يعد المكان مكوِّنا أساسيا من مكونات العمل الروائى، إذ لا تقع أحداث الرواية ولا تتحرك شخوصها خارج المكان أو الزمن، لذلك يستمد المكان أهميته وخصوصيته من خلال علاقته بالشخصيات والأحداث الروائية وتفاعله معها بصورة إيجابية. من هنا لعب المكان فى رواية «الصامت» للكاتب شفيق التلولى، الصادرة عن دار الشروق بعمان وفلسطين، دورا فاعلا فى نمو الأحداث وتحريكها، فهو الحيز المكانى الذى تتصارع فوقه الشخصيات، حتى أصبح الوطن كالفردوس المفقود بعد أن نزلت به لعنة الهجرة واغتصاب الأرض.
تقوم «الصامت» حول بؤرة دلالية تنطلق منها كل أحداث الرواية وتشعباتها؛ وهى مخطوطة الصامت التى توثق لسلالة عائلة فلسطينية يندرج منها البطل المنسى، سكنت فلسطين منذ أزمنة بعيدة، وبذلك فإن الاحتفاظ بهذه الوثيقة يدحض ادعاءات المحتل الإسرائيلى ومزاعمة حول أحقيته فى فلسطين، والكاتب فى تصويره لأهمية هذه المخطوطة وسريتها وحرصه الشديد على الاحتفاظ بها، أضفى عليها عناصر غرائبية تمزج الواقع بالخيال، فهى تؤرخ لوجودٍ فلسطينى ممتدٍ فى فلسطين.
وإذا كان التلولى قد نوَّع فى أدواته الفنية واستخدم الأسلوب العجائبى فى بناء أحداثه وشخصياته، فإن هذا الأسلوب قد امتد أيضا إلى المكان، وأصبح المكان عنده مزيجا من الواقع والمتخيل، مما يحقق عنده انسجاما تاما بين عناصر الرواية وطرق تشكيلها.
وتتصدرالبئرالأماكن السحرية والعجائبية بالرواية، وهى بئر القرية التى يشرب منها الناس، أحاطها الكاتب بهالة من الخرافات التى تحمل الفزع والخوف لكل من يقترب منها. فهى مستودع الأسرار، ومسكن روح المنسى التى استقرت فيها، وموطن للرعب والخوف لكل من يقترب منها من غير أهله، وكأن الكاتب اتخذ منه رمزا للبقاء والتمسك بالأرض والوطن، والتخلى عنه، أو تركه سيجلب لأهله اللعنة والتيه، كما يقول على لسان المنسى: «لا تهربوا لا تتركونى وحيدا فى بئرى تلك، ستغضب شجرة الجميز يهتز جذعها تصيح أغصانها تحل عليكم اللعنة إن تخليتم عنها وعنى وعن تلك البئر التى فيها حكايتكم».
فالبئر/ المكان، وشجرة الجميز، والمنسي/ الفلسطينى هى مكونات الوطن التى لا ينبغى التخلى عنها، وإن التفريط بواحدة منها هو تفريط بالكل، ومن ثم تحُلُّ اللعنة على أصحاب الأرض، ويسيحون بالأرض غرباء، ونادمين. ولذلك تحققت نبوءة المنسى حين فرَّ أهل الأرض منها وتركوا ما فيها، من شدة الخوف والرعب، بعد أن عاث العدو الغاضب فى الأرض فسادا وقتلا وتدميرا.
المكان الآخرهو مقام الخضر، وهو مقام يقع فى مدينة دير البلح جنوب فلسطين، وينسب إلى رجل صالح اسمه الخضر، كان محط الزوار الوافدين إليه للتبرك به ويعد أقدم إرث تاريخى بفلسطين؛ وتأتى غرائبية المكان من الرسالة التى أودعها عابر السبيل فيه؛ إذ أوصى وليَّ المقام بعدم فتح الرسالة إلا بعد مغيب الشمس، عندئذ تكون قد حملتهما-عابر السبيل والمنسي- إلى ما بعد البحر، أما إن فتحت قبل مغيبها فسيَغرقان قبل وصولهما، ويتفشى الحبر فلا يستطيع أمينها قراءتها، وحتى بعد وصولهما لا يجب فتحها إلا بعد المغيب كى لا تلحق بهما اللعنة ويختفى أثرُهما.أضفى ذلك جانبا من الغرائبية التى تفسر بعض الأحداث التى لا نجد لها تفسيرا بالواقع.
أما شجرة الجميز، وتعد من فضاءات الأمكنة بالرواية باعتبار تجويف جذعها مكانا لاحتواء مخطوطة الصامت التى خبأها المنسى فيه، وقد أحاطها الكاتب بهالة من العجائب جعلت منها كائنا غريبا ومرعبا.تكاد رؤية الكاتب تتجلى بكل أبعادها فى دلالة هذه الرموز النباتية والطبيعة والبشرية التى وظَّفها فى بنيته السردية؛ إذ إن شجرة الجميز تشكل رعبا وخوفا لمن يحاول الاقتراب منها، وكذلك البئر وروح المنسى التى تحوم فى المكان، ليقول لنا إن المحتل الصهيونى إذا حاول اغتصاب الأرض فلن يهنأ بذلك، وسيلفظه نباتها وحجرها وإنسانها، وستظل تشكل لهم فى مجموعها اللعنة التى تخيفهم وترعبهم وتقض مضاجعهم أمد الدهر.
> د. محمد صلاح أبو حميدة
رابط دائم: