رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

جمعهما الطابق السادس بالأهرام
إدريس والحكيم.. ثنائية الماء والنار

أحمد أبو المعاطى
توفيق الحكيم ويوسف ادريس

لا أحد يستطيع أن يجزم على وجه الدقة، بطبيعة العلاقة التى جمعت بين توفيق الحكيم، والأديب الكبير يوسف إدريس، وقد تزامل الاثنان فى «الاهرام» لسنوات طويلة، فى برج الطابق السادس، وربطت بينهما علاقة عجيبة، ظلت تراوح مكانها، ما بين علاقة الأب بابنه، لكنها لم تخل أيضا من صراع طبيعى، بين شخصيتين على طرفى النقيض، أحدهما يمثل النار فى توهجها وحرارتها، بينما يمثل الثانى هدوء ماء النيل، فى رحلة جريانه نحو المصب.


قرأ يوسف إدريس خبر رحيل الحكيم، بينما كان فى مهمة عمل خارج البلاد، فلم يشهد جنازته، لكنه يروى تفاصيل ما دار داخله، وهو يتابع تلك الأخبار، فى مقال طويل تضمنه كتابه «الإيدز العربى» الصادر فى نهاية الثمانينيات، عن دار المستقبل العربى، حيث بدا الأمر، وكأن هاتفا خبيئا كان يردد له، وهو يقرأ خبر الرحيل وهو فى الخارج، أن هكذا لم يرد توفيق الحكيم الأمر، بل وأحس به غاضبا، ساخرا مما يكتب عنه، ويقول إدريس: تخيلت أنه لو ترك له الأمر، أو لو كانت الجرائد تصل إلى الدار الآخرة، لوجدناه قد صحا من غفوته الجليلة، وعلق بقلمه الرصاص، الباهت جدًّا، الذى كان يكتب به منذ عرفته، مفندًا هذا كله ورافضًا إياه، جملة وتفصيلًا.

لم يكن توفيق الحكيم فى نظر يوسف إدريس، حسبما قال عنه ذات يوم، مجرد رجل عاش لنبكى عليه حين يموت، مثلما لم يكن مجرد كاتب زميل وصديق كبير لنفتقد رحيله، ونرسل الدمع مدرارًا من ورائه، وليعتب بعضنا على بعض أنه لم يحضر جنازته أو مأتمه، أو أنه تقاعس عن أداء الواجب، لكنه كان فى الحقيقة ظاهرة، لم يكن لها وجود قبله فى الأدب العربى، وأعتقد أن بعده، لن يكون لها وجود، إذ كان فريدا فى نوعه وقدراته.

يعترف إدريس وهو الذى كان معروفا بعصبيته الشديدة ونرجسيته، بأن الحكيم كان يربكه أحيانا، وانه كان يطيل إليه النظر دون أن يشعره بذلك، ويتساءل بينه وبين نفسه: ماذا فى هذا الرجل الفلتة يصنعه؟ ويصنع منه هذا الخليط الغريب، الهازل تمامًا حين يجد، والجاد تمامًا حين يهزل، الممثل فى الحقيقة وعلى الورق، المدعى الصمت تمامًا حين يتكلم أبطاله وممثلوه، الخبيث إلى حد الدهاء، والداهية إلى حد السذاجة والطفولة، الذى آثر منذ وقت طويل، أن يقف على الخط الحرج المحرج للحياة، فلا هو مع التقدم ولا ضده، ولا هو مع الديمقراطية ولا ضدها، ولا هو مع الثورة وأيضًا — وهذا هو المحير — ليس ضدها، توفيق الحكيم الذى اصطنع عداوة المرأة من فرط وجده وغرامه بها، واصطنع حمار الحكيم قناعه ليقول أذكى الأشياء، وتقمص العصا والبيريه، ليبدو كما قال هو بنفسه فنانا، وسط فقهاء اللغة ودكاترة الأدب والفلسفة، أولئك الذين كانت تزدهر بهم الساحة حين ظهر فى سماء الأدب، فمثل عليهم أنه فنان، ليعفوه من مئونة المظاهر الجادة المنافقة، ويعفوه أيضا من لبس العمامة أو الطربوش، حتى لا يحتسب على المطربشين أو المعممين، فاختار البيريه حتى لا يبدو أيضا خواجة ببرنيطة.


الحكيم يترأس جلسة مجلس الشورى


ينظر الاديب الكبير الراحل، فى مقاله البديع فى رثاء الحكيم، الى أولئك الذين أخذوا وفاة توفيق الحكيم جدا، باعتبارهم مساكين، إذ ظل يرقب مشروعه مع الموت منذ أكثر من خمس سنوات قبل الوفاة، مستعرضا احتفال الحكيم بعيد ميلاده السبعين، قبل سنوات بعيدة من وفاته، وقد بدا وقتها شابا شيخا سعيدا بابنه إسماعيل، وحياته العائلية، وكانت ضحكاته تجذبنا إلى غرفته جذب الأطفال إلى جدهم الشاب الأبيض الشعر، الحافل بالحيوية، لكنه رغم ذلك كان يملك قلبا نادرا ما كان يحس به، فلم يسمعه ذات مرة يقول أنا أحب فلانا، أو أحب هذا الشىء أو ذاك، لدرجة أنك قد تغيب عنه عاما أو عامين، وتعود فكأنك كنت معه بالأمس.

يصف إدريس توفيق الحكيم باعتباره رجلا، يشبه الجاحظ، يحترف التقتير فى كل شىء، عن إيمان عميق بأنه أجدى شىء يصنعه الإنسان؛ ولهذا نأى بنفسه عن تجارب كثيرة، فلا هو سافر، أو غامر ولا تهور، حتى أن تجاربه فى الحياة، تكاد تنحصر فى أعوام تلمذته التى كتبها فى عودة الروح، وصدر شبابه الذى قضاه هنيهة مع فرقة عكاشة وأهل الفن، ثم الجزء الخام منها فى باريس فى «عصفور فى الشرق»، و»تحت المصباح الأخضر» وغيرهما، وكاد ينحصر ما تبقى من حياته الطويلة بعد هذا، فى سلسلة من الوظائف انتهت به مديرا لدار الكتب، ثم عضوا متفرغا بالمجلس الأعلى للآداب، ثم كاتبا متفرغا فى الأهرام، لكنه من هذا الشريط المحدود للوجود، استطاع أن ينسج أروع أعماله المسرحية، ويفرز تأملاته الفكرية، ويظل حيا، أكثر من كل الكُتاب الأحياء من حوله، وموجودا حتى بغير إنتاج.

لم تكن فلسفة البخل والتقتير، تمثل مرضا عند توفيق الحكيم، كما أنه لم يكن يعتبرها عيبا خلقيا يعمد الى اخفائه، مثلما فعل نجيب محفوظ، باعتبار البخل صفة معيبة فى عرف أولاد البلد، فيما كان توفيق الحكيم يعتنق البخل كفلسفة عن إيمان قوى، ويقول إدريس مدللا على ذلك: منذ أن عملت بالأهرام عام ٦٩، لم اشاهد توفيق الحكيم يكتب الا بقلم رصاص واحد لم يغيره، وحين ضقت بالقلم ذات مرة وسألته: لماذا لم يغيره بآخر ثقيل الخط، قال: الثقيل يخلص بسرعة، لذلك فقد كان يبرى القلم مرة واحدة فى العام، وبه كتب إنتاجه منذ مسرحية الصفقة إلى مقالاته الأخيرة، وحين ضحكت وقلت له سأكتب عنك هذا، قال: يا ريت، حتى يعلم الناس أنى بخيل فلا يطالبنى أحدهم بما يطالب به الناس العاديين.

يروى يوسف إدريس كيف تلبس إحساس الموت توفيق الحكيم فى سنواته الأخيرة التى استبقت وفاته، وكيف بدا فى المرات القليلة التى كان يتصادف أن يلتقيا فيها، أقل مرحا وأميل لاجترار ذكرياته، قبل أن يداهمه ذات يوم بسؤاله الصادم: تصور كل الناس اللى أعرفهم تقريبا ماتوا، إشمعنى أنا لسه عايش؟ ويقول إدريس: وقتها بدأ الحكيم يكتب مقالاته عن الموت، الذى يطلبه ويعتب على العمر الذى يأبى إلا أن يمتد، بينما كنت وأنا فى بيتى، أتصور ما يفعله توفيق الحكيم بنفسه، ولا أملك إلا أن أضحك، فأنا أعرف أن ليس توفيق الحكيم وحده، ولكن الناس جميعًا يرفضون الموت ويكرهونه، لقد كانت لعبة أخيرة لعبها الحكيم مع الموت، مفادها أنه بدلا من أن يداهمه الموت على غرة، يداهم هو الموت ويطلبه وهو يعرف تماما، أن من يطلب الموت عقليا لا يموت، الإنسان فقط يموت حين تقرر قوى فوق طاقة وعيه، قوى فى داخله وقوى خارجه، قوة الخالق والخلاق، أن تنهى الحياة فى ذلك الجسد، فيدمر نفسه ذاتيًّا عن طريق القلب، أو السرطان أو أى انهيار آخر.

كان الحكيم مريضا حسبما قال الأطباء ليوسف إدريس، لكن مرضه كان قديما، وقد كان الأطباء الشبان حين يرون التشخيصات تنتابهم الخضة، فقد درسوا فى كتبهم أن من يعانى منها يموت بعد ساعات، بينما الحكيم عانى منها طوال عشرين عاما وأكثر.


الحكيم يطلق لحيته

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق