قال لي: أنا مش بتاع جوايز، فيه كتاب كده، يكتبوا بس، المهم بالنسبة لهم، يكونوا «معلمين» مع الناس. هذا ما أخبرنى به الأديب وحيد طويلة، حين تمنيت له ــ عبر حديثنا ــ الحصول على إحدى الجوائز. وهذا بالطبع يتطابق مع مقولة بريخت «بأن الكتابة بلا مجد أمر صعب»، ولكنه يجعلنا نتساءل؛ هل لا خاسر فى الكتابة كما يقول الأديب طارق إمام؟ بالتأكيد يختلف المجد من كاتب لآخر، والخسارة لا يشعر بمرارتها الفائز، ولكن يقدرها كل كاتب حسب طموحاته، وما خطه لنفسه، وما يرجوه من وراء كتاباته.
............
فالكاتب حين يمتن لفعل الكتابة، ولا يجد متعة إلا فى العيش فى الوحدة والاختلاء بها حتى يتم إبداعه، من دون أن ينفد صبره، ومن دون أن يجنى من ورائها شيئا، هذا مجد عبرت عنه نوال بطلة الأديب إحسان عبد القدوس فى قصة بعيدا عن الأرض حين قالت «وإنى أحاول أن أكتب قصتى، لا ليقرأها أحد، إنى فى حياتى لم ألجأ إلى أحد، ولم أستغث بأحد، ولهذا أكتب لعل تسلسل السطور ينتهى بى إلى قرار، إنه نوع من العلاج النفسى، وأن يتسلسل الإنسان مع حياته حتى يصل إلى الحالة التى يعيشها، ويحدد أين يقف ليدرى بعد ذلك ماذا يفعل، وكيف يخطو». بالرغم من كثرة ما قيل عن متعة الكتابة وفعلها على لسان المبدعين، إلا إن القليل من أمثال نوال من اكتفى بذلك المجد المثالى. فالكاتب بطبيعته البشرية ما إن يصل إلى هدفه المنشود من مرحلة ما، حتى يتطلع إلى مجد جديد أو خسارة محتملة، وربما شطح به الخيال، وقرر الوصول لأبعد مرحلة من قبل أن يبدأ المشوار. فى تلك الخطوة الثانية، يحلم الكاتب بالإشادة بما يكتبه، حتى ولو فى حدود محيطه. فما أروع الاستماع لكلمة تقدير للشيء الذى تفكر فيه، ولا يقدره أحد. لا أدرى ماذا أقول، إنه شيء جميل أن تجدا أحد يقول لك إنك ستحدث فعلا جديدا. هكذا عبر صنع الله إبراهيم عن نفسه ــ والكثير منناــ فى يومياته. وهنا تزداد الدفعة المعنوية لدى الكاتب، وتتحول الكتابة من رغبة فى أن يكون فى علاقة فردية مع المجهول، إلى رغبة أكبر فى توسيع الدائرة، وخلق جمهور من القراء، وأن يكون «معلم» مع الناس. وتلك درجة أعلى من الطموح، ينشغل فيها الكاتب بالنشر والجمهور وحسابات السوق. وهنا يصطدم الكاتب إذا كان ناشئا بشروط دور النشر فى قبولها لأفكار وتيمات أدبية بعينها تناسب- السوق- وسياسة الدار، أو تسوُق له الاقدار من يزكيه، ويدفع موهبته للظهور. كما حكى الأديب أشرف العشماوى عن تزكية الأديب إبراهيم عبد المجيد له لدى المصرية اللبنانية حين هم بنشر أولى رواياته. أو تكون ذا ثقل أدبى فتكتفى بالمشاركة فى تسويق عملك مع الدار ولو من خلال المتابعين على الصفحة الشخصية بالفيسبوك. وهنا تبدأ مرحلة أخرى، يعبر عنها ابن رشد (نور الشريف) بمشهد غاضب من فيلم المصير، حين يلقى الكتب الموضوعة على الطاولة أمامه، ثم يوجه حديثه لابن الخليفة «أنا بكتب ليه؟! ولمين؟!، بدال اللى بكتبه مابيوصلش لحد». ويظهر فيها التسويق كلاعب أساسى فى رواج بعض الأعمال الأدبية. فاهتم بعض الكُتاب بالتفكير فى أفضل الطرق لتسويق أعمالهم، باعتباره ركنا يتنافس مع الكتابة ــ عند البعض ــ فى عملية النجاح. فاعتبرت بعض دور النشر الكاتب شريكا فى التسويق، وحملت بعضها الكاتب المسئولية، فى حالة عدم رواج إبداعه. فاختلط الحابل بالنابل، وظهرت روايات غثة، ذائعة الصيت، وكتاب مشوهون، برعوا فى تسويق أنفسهم، وبتنا نسمع عن «زمن الرواية»، ونشهد موت الأشكال الأدبية الأخرى، فى جريمة مكتملة الأركان من أجل الشهرة والمال. ومع ظهور الجوائز الأدبية العربية، والتى تتبنى الأعمال الأدبية المنشورة منها، والتى لم تنشر من قبل، واقترانها بالعائد باهظ القيمة، والذى دفع الناس للكتابة بلا موهبة، واتجاه البعض إليها ملتزمين بمتطلبات وشروط القائمين على الجائزة- إلا ما رحم ربى من الموهوبين- أملا فى النشر والمال والشهرة والتسويق على حساب الكتابة الجميلة، فبدأنا نرى للجوائز شروطا غريبة؛ كأن تكون الرواية والمجموعة القصصية أكثر من 25000 كلمة، وأن تشترط أخرى، ترسيخ العمل المقدم للقيم والمثل العليا، ويعزز الانتماء وألا تخالف التعاليم الدينية والتقاليد الأصيلة أو يحمل أى نوع من الإساءة أيا كان شكلها، أو أن تحمل بعدا طائفيا أو سياسيا. فأصبح الإبداع موجها، ولم يعد الفنان فوضويا يعيش بحرية مع خياله. فعندما مُنح سارويان جائزة بوليتزر. قال فى حيثيات رفضها إن المال يجب ألا يكون على علاقة بالأدب، وهذا مجد مثالى اتفق معه البعض، واختلف معه البعض الآخر لأسباب كثيرة. فالكاتب مكاوى سعيد قال فى كتاب مصنع الحكايات للأديب أحمد مجدى همام «أنا لا أهتم إلا بالقيمة المادية للجائزة، لأن الجوائز ليست معيار قيمة لكونها تخضع لأمور شتي»، والكاتب محسن الرملى قال «أنا مع الجوائز فى كل أشكالها وأنواعها، ومهما كثرت أرها قليلة، فكل إنسان يتمنى الحصول على مكافأة معينة على جهده وعمله، ولو كانت مجرد كلمة شكر أو اعتراف وسط هذا الكم الهائل من المحبطات والمثبطات وخيبات الآمال التى يتلقاها يوميا»، ثم يضرب مثلا ببول أوستر الذى ذهب على حسابه إلى قرية فى إسبانيا لاستلام جائزة اخترعتها مجموعة صغيرة من قراء القرية، وما هذه الجائزة إلا عبارة عن ورقة شكر مطبوعة على الكمبيوتر. فالجائزة بقيمتها المعنوية مجد، وإذا زادت عليها المادة فهى مجد آخر للكاتب، أو خسارة فادحة. فحين قرأت جملة الأديب طارق إمام، «لا خاسر فى الكتابة» والتى كتبها على صفحته- كمواساة- لمن لم يبلغ معه القائمة القصيرة لجائزة البوكر، أعجبتُ بها، ولكنى تساءلت عن وقعها عليه، حين تلقى خبر خسارة الجائزة لصالح الأديب الليبى محمد النعاس؟!. ترى ؛ متى لا نكون قد خسرنا حقا فى الكتابة؟
رابط دائم: