رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

وجه مصمت

رمضان سِلْمِى بَرقِى

كل قطرات المطر المُعانقة بشغف زجاج نافذة السيارة نهارًا تعكس وجهها، وجهها البارد، كلوحة بيضاء؛ لم تقو ملاقيط الأقدار الحادّة على جذب تقاسيمه وتمرينها على تعبيرات جديدة ومن ثمّ تعويده عليها كالابتسامة مثلًا، أو حتى الامتعاضة... كان وجهها بِكرًا!

الجميع يعلم ذاك من حولها؛ والداها، زوجها، زميلاتها، حتى حارس البناية التى تقطنها ذى الوجه الجنوبى المتيَّبِس، الذى يبتسم فى وجهها دوما، بسبب وبغير سبب! وحدها مرآتها لم تدرك شيئًا حتى الآن!

عندما ولدت لم تبك ولم تضحك كبقيّة الرضَّع؛ بعينين جاحظتين فقط؛ كانت متفاجئة بذلك العالم المضيء الذى انبثقت فيه من العدم لتوها؛ عالم لم تُستأذن لتُجلب فيه، حتى إن الجحوظ لازمها حتى الآن؛ جحوظ قد يلفت انتباه من يتعرّفون عليها حديثًا، أمّا دائرتها المقرّبة؛ فقد تعوَّدتْ على وجهها، فالتعود هو تلك العين التى يفرضها علينا القدر لنرضى بما لم نكن لنرضى به إن لم تكن ملازمة لنا عنوة.

بعين التعوِّد القدريّة؛ رضيت بوالديها؛ ورضوا بها على مضض: «من سيتزوجها بوجهها المُخيف هذا!» حاروا فى بداية الأمر، ولكن مع تتابع ومضات الزمن السخيّة؛ تعوّدوا عليها. وفى ليلة الاحتفال بأسبوع ولادتها؛ أفضت أمها لأبيها: «كل فولة ولها كيّال؛ لا تقلق!» فى تلك الليلة؛ اختارا لها اسمًا دون استئذانها أيضًا...

ـ (جميلة!).

كذلك قالت الأم وهى تُلقمها ثديها فى غرفة نومهما. ما انبجس فم الأب بكلمة، ولكنه ضَحِكَ ضحكات متتابعة انتهت بالقهقهة:

ـ جميلة!

زجرته الأم بعينيها المبتسمتين:

ـ أجل جميلة!

ثم ضمّتها لصدرها تداعبها بكلمات و»نغنغات» غير مفهومة؛ وكأنها بارعة بلغة الرّضّع، وانفتحت جميلة فى الصراخ، وكأنها تقول لأمها: إنها أيضًا لا تفهم!

ترك أبوها الغرفة ضجرًا من هدوئه الذى استحال ضجيجًا بمقدمها، مُلقيًا بجملته كحمل ثقيل تخلّص منه:

- القرد فى عين أمه غزال!

كبرت جميلة، ولم يرزق والداها بأطفال سواها. ولمَّا ذهبت إلى المدرسة؛ لم تجد سوى نفور الزملاء والزميلات فى بداية العام، وفى نهايته؛ كانت عين التعوِّد القدريّة قد فعلت فعلتها! فى أول مرة قابلت المرآة؛ كانت أول مرّة تقابل وجهها، وجحوظ عينيها؛ لم تعرف نفسها بادئ ذى بدء، ولكن جحوظ عينيها ازداد قليلًا، وبسذاجة طفلة فى السادسة؛ ظنّت أنها بالغد إن نظرت فى المرآة ثانية؛ حتمًا سيتغيّر شيء! وكانت كل يوم تقف أمام مرآتها، ولا يتغيّر شيء، سوى جسدها الذى كان يتضخّم، وتتكوَّر بعض مناطقه، وصوتها الخشن الذى راح ينضح عذوبة يوما عن يوم.

لا يوجد بين زميلاتها من هى تشبهها: لماذا؟ تفكِّر!

لماذا يضحكن كل من يعرفن أن اسمها «جميلة» ويتفرَّسن فى وجهها كملاقيط تنقره لتنتزع جلده! ولكن هل ظهرت أى ردّة فعل لوجها؟! كلا البتّة! كان وجهها بكرا، وكل زميلاتها أدركن ذلك حينها.

بالثانوية العامة؛ الشباب يعجبون بزميلاتها، وتستمع إلى قصص حب تتري؛ تلك قبّلها زميلها على السلّم، وتلك تخرج مع شاب من منطقتها، ويتنزّهان، وبحديقة الحيوان يتسكّعان، ثم تعود لتحكى لها، وتخبرها عن ذلك القرد ذى العينين الجاحظتين مثل عينيها، وثالثة تستمتع بلمسات ابن الجيران لجسدها فى مدخل بنايتهم المُظلم دومًا، وأخرى خُطبت وستتزوّج، ولا تريد أن تُنفق يومًا من أنوثتها دون رجل؛ لذا لن تدخل الجامعة. وأخرى لا تريد الزواج وتريد أن تكمل الجامعة، وتحقِّق أحلامها فى أن تكن مُدرِّسة!

وهى الجميلة؛ لم تمر بأى حالة من كل أولئك، ولا تعرف أقلها معنى الأحلام: لماذا! تفكِّر؛ تفكِّر فقط؛ فضجيج رأسها لا تصل تبعاته إلى تقاسيم وجهها أبدًا!

ويأتِى موعد جامعتها؛ أمها تريدها طبيبة!

ـ كيف أدخل الطب وأنا بالقسم الأدبي؟!

تقول لأمها، فيضحك أبوها قائلًا:

ـ بل ستدخل «فنون جميلة»، لأن اسمها جميلة!

ولكنها توضِّح:

- مجموعى بالثانوية لا يزيد على ثمانين فى المائة؛ وهذه الكليّة لن تقبلني!

فيسألانها بلهفة: إذن ما الكليّة التى تقبل مجموعك؟!

تصمت، وتدخل إلى غرفتها؛ تنظر إلى مرآتها؛ الجحوظ كما هو، والوجه جامد كما كان: أى جامعة تريد! تتساءل، فلا تجد من المرآة إجابة؛ فتنام، ولمّا تدخل أمها غرفتها تتفقّدها؛ تجدها بلا غطاء كالعادة، وذات نومتها التى ما إن تراها أمها حتى تبتسم متمتمة: كجنين فى رحم أمه مازالت نومتك يا حبيبتي! تدثِّرها بالغطاء وتخرج.

ويحسم تنسيق الجامعات الأمر، وتدخل كلية الحقوق؛ تقضى بها عامًا، ثم تتوقَّف فجأة عن الذهاب، وتنام بالساعات الطويلة، يحاول والدها أن يحثّها على الذهاب. تخرج؛ تدور بين الطرقات صامتة ثم تعود لتأمل وجهها بالمرآة وجحوظ عينيها ثم تنام. وعندما يمل الجميع منها؛ يوافقون على أول عريس يتقدّم لها.

الفتاة التى انجبتها جميلة؛ ورثت جحوظ عينيها عنوة: ماذنبها! يفكِّر والد جميلة، ولكنّه مع الوقت يتعوّد، حتى إن أم جميلة قالت لها: كل فولة ولها كيّال لا تقلقي؟!

شرَدَت على وقع نصيحة أمها! جاءها كيّالها؛ ولكنها ليست سعيدة، وليست حزينة كعادتها؛ زوجها رجل عادي؛ موظف بشركة خاصة، لا يتأخّر عنها فى شيء، وهى أيضًا مُطيعة له فى كل شيء:

ـ جهزى العشاء؟

ـ حاضر.

ـ لن نزور أهلك اليوم؟

ـ حاضر.

ـ لا ترتدى هذه الثياب فهى مُلفتة؟

ـ حاضر.

ـ لا تتناولى الطعام، وانتظرى عودتي؟

ـ حاضر.

أمّا شكله فليس وسيمًا إطلاقًا، ربما لذلك كان كيّالها!

تتمنى أن تقول لنفسها كلمة ما! ولكنّها لا تتذكَّرها، أو بالأحري؛ لم تمتلك الشجاعة بعد للتلفُّظ بها حتى فى خلجاتها، ثم إلى الجميع!

اليوم، وعلى غير العادة؛ تستيقظ؛ تقابل مرآتها الجامدة كوجهها، وبأقرب كرسى تحطِّمها، هكذا فجأة تهشِّمها، وبإحدى شظاياها المنطرحة على منضدة الزينة؛ تلمح لأوَّل مرّة وجهها الجامد يغضب، يمتعض؛ أول تعبير لوجهها تتقابل معه؛ لقد انتظرته كثيرًا؛ جميل هو كاسمها، وليس كوجهها!

يستيقظ زوجها على إثر الجلبة؛ وتستيقظ طفلتها لتبكى. يسألها:

ـ ما بك؟ كفى عن الجنون؟ أيقظت الفتاة؟

تقف بوجهه مُهتاجة، وتشعر بالكلمة تتخلّق أحرفها بداخل أعماقها، ولمَّا تنضج، وتُنفخ بها الروح؛ تلفظها فى وجه زوجها مرَّات ومرَّات:

ـ لا... لا... لا!

ثم تترك المنزل راكضة بثياب نومها؛ حتى صرخات ابنتها لم تقوَ على جعلها تنظر خلفها أو تتراجع.

فى البرد القارس؛ والسماء الغائمة، فى مخاض الأمطار؛ تستقل سيارة أجرة، تركب جوار السائق... ولكن إلى أين؟ صورة والديها تراودها؛ فتهم بتمزيقها، ولكنّها تتراجع لتُعطى السائق المتحفِّز من هيئتها العنوان.

ترشق زخّات الأمطار زجاج السيارة الأمامى، بعد أن يحطِّم البرق الأفق. صيحات الرعد؛ تجعلها بعد جمود تام لدقائق؛ تبتسم، ثم تضحك!

تشعر بالضحكة على تقاسيم وجهها، تتحسَّسَها بأناملها فتتأكَّد بأنها حقيقة ملموسة، ثم تقرِّر بصوت هادر:

سأطلب الطلاق!

والسائق بجوارها كالأبله يزدرد ريقه كل حين.

تريد أن تقابل ذلك التعبير الثانى الجديد. ملاقيط جديدة؛ عرفت الطريق لوجهها؛ داعبت تقاسيمه، ومرّرت إليه ما حُرم منه طويلًا؛ مستحيل أن تكون تلك ملاقيط القدر!

تدير بيدها المرآة الصغيرة المتدلية فى استكانة من سقف القمرة صوب وجهها؛ تنظر إليه؛ فلا تلاحظ الجحوظ؛ فقط ضحكتها الواسعة التى تحتل ثلاثة أرباع وجهها؛ وحدها التى تستحق التأمل!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق