اليوم، يبدأ العام الـ 147 فى عمر صحيفة «الأهرام»، التى صدر عددها الأول فى مثل هذا اليوم، الخامس من أغسطس عام 1876. ومن حينها، باتت « الأهرام» منبرا رئيسيا لنقل الخبر وتحليله ونشر الوعى بأمور العلم والسياسة والثقافة. لكن دورا إضافيا بدأ اعتبارا من العام 1962، وتحديداً فى 2 مارس منه، عندما أفسحت «الأهرام» مساحة دائمة ومحددة لفن الكاريكاتير، الذى كان يشهد فى هذه الحقبة تطورا جديدا فى مسيرته وعلاقته بالصحافة المصرية. فهو أحد أهم الأشكال الصحفية التى تخاطب جميع الأعمار، وهو أيضا القادر على التصريح بما قد لا تصرح به المقالات والتحقيقات الصحفية. وللكاريكاتير فى «الأهرام» تجربة خاصة ومدرسة لها أساتذتها، الذين يتوجب تخصيص صفحات وصفحات لبحث ومناقشة تجربتهم، وفى هذا العدد الاحتفالى نظرة مجملة على تلك التجربة وهذه المدرسة، تمهيدا لزيارات متكررة لهذا الملف، وفقاً للأهرام.

إحدى لوحات ناجى الكاريكاتيرية
فن الكاريكاتير، الذى اشتق اسمه من اللفظة الإيطالية «كاريكير»، وتعنى المبالغة، اتضح أنه من جذور مصرية عريقة، وكان لـ«الأهرام» دور كبير فى دعمه، وذلك وفقا لما صرح به المستشرق الفرنسى شارل فيال، أستاذ الأدب العربى ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة إكس إن بروفانس، ونقلته عنه «الأهرام» فى عددها الصادر بتاريخ 26 يوليو 1997. أشار فيال إلى ما أكدته دراسة فرنسية عن فن الكاريكاتير الاجتماعى والسياسى عند المصريين، وهو أن: « مصر تتربع على عرش هذا الفن المهم منذ القرن الماضى، وبالتحديد منذ عام 1877، وانه ظهر فيها مبكرا وقبل دول كثيرة».
وأوضحت الدراسة، التى أعدها فيال على مدى 20 عاما تحت عنوان «كايروكاتير»: «أن صحيفة الأهرام الجادة ظلت تقدم على مدار عشرات السنين هذا الفن، خاصة رسوم صلاح جاهين، الذى كان يتميز بالذكاء والثقافة الواسعة والشاعرية، وكان ينتظره الملايين فى العالم العربى».

جمعة فرحات ينتقد أحوال السمسرة
وكان للمستشرق الفرنسى الحق فى ما ذكره عن صلاح جاهين. فجاهين ليس برسام كاريكاتير فقط، وإنما هو شاعر مرهف المشاعر، وذلك تحديدا ما أرهقه وأضناه. والشاعر والرسام عند جاهين غير منفصلين، فقد كانا دوماً مكملين بعضهما البعض، وهذا ما سيؤكده الكاتب الدكتور لويس عوض (1915-1990) فى عدد «الأهرام» الصادر بتاريخ 2 أغسطس 1986، تحت عنوان «صلاح جاهين .. الشعر والكاريكاتير»، حيث ذكر بعض الملامح التى تبين مدى انسجام كل من الرسام والشاعر جاهين، ومنها ذلك الملمح الوارد بقصيدة «بكرة أجمل م النهاردة» بديوان «كلمة سلام» عن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ومن أبياتها:
دم يجرى فى العروق
يبقى واد مخلص جرئ
واد صريح
راسه تشبه للشاكوش
ويشرح لويس عوض: «فالصورة التى رسمها صلاح جاهين لجمال عبدالناصر أن (رأسه تشبه الشاكوش) مكونة وفقا لقواعد الكاريكاتير فى الفن التشكيلى لا سيما قاعدة المبالغة فى تجسيم الخصائص الجسدية إلى حد التشويه، وواضح من هذا التشويه انه لم يقصد به الهجاء، وانما قصد به التمجيد، لأن الشاكوش هو فى قاموس صلاح جاهين الأداة الحديدية التى يهشم بها عبدالناصر رءوس أعداء مصر».

خطوط ماهر داود بالأهرام
وبدايات ارتباط «الأهرام» بفن الكاريكاتير جاءت فى خبر نُشر فى عددها الصادر بتاريخ 2 مارس 1962، بعنوان «الكاريكاتور فى «الأهرام»، صلاح جاهين ينضم إلى أسرة الأهرام»، وورد تحته «يبدأ «الأهرام» اليوم محاولة جديدة بالنسبة له، تلك هى الرسم الكاريكاتورى يأخذ دوره على صفحات «الأهرام» بجانب الخبر والصورة والمقال، وقد انضم إلى أسرة «الأهرام» رسام الكاريكاتور الذائع الصيت صلاح جاهين، وهو اليوم على الصفحة الثامنة من «الأهرام» يشارك بريشته، ولسوف تكون ريشة صلاح جاهين، وقلمه، وأفكاره، صباح كل يوم فى صفحة الرأى من «الأهرام»، ان «الأهرام» يحاول ان يكون خدمة كاملة لقارئه بقدر ما يستطيع، ولقد حاول «الأهرام» كل صباح منذ ثمانية وثمانين عاما أن يقدم لقارئه الخبر الصادق والرأى النزيه والصورة الآمنة، واذا استطاع الكاريكاتور ان يضيف إلى ذلك جميعه بسمة كل صباح، فإن محاولته الجديدة تكون قد وصلت إلى حيث تمنى لها الأهرام أن تصل».
وأبوة جاهين لتجربة الكاريكاتير فى «الأهرام» يؤكدها الفنان الكبير، رسام الكاريكاتير، جمعة فرحات (1941-2021)، والذى كان من أقطاب مدرسة الكاريكاتير الأهرامية. فوفقا لما كتبه جمعة تحت عنوان «معارك الفن المشاغب فى الأهرام»، فى العدد الصادر بتاريخ 30 ديسمبر 1999، «ظلت جريدة الأهرام لا تعرف الكاريكاتير حتى الثانى من مارس 1962»، وهو اليوم الذى التحق فيه جاهين بـ«الأهرام»، ويصف فرحات الحالة التى صنعها جاهين فى «الأهرام» فيقول «إن روح صلاح جاهين المتدفقة بالحيوية ظلت مشتعلة فى الأهرام معبرة عن نفسها بتدفق دون خوف، رسما وكتابة وشعرا، معبرة دائما عن الرؤية الواعية والنظرة الثاقبة والقراءة المتخصصة لما وراء الأحداث، وفوق كل ذلك غير مفتقد البسمة ذات اللماحية المصرية الأصيلة، فلم يكن جاهين مجرد رسام دمه خفيف، أو ابن نكتة كما يقولون، لكنه الفيلسوف القادر على الهزل الواعى، والمبدع الذى لا يلين اذا دخل معركة، واذا كان صلاح جاهين بعد 1967 غير صلاح قبلها فإنه ورغم كل شىء قد تجاوز المحنة واستمر معبرا عن روح مصر فى كل معاركها، ولم تتخلف ريشته عن طابور المبدعين الذين شدوا أزر الأمة حتى تجاوزت محنتها بانتصار أكتوبر العظيم».
ويتساءل الكاتب أحمد بهجت (1932-2011) فى عدد الأهرام الصادر بتاريخ 2 أبريل 1988، عن ماهية القوة الموجودة فى الرسوم الكاريكاتيرية لصلاح جاهين، والتى تجعل الناس يتأثرون بها ضاحكين، رغم مرور الوقت عليها، فيقول: «لقد مات الفنان، ومرت الأيام، ولكن رسومه تنشر على الناس فيضحكون لها مثلما كانوا يضحكون لها حين نشرت أول مرة، وهم يحتفلون بها أكثر من احتفالهم بما ينشر من رسوم كاريكاتيرية الآن، ما هى القوة الكامنة فى هذه الرسوم، والتى تجعل لها القدرة على الحياة رغم زوال أسباب الحياة».
ويجيب جاهين عن سؤال أحمد بهجت عن أمنيته، فينقل عنه بهجت الإجابة بأمانة: «أمنية الشاعر المصرى صلاح جاهين أن يؤتيه الله القدرة على زغزغة العالم، عالمنا المكتئب، لكى يضحك معه، لأنه لا يستطيع أن يضحك بمفرده». وفى هذه الأمنية ما يكشف عن سر بقاء «كاريكاتير» جاهين حيا ومؤثرا حتى الآن.

فرج حسن يوضح فجوة الزمن بين الأجيال
وضع جاهين لمدرسة الكاريكاتير فى «الأهرام» أساسها المتين، فقد كانت دوما متزنة فى مزيجها بين النقد الوافى والتزام قدر وافر من الانضباط، وبين الحديث بلسان الدولة فى قضايا السلم والحرب، والتعبير عن هموم المواطن وتطلعاته. وكانت أيضا ذات أثر أكيد فى سياق النقد والتوجيه الاجتماعي. وإن كان جاهين امتاز بأنه الشاعر الذى كثيرا ما تأتى رسوماته مصحوبة بأشعاره، فإن لكل فنان كاريكاتير دخل فى عهده أو بعده إلى «الأهرام» سمات مميزة.
فبعد 16 عاماً، لحق الرسام ماهر داود (1938- 2009) بصلاح جاهين لينضم إلى الأسرة الكاريكاتيرية، حيث التحق بـ«الأهرام» عام 1978، وشارك بالعديد من رسوم الكاريكاتير على صفحاتها، عاكسا تجربته الفريدة فى التتلمذ على يدى فنان الكاريكاتير الكبير عبدالسميع عبدالله.
وفى 20 يونيو 1980 خرجت «الأهرام» بالخبر التالي: «فنان الكاريكاتير ناجى على صفحات الأهرام»، إعلانا عن انضمام الفنان ناجى كامل (1934-2013) والذى كان صرح مسبقا بأن صلاح جاهين هو من أتى به إلى «الأهرام» ليكونا معا فريقا ويحل محله فى أوقات مرضه. وتميزت تجربة ناجى فى «الأهرام» بالكاريكاتير المتعدد الكوادر الذى يجمع أكثر من قصة فى إطار واحد منتقدا وراصدا ملامح ظاهرة بعينها، مثل أحوال المصريين خلال فصل الصيف أو عادتهم فى شهر رمضان، وغير ذلك.
أما الفنان جمعة فرحات، فقد أضاف بعدا آخر لمدرسة الكاريكاتير الأهرامى، وذلك بتجربته المزدوجة ما بين «الأهرام» اليومى بلغته العربية وجمهوره العريض، وبين زاويته الشهيرة بصحيفة «الأهرام ويكلى» الأسبوعية الصادرة عن مؤسسة الأهرام باللغة الإنجليزية اعتبارا من بداية التسعينيات، والتى خاطبت فى الأساس جمهورا غير مصرى يسعى للتعرف على واقع الأحوال فى مصر، وموقف أهلها من مختلف القضايا داخليا وخارجيا.
وفى عام 1984، انضم إلى أسرة كاريكاتير الأهرام، الفنان فرج حسن، ليكون من أواخر جيل الوسط الداعم لمدرسة وضع أسسها جاهين قبل أكثر من 60 عاما.
رابط دائم: