رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الأدب.. عندما يتكلم فى السياسة
الناقد شوقى عبدالحميد: السياسة هي المحرك الأساسى للإبداع وحتى ابتعاد الكاتب عنها يعد سياسة

حوار - محمد شعير

  • نكسة يونيو زعزعت جيل الستينيات فلجأ إلى الرمز ليكشف مرارة الكابوس
  • رأيى فى الجدل حول الجوائز الأدبية هو: «مافيش دخان من غير نار»
  • المبدع يسعى دوما إلى المدينة الفاضلة مما يضعه غالبا على يسار السلطة



السياسة فعل بشرى، لكنها تتدخل وتؤثر فى أغلب أفعال البشر، فى النفوس، فى السلوك، فى الأخلاق، حتى فى الحب، وبالطبع فى الأدب. لكن الحديث فى السياسة كثيرا ما يكون فى كثير من المجتمعات محفوفا بالجدل، مثيرا للخلاف، وفى الوقت نفسه فإن الأديب لا يمكن أن ينفصل عن المجتمع، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين؟!. وكيف تصرف الأدب على مر تاريخه فى مصر، عندما قرر أن يتكلم فى السياسة؟!.

الكاتب والناقد شوقى عبدالحميد يحيى، يحمل على كتفيه زاد رحلة نقدية وإبداعية غنية، بلغ عمرها الآن 23 عاما، ضمت عشر دراسات نقدية منشورة وثلاث مجموعات قصصية ورواية، وأخيرا صدرت له دراستان نقديتان جديدتان فى كتابين بعنوانى «القراءة السياسية للقصة المصرية القصيرة»، و«المدخل السياسى لقراءة الرواية العربية»، هكذا هو، وهكذا كان دأبه دوما على مدى رحلته؛ بحث العلاقة بين الإبداع والسياسة.

............




فى مستهل حوار «الأهرام» مع الناقد الكبير، قلت له: هل تعنى القراءة السياسية للأدب أن السياسة هى العامل الأوحد أو الأبرز الذى يؤثر فى الإبداع الأدبي؟.

قال: فى تصورى، وما أحاوله فى كل ما كتبت وأكتب، أن السياسة هى المحرك الأساسى فى الإبداع، خاصة فى مجتمعاتنا العربية، التى تتحكم السياسة فيها فى كل شيء يخص معيشة الإنسان، فالمبدع إنسان يعيش فى أسرة، تخضع فى كل مناحى حياتها لقوانين وسياسة الدولة والمجتمع، والأسرة تعيش فى محيط اجتماعى، هذه دائرة صغيرة داخل دائرة أكبر هى الوطن، وأكبر هو العالم. وما من تصرف إلا ويمكن إرجاع مصدره الأساسى لسياسة الدولة، حتى لو لم يكن المبدع نفسه يقصد ذلك، وهو ما واجهنى به بعض المبدعين، لكن المبدع فى النهاية يسعى دائما نحو المدينة الفاضلة التى يتمناها لمجتمعه، والتى تضعه غالبا على يسار السلطة، لذا فإنه حتى الابتعاد عن السياسة يعد سياسة، ونوعا من الهروب الاحتجاجى، حتى لو أكد صاحب العمل أن السياسة لم تخطر على باله فى أثناء الكتابة، إلا أن كاتب القصة القصيرة مثلا بما يملكه من قدرة على التكثيف، تكون لديه قدرة خيالية على إذابة الملح فى الماء، فيبدو الماء فى الظاهر ماء فقط، ولا يرى الناظر إليه دون التحليل أن به ملحا مذابا.

حمَّال الكراسي

عدد كبير من القصص لمبدعين من مختلف الأجيال، تناولها كتاب «القراءة السياسية للقصة المصرية القصيرة»، منهم يحيى حقى ومحمد مستجاب وسعد القرش وشوقى عقل وعزة بدر وصفاء عبدالمنعم، ومنها قصة «حمَّال الكراسي» للكاتب الكبير يوسف إدريس، التى كُتبت عام 1968 وصدرت بعد ذلك ضمن المجموعة القصصية «بيت من لحم»، وعن هذه القصة كتب الناقد: «لا أظننا فى حاجة إلى تأويل أو تفسير للرمز الذى استخدمه إدريس ليشير به إلى الشعب المصرى، ممثلا فى ذلك المخلوق المسحوق - فى القصة- الذى يحمل على ظهره منذ قديم الزمان «الكرسي» الفخم الضخم، الذى يرمز بالطبع إلى الحكم، ليقول الكاتب إن التاريخ المصرى حافل بتقديس الكرسى نفسه، لا الجالس عليه. ويعزز هذا التفسير تاريخ كتابة القصة بعد هزيمة يونيو 1967، وإن كان يوسف إدريس نفسه قد عاد بعد موت الرئيس جمال عبدالناصر ليمتدحه».

سألت شوقى عبدالحميد: لماذا يلجأ المبدع إلى استخدام الرمز فى الكتابة؟.. هل لأسباب سياسية تتعلق بعدم قدرته على التعبير أم لأسباب فنية بهدف الابتعاد عن المباشرة الممجوجة فى الأدب؟.

قال: يأتى استخدام الرمز فى الإبداع أولا لأسباب سياسية، ففى الإبداع المصرى مثلا نجد أن استخدام الرمز بدأ وشاع فى فترة الستينيات بصفة خاصة، خاصة بعد نكسة يونيو التى كانت كاشفة، وأحدثت هزة نفسية زعزعت جيل الستينيات الذى آمن بثورة يوليو، ورأى فيها تحقيق حلمه، ثم اكتشف أنها تحولت إلى خدعة وسراب، فلجأ إلى الرمز ليكشف به عن مرارة الواقع الذى تحول إلى كابوس، وكان من بين هؤلاء المبدعين يوسف إدريس وإبراهيم أصلان وغيرهما. كما أسهم أيضا فى ذلك ما حدث فى فترة الستينيات من دخول الكثيرين المعتقلات، الأمر الذى كان معه الرمز هو إحدى وسائل الهروب من المواجهة المباشرة. أضف إلى ذلك أن استخدام الرمز يعد المدخل لشعرية السرد، حيث يُخبئ المعنى وراء الظاهر من اللفظ، مما يساعد فى إشراك القارئ فى العملية الإبداعية، فأصبح كل قارئ يرى العمل بوجهة نظره هو، وفق ثقافته ومحيطه الاجتماعى والسياسى.

ما ذكره الناقد شوقى عبدالحميد قد يعنى أن فترات القهر السياسى يمكن أن تؤدى إلى إثراء الأدب، سألته عن ذلك؟ فردَّ فى الحال قائلا: إذا تأملنا الإبداع على المستوى العالمى، سنجد أن أخلد الأعمال هو ما نتج عن المعاناة، وإذا ما عدنا إلى نكسة يونيو التى شعر بسببها المواطن المصرى والعربى بالقهر والهزيمة، سنجد أنها كانت من أخصب فترات الإبداع المصرى على وجه الخصوص، لكن هذا لا يعنى أن القهر مفيد للإبداع، لأنه يجبر المبدع على الدوران حول ما يريد قوله، الأمر الذى قد يضيع معه المعنى، أو تتوه «الرسالة». ويكفى أنه فى الإبداع العربى عموما بات من المحظورات الاقتراب من التابوهات الثلاثة «الدين والسياسة والجنس» فأصبح المبدع يتحسس الكلمات حتى لا يقع فى المحظور، فرواية «أولاد حارتنا» للكاتب الكبير نجيب محفوظ مثلا، أشار البعض إلى أنها تمس الدين رغم أن الأزهر لم يمنعها، لكنها ظلت محظورة فى مصر سنوات، حتى حصل محفوظ على جائزة نوبل. وقد سارع المبدعون إلى اقتحام المناطق المحظورة فى أواخر القرن الماضى كنوع من الثورة والتحدى، فجاءت كتابة المرأة السعودية مثلا عن الجنس بصفة خاصة.

على ذكر مفهوم «الرسالة» فى الأدب والفن عموما، قلت لمحدثى إن بعض المدارس النقدية التى ترفع شعار «الفن للفن» ترى أن هذا المفهوم يؤثر على جودة العمل، الذى يتحول بذلك إلى الوعظ والتوجيه. ألا يمكن أن يكون العمل مؤثرا فى مضمونه من زاوية الصدق الإنسانى دون تقديم «رسالة عظيمة»؟.

قال: أوقن أن ما سُميت مدرسة «الفن للفن» قد انتهت تماما، ولم تستطع الصمود طويلا. فلا أظن أن أحدا يكتب لمجرد الكتابة، حتى لو أبدع فى صورتها الشكلية، فإن قَبِلها القارئ أو المتلقى للاستكشاف فإنه سيسأل عن العائد. وهناك سؤال يدور فى ذهن القارئ دائما عند التلقى، هو: «ماذا يريد الكاتب أن يقول؟»، فالمبدع لا يعتمد على مجرد الخيال وحده، أو التهويمات فقط، وإنما يأخذ من المجتمع، ويصب فيه، مُضَمِّنا رسالته غير المباشرة، فالرسالة هى جوهر العمل الإبداعى، وهى لا تعنى أن تقول: افعل ولا تفعل، وإنما شحن معنوى، يتراكم بالتدريج داخل القارئ والمجتمع.

الدليل

فى قصة «الدليل» للكاتب الكبير محمد المخزنجى، الصادرة ضمن مجموعته القصصية «البستان» عام 1992، يحلل شوقى عبدالحميد النص قائلا إن سرب البط، «القطيع»، اعتاد خلال رحلة طيرانه أو عومه عدم التلفتِّ حوله وإنما فقط متابعة البطة «الدليل» التى تقود السرب فى المقدمة، وهذا «الدليل» نفسه لم يكن ينظر حوله أو خلفه، لا ينظر إلا إلى نفسه، ما دام يحس بأن هناك طائرا من بنى جنسه يتبعه، ولذا كان من السهل على «الصياد» المتخفى أن يصطاد البط «الرعية»، الواحدة تلو الأخرى، ويذبحها، قبل أن يصطاد «الدليل» نفسه ويخرج به من الماء حيا، فى نص واضح لا يحتاج إلى دليل على أنه يشير إلى تبعات غياب الديمقراطية، كما يقول الناقد. ويتناول نصا آخر يندرج تحت باب «القصة القصيرة جدا» الذى لا يحبه، وهو قصة «لن نباد» للأديب منير عتيبة، وفى القصة: يتفق المؤرخون والمحللون والمعلقون الرياضيون والناس فى الشوارع على أنه لا مستقبل لقريتنا وأننا سنباد تماما خلال عشرات السنوات، لكن مرت السنوات والقرية لا تزال موجودة، بل إن الناس يأتوننا من كل مكان فى العالم، يلقون إلينا بالطعام ويلتقطون معنا الصور بحذر، ولا ينسون إغلاق باب القرية عند ذهابهم!.

سألت شوقى عبدالحميد: لماذا لا تحب فن «القصة القصيرة جدا» رغم أنه قد يكون الأنسب لروح العصر؟.

قال: الأساس عندى فى الإبداع هو المتعة، وإذا لم يجدها القارئ فلا شيء يجبره على القراءة. وما يسمى القصة القصيرة جدا أجدها تخلو من هذه المتعة، فهى إما حكمة أو فزورة، لكن القصة إما أنها قصة أو لا قصة. أما ما يقدمه محمد المخزنجى ومنير عتيبة، وما قرأته أخيرا لشاب من الصعيد اسمه ياسر سليمان، فهو قصة قصيرة بكل ما تتطلبه، حتى وإن كانت قليلة المساحة الكتابية، وليست أساسا فى العملية الإبداعية، غير أن هؤلاء قدموا القصة محملة بالعنصر الأساسى فى القصة القصيرة، وهو التكثيف، وبميزان الكلمة، والرؤية، والموقف، وانحسار الزمن فى أضيق الحدود. وإذا كنا رأينا أن الإبداع رسالة، والمجموعة فى القصة القصيرة جدا تحتوى فى الغالب على سبعين أو ثمانين «قصة»، بالله عليك ماذا يتبقى فى أعماق القارئ بعد هذا الكم؟!، وعندما يتنقل القارئ بين عشرات الأجواء والانطباعات والرؤى، أى منها يبقى بداخله؟!.

انتقلت إلى السؤال عن دور النقد بوجه عام، فى ظل الاتهامات بأن كثيرا من الكتابات النقدية يوغل فى الألغاز واستخدام المصطلحات العلمية التى لا يفهمها القارئ العادى.

رد قائلا: من الأمور المُحزنة، أن وجود حرف الدال قبل اسم الناقد؛ «دكتور»، يؤثر كثيرا فى عملية القبول والوجود، فى حين أن نسبة كبيرة من الأكاديميين قد حصروا أنفسهم فى حفظ وترديد المصطلحات المترجمة عن الغرب، ومحاولة صب أى عمل يقرأونه فى أحد هذه القوالب المحفوظة، الأمر الذى يحدث نوعا من التغريب للقارئ، عن العمل الإبداعى نفسه، وليس عن النقد فقط. لكننى أرى أن النقد هو الوسيط بين المبدع والقارئ، فعليه أن يكشف ما وراء السطور، وما هى الرسالة الحقيقية التى يُضمرها المبدع، ويلاعب القارئ قبل أن يصل إليها، بلغة تتناسب وقبول القارئ لها. وقد أيدنى فى هذه الرؤية أحد أعمدة النقد وهو الدكتور صبرى حافظ فى مقدمته لكتابى «بهاء طاهر فى إبداعاته» حيث رأى أن جوهر النقد هو الوصول إلى جوهر الإبداع، ومن هنا أرى أن النقد إبداع، رغم رفض بعض الأكاديميين لهذا.

ويستدرك قائلا: لا أريد أن ألقى باللوم على النقاد فقط، إذ لا بد أن نسأل أيضا عن وسائط نشر النقد فى مصر، لنعلم أنها محدودة للغاية، والمُتاح منها بعض السطور فقط فى الصحف، أما المجلات فقد أغلق الكثير منها، ودور النشر ترفض الدراسات النقدية فيما عدا بعض الأسماء الكبيرة التى يُنشر لها منذ عشرات السنين!.

ماذا عن الجوائز الأدبية والجدل الدائم حولها؟.

يرد سريعا: المثل الشعبى العام يقول إن «مافيش دخان من غير نار»، وفى كل عام تُثار نفس الأقاويل التى تؤكدها الكثير من الشواهد بما لا يدع مجالا للشك فى وجود أغراض أخرى غير الإبداع يخضع لها الحكم، بشهادة كثيرين ليسوا من المشتاقين، لأسباب عدة، أحدها هو اختيار لجنة التحكيم، التى تخضع لرؤى محددة، ولها ميول محددة.

ديوان العرب!

فى كتاب «المدخل السياسى لقراءة الرواية العربية»، يتناول شوقى عبدالحميد أعمال عدد كبير من المبدعين من عدة أجيال، منها «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«برج العذراء» لإبراهيم عبدالمجيد، و«الخبز الحافي» لمحمد شكرى، و«الأزبكية» لناصر عراق، و«الحريم» لحمدى الجزار، و«وادى الدوم» لعلاء فرغلى، وآخرين.

سألته: هل ترى أن مقولة الراحل الدكتور جابر عصفور حول «زمن الرواية» قد تحققت لا سيما بعد تراجع اهتمام دور النشر بالقصة القصيرة والشعر لضعف إقبال القراء عليهما؟.

قال: أنا أحد المؤمنين بهذه المقولة، وبأن شواهد الحاضر تؤكدها، ليس فقط لاحتلال الرواية المقدمة فى اهتمامات دور النشر والجوائز، حتى هجر كثير من الشعراء الشعر إلى الرواية، لكن لأن الرواية هى بالفعل القادرة على تسجيل التاريخ الاجتماعى والسياسى. فإذا كان التاريخ الرسمى يكتبه المنتصر، فإننا نجد دائما نصفه على الأقل مصنوعا، ومزيفا، لكن الرواية هى التى تسجل انعكاس التاريخ الحقيقى على البشر، ويكفى أن نقرأ روايات «أبو الرواية العربية النجيب المحفوظ»، لنعلم الحياة الحقيقية لمصر منذ ثورة 1919، ولما بعد نصر أكتوبر 1973، ولذا فإن الرواية تعد بالفعل هى «ديوان العرب».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق