصرى فى أوائل القرن العشرين إلا أسماء بعض النجوم اللامعين من أبناء تلك المرحلة مثل نجيب الريحانى ويوسف وهبى وعلى الكسار وفاطمة رشدى وعلى أكثر تقدير فنان الشعب الموسيقار سيد درويش.. لكن هناك أسماء أخرى لا تقل أهمية بل ربما هى الأسماء الأهم التى صنعت بإبداعها الخلاق تلك الحركة المسرحية الغنية ومنهم الكاتب محمد تيمور مؤلف رواية العشرة الطيبة والشاعر بديع خيرى الذى وضع أشعارها وأغانيها وحولها إلى أول «أوبرا كوميك» فى الشرق.. وبالطبع قائد ذلك العمل المخرج المبدع عزيز عيد الذى تزامل مع الريحانى ثم مع يوسف وهبى ومع جورج أبيض وفتوح نشاطى وكان الجندى المجهول وراء معظم النجاحات الفنية المبتكرة.. وفى افتتاح الدورة الخامسة عشر للمهرجان القومى للمسرح المصرى والتى أطلق عليها دورة المخرج قرر الفنان عصام السيد أن يخلد جانبا من رحلة أستاذه وأستاذ الأجيال عزيز عيد وأن ينصفه أمام التاريخ باعتباره عاش كالراهب فى محراب الفن..
سافر شيخ المخرجين الأوائل عزيز عيد ودرس وأبدع أغلب سنوات حياته ناسيا أن يكون أسرة أو يدخر مالا لشيخوخته بل أنفق كل ما اكتسبه من الفن على تجويد العروض المسرحية وصنع ديكورات طبيعية وملابس فخمة وتخصيص حفلات مجانية للطلاب ولم يبخل يوما على عرض يحمل اسمه وبصمته حتى أنه كان لا يجد أحيانا ثمن الطعام فيلجأ إلى بيت العائلة ليجد الطعام والراحة ثم يواصل رحلته من أجل فن المسرح.. وتشهد وقائع التاريخ الذى سجلها الكاتب والمخرج عصام السيد بكل أمانة علمية على أن أوبريت العشرة الطيبة أعظم ما أنتجه المسرح الغنائى فى تاريخه قبل مائة عام واجه حملة تشويه ضخمة من جماعة المنحازين لما كان يسمى بدولة الخلافة العثمانية.. ورأوا فى أغنية « علشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطى نطاطى نطاطى «دعوة تحريضية للشعب المصرى على رفض الخنوع للسلطة العثمانية والإدعاء بمهاجمة دولة الإسلام وأثرت هذه البلبلة على منتج العرض الفنان نجيب الريحانى وخشى من الإتهام بمعاداة دولة الإسلام خاصة وهو فنان مسيحى فقرر وقف العرض رغم نجاحه.. وعندما انضم عزيز عيد غاضبا لفرقة رمسيس قرر نجمها ومنتجها يوسف بك وهبى أنه لا صوت يعلو فوق صوت الإيرادات.. وأحس عزيز عيد بالصدمة للمرة الثانية لكنه واصل الكفاح مع فتوح نشاطى وآخرين وظل حتى آخر يوم فى حياته يؤمن بأن المسرح رسالة ويدعو إلى احتضان كل التجارب الفنية خاصة الشبابية وهو ما عبر عنه الشاعر المبدع مصطفى إبراهيم فى أغنية « نوروا كل المسارح» واستطاع فى أولى تجاربه لكتابة الأشعار الدرامية أن يضيف للمسرح المصرى شاعرا كبيرا متمكنا يملك القدرة على التكثيف والإختزال والتعبير الفنى الرشيق وكأنه صاحب خبرة طويلة فى الكتابة وربما ساعده على ذلك بساطة وجمال الألحان التى وضعها الفنان هيثم الخميسى المتمرس فى تقديم العروض المسرحية القصيرة والمميزة.. أما ديكور المهندس محمد الغرباوى فهو أحد دعائم العرض حيث استطاع أن يوظف مساحات مسرح الأوبرا الكبير ويستخدم تقنية الخشبة المتحركة هيدروليكيا لتقديم مشاهد متتابعة دوت لحظة إظلام واحدة ثم تطوى تلك الخشبة لتفريغ المكان لتقديم الإستعراضات التى أبدعت فى تصميمها شيرين حجازى لتحمل مذاق العصر القديم ولكن برؤية حديثة ورقصات شديدة الجاذبية والجمال.. وبالطبع ساهمت ملابس مروة عودة وإضاءة ياسر شعلان فى إعطاء الأجواء المناسبة لزمن الأحداث أما الممثلون فلقد أثبت محمد فهيم أنه بحق واحد من عباقرة التشخيص فى عصرنا الحديث فلقد أقنعنا بكل بساطة أنه إسماعيل ياسين نجم الكوميديا ثم سيد قطب مفكر الجماعة الإرهابية وأخيرا عزيز عيد رمز التجديد والابتكار فى نهضة المسرح المصري!! وكان بسيطا فى غضبه وألمه وسخريته وكأنما عزيز عيد بنفسه هو من يقف على خشبة المسرح يروى جانبا من قصة حياته.. وشاركه التألق حسن عبد الله فى دور نجيب الريحانى ونقل إلينا شكل وصوت الريحانى بل وروحه الساخرة بمرارة وأزمته الداخلية ما بين حبه للفن وخوفه من العودة إلى أيام الفقر والحرمان.. وبمهارة مذهلة قدم محمود الزيات شخصيتين مختلفتين الأولى للشاعر بديع خيرى والثانية للفنان يوسف وهبى وربما ساعده على تجسيد دور يوسف وهبى اللحية الطويلة التى صممها بشكل كاريكاتورى ساخر الماكيير إسلام عباس وأخفت معظم ملامح وجهه وربما هى لحية شخصية راسبوتين.. وضج مسرح الأوبرا بالضحك مع ظهور على كمالو فى شخصية الرقيب المتعنت الذى يبحث عن أى ثغرة ليقاوم بها إبداعات عزيز عيد ورغبته فى التجديد وقدم ميشيل ميلاد دورا صغيرا جميلا لفتوح نشاطى بينما تألقت ابتهال الصريطى فى دور فاطمة رشدى تلميذة «عزيز عينى» كما لقبه المخرج والمؤلف عصام السيد وأيضا أبدعت فى الغناء بمشاركة المطرب النجم ماهر محمود.. هو عرض يستحق أن يقدم لموسم كامل حتى يعرف عشاق أبو الفنون جانبا مهما من تاريخهم الفنى.
رابط دائم: