رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

القارة العجوز تبدأ تدابير ترشيد استهلاك الطاقة..أوروبا تتخوف من الظلام

رسالة لندن منال لطفى
الإجراءات الترشيدية تشمل إطفاء الأنوار وقطع المياه الساخنة وإغلاق مبكر للمصانع

هل تتجه أوروبا نحو أسوأ شتاء منذ عقود؟

السحب الداكنة التى تتجمع فى الأفق الأوروبى تعطى ردا واحدا قاتماً على هذا السؤال.

فالقارة الأوروبية تعانى مستويات مخيفة من التضخم الذى أدى لزيادة أسعار كل شيء، من المواد الغذائية إلى الكهرباء والغاز والبنزين. كما أن أوروبا تعانى من تراجع فى معدلات النمو ومن المؤكد أن تدخل الاقتصاديات الأوروبية فى حالة ركود اقتصادى بنهاية العام.

أسعار الطاقة بالذات ترسل موجات صدمة هائلة فى جميع أنحاء أوروبا حيث ارتفعت بنحو 40% خلال ستة أشهر فقط، ومع ارتفاع أسعار الطاقة يرتفع سعر كل سلعة أخرى فى الأسواق ما يعمق التضخم الذى بات الخطر الأكبر الذى يهدد اقتصاديات أوروبا. ولا عجب أن تشهد بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا ضمن دول أخرى إضرابات عمالية فى كل القطاعات تقريبا.

فسعر برميل النفط يدور حول 100 دولار، وأسعار الغاز الطبيعى أعلى بنحو 10 مرات مما كانت عليه قبل عامين. وأدى هذا إلى زيادة التضخم ليصل لنحو 9٪، وهو أعلى معدل على الإطلاق فى تاريخ منطقة اليورو، مما يضغط على القدرة الشرائية للأفراد، ويغرق الملايين فى الفقر، ويضع عبئا كبيرا على الصناعات.

الصورة القاتمة قد تزداد قتامة خلال أشهر الشتاء إذا قلصت روسيا أكثر إمدادات الغاز لأوروبا رداً على العقوبات الأوروبية على موسكو منذ الأزمة الأوكرانية-الروسية فى فبراير الماضى واستمرار الدعم العسكرى والاقتصادى والسياسى لأوكرانيا.

فخط الغاز الروسى لأوروبا «نورد ستريم 1»، أكبر خط أنابيب غاز فى القارة العجوز، يعمل الآن بنسبة 20٪ فقط من طاقته، وهناك مخاوف من أن موسكو قد توقفه كليا خلال الشتاء فى اختبار لمدى قدرة أوروبا على مواصلة عقوباتها ضد موسكو.

ولا عجب أن تتلاشى أخبار التطورات العسكرية للأزمة الروسية-الأوكرانية فى أوروبا تقريبا. فأوروبا غارقة فى مشاكل التضخم وأزمات المعيشة والانكماش الاقتصادى واحتمالات الركود، وما يطرحه هذا من تحديات سياسية على رأسها عدم الاستقرار السياسى فى القارة.

وأمام خطر وقف تدفقات الغاز الروسى لأوروبا، طالبت المفوضية الأوروبية دول التكتل بخفض استهلاك الغاز «فورا» لمنع حدوث نقص حاد فى الشتاء. لكن المقترح لم يلق دعما من كل الدول بسبب تأثيراته الاقتصادية السلبية التى تتباين من دولة لأخرى، وبسبب التباين فى خطط الاستعدادات للشتاء واختلافات حجم المخزون من دولة لأخرى.

فألمانيا، أكبر الاقتصاديات الأوروبية، تعتمد بشكل شبه كامل على واردات الغاز الروسى. وفى ضوء الأزمة الحالية والمخاوف من تفاقمها فى الشتاء، خفض نحو 16 ٪ من المصانع الألمانية الإنتاج جزئيا بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وتقنين استخدامها استعدادا للشتاء. كما أن عشرات الآلاف من الشركات والمكاتب فى أوروبا بدأت تغير مواعيد العمل كى تبدأ مبكرا، وتغلق مبكرا بدون الحاجة لاستخدام مكيفات الهواء أو الكهرباء للإضاءة لساعات أطول من اللازم.

أيضا بدأت العديد من الدول الأوروبية فى إطفاء الأنوار العامة مستفيدة من صيف طويل ومشمس حتى الآن لا تغيب فيه الشمس حتى التاسعة مساء. كذلك بدأت مدن ألمانية فى قطع المياه الساخنة عن المبانى العامة، وحمامات السباحة، وصالات الألعاب الرياضية. وتم حظر مكيفات الهواء والسخانات. كما تم إغلاق النوافير العامة ولم تعد المبانى الرئيسية مثل دور البلدية مضاءة فى الليل. وكل هذه التدابير هى جزء من خطة على مستوى الاتحاد الأوروبى لتقليل استخدام الغاز بنحو 15٪ حتى الربيع المقبل.

لكن هذه الإجراءات لم تُنه السؤال الملح: ماذا سيحدث إذا قطعت موسكو إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا كلياً؟

والاجابة هى: على الأغلب أزمات خارج السيطرة.

فما لدى القارة الأوروبية من مخزون من الغاز لن يكفى دولا مثل ألمانيا إلا حتى نوفمبر المقبل على الأرجح. أما إسبانيا والبرتغال وبلغاريا فمخزونها سينفذ بحلول ديسمبر. وهذا يعنى أن الدول الأوروبية ستضطر خلال يناير وفبراير إلى إجراءات مشددة وخفض دراماتيكى فى استخدامها للغاز مع ما سيترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية. واعترفت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، بأن نقص الغاز الطبيعى هذا الشتاء «قد يؤدى إلى انتفاضات شعبية» لأن الاقتصاديات الأوروبية سوف تحدق فى ركود طويل مع تراجع مقلق فى مستويات المعيشة.

ووسط تلك المخاوف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ما زال هناك انقسام حيال موقف الغرب تجاه الأزمة الروسية -الأوكرانية. فأمريكا وبريطانيا على رأس عدد من الدول ما زالوا يرددون أن روسيا «يجب أن تفشل وأن يُنظر إليها على أنها فاشلة» وأنه لابد من تحقيق «انتصار أوكرانى كامل»، وهذا يتضمن استمرار تقديم دعم عسكرى واقتصادى غير مشروط لكييف. ومع ذلك يظل هناك غموض واختلافات حول معنى «النصر الكامل» لأوكرانيا بين بعض الدول المصطفة فى هذا المعسكر.

فى المقابل، هناك أصوات أوروبية ودولية أخرى تردد أنه لابد من حل سلمى للأزمة، لأنه كلما طالت كلما تزايدت مخاطرها الدولية وصعب إيجاد تسوية وسط ترضى كل الأطراف. فمع تركيز الجيش الروسى جهوده على شرق أوكرانيا والحشود الروسية الجديدة التى تتجهز حالياً، يدخل الصراع مرحلة من المؤكد أن تنطوى على حرب استنزاف طويلة. وفى مرحلة ما، وبعد استنفاد كل المجهود الحربى، لابد وأن يتفق الطرفان على وقف إطلاق النار.

وتعتقد دول أوروبية على رأسها فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمجر، أنه لابد وأن يكون للاتحاد الأوروبى دور فى الحل السياسى المستقبلى، بدلا من ترك الساحة لقوى دولية واقليمية لن تتضرر بالأزمة كما تضررت أوروبا حتى الآن.

وفى نظر هذه الدول، فإن الحل السياسى للأزمة، على صعوبته، يجب أن يكون مستداما وقادرا على إنهاء الصراع لأن مجرد التوقف المؤقت فى العمليات العسكرية يعنى أنه يمكن استئنافها فى أى وقت. وبالنسبة للاتحاد الأوروبى، ستكون النتيجة كارثية لأنها تعنى أن أوروبا ستظل غير مستقرة وستتواصل الانقسامات بين أعضاء التكتل حول كيفية التعامل مع الأزمة وتداعياتها.

وسواء انتهت الأزمة بحل سياسى نهائى أو حلول مؤقتة سيظل سؤال شكل العلاقات المستقبلية مع روسيا سؤالا مثيرا للاستقطاب والانقسامات داخل أوروبا. ففى ألمانيا وفرنسا أحزاب وشخصيات عامة ومثقفين يرفضون فكرة «عزل روسيا» على اعتبار الامتدادات الثقافية والاقتصادية والتاريخية التى تربط روسيا بأوروبا، خاصة مع ألمانيا. ويدافع هذا التيار عن أن مبدأ الاستقرار الإستراتيجى فى أوروبا يتطلب ضم روسيا بطريقة ما فى بنية الأمن الأوروبى لتجنب صراع مماثل فى المستقبل.

وإلى أن تبدأ أوروبا فى طرح تلك الأسئلة الصعبة على نفسها حول مستقبلها ومستقبل الاستقرار السياسى والأمنى بها، يبدو أن دول القارة تكافح للحفاظ على وحدتها.

فقد انهارت الحكومة الإيطالية بعد استقالة رئيس الوزراء الإيطالى ماريو دراجى، بعد انقسامات حادة فى الائتلاف الحاكم بسبب تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية على الاقتصاد الإيطالى. كما يعانى الائتلاف الحاكم فى ألمانيا من خلافات عميقة حول أفضل طريقة للتعامل مع الأزمة. وتشعر الحكومات من إسبانيا وهولندا إلى بولندا وبلجيكا بالضغط الشعبى المتزايد بسبب آثار الصراع. بينما سقطت حكومة بوريس جونسون فى بريطانيا بسبب عوامل متشابكة تشمل أسوأ تضخم وأزمة تكلفة معيشة تمر بها بريطانيا منذ 50 عاما، مع الفضائح الأخلاقية لحكومته. أما الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فقد خسر أغلبيته البرلمانية بسبب الاستياء الشعبى من الآثار الاقتصادية المترتبة على الحرب.

وكل هذه الأزمات المتلاحقة التى تمر بها القارة الأوروبية دفعت رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان إلى القول إن عقوبات الاتحاد الأوروبى على موسكو قد فشلت، داعيا روسيا وأمريكا إلى إجراء مفاوضات لإنهاء الحرب، مؤكداً: «المحادثات الروسية الأمريكية فقط هى التى يمكن أن تضع حداً للصراع لأن روسيا تريد ضمانات أمنية لا يمكن إلا لواشنطن أن تقدمها». كما انتقد أوربان الزعماء الغربيين لتجاهلهم المخاوف الأمنية لروسيا قبل الغزو، قائلاً: «هذه الحرب لم تكن لتحدث على الإطلاق مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل».

وفى خطاب حول الأزمة، قال أوربان إن الإستراتيجية الغربية بشأن أوكرانيا قامت على أربع ركائز كلها ثبت لاحقا أنها خاطئة. الركيزة الأولى أن أوكرانيا يمكنها الفوز فى حرب ضد روسيا بأسلحة الناتو. والركيزة الثانية أن العقوبات ستضعف روسيا وتزعزع استقرار قيادتها. والركيزة الثالثة أن العقوبات ستضر روسيا أكثر من أوروبا. والركيزة الرابعة أن العالم سيصطف لدعم أوروبا. وخلص إلى أن الإستراتيجية الغربية ضد موسكو فشلت، وتنهار الحكومات فى أوروبا «مثل الدومينو» بسبب عبء الحرب وارتفاع أسعار الطاقة والتضخم.

طبعا فيكتور أوربان ليس أكثر السياسيين الذين تنصت إليهم القارة الأوروبية بإمعان. لكن الشيء اللافت هو أنه لا يغرد خارج السرب. فهناك عدد متزايد من السياسيين الأوروبيين، والرأى العام الأوروبى، والمثقفين يرون أنه لابد من حل سياسى عاجلا وليس آجلا. ومن هناك تعود الكرة من جديد للملعب الفرنسى والألمانى. فالدولتان منذ بداية الأزمة كانا يدفعان نحو حل سياسى ثم تراجعا مع شدة الانتقادات التى وجهت لهما فى بداية الأزمة بوصفهما «حمائم أمام عدوان روسيا».لكن مع تفاقم آثار الحرب، فإن الأصوات المنتقدة لبرلين وباريس، خاصة فى شرق ووسط أوروبا، بدأت هى نفسها تصطلى بنيران الحرب وتدفع ثمنا لها. ما يعزز احتمالات التسوية بدلا من سيناريو حرب الاستنزاف. أو كما خلص أوربان: «هناك حاجة إلى إستراتيجية جديدة تركز على محادثات السلام وصياغة اقتراح سلام جيد بدلاً من كسب الحرب.... فنحن نجلس فى سيارة بها ثقب فى الإطارات الأربعة: من الواضح تماما أنه لا يمكن كسب الحرب بهذه الطريقة».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق