رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

كنز الأســرار الذى دفن مع منير عامـر

محمد شمروخ
منير عامـر

هل التاريخ هو ما يكتب فى الصفحات أم التاريخ هو ما يروى شفاهة؟!

ولكن ماذا عما حدث فلم يكتبه ولم تروه شفاة؟!

أسئلة عادت تتردد فى ذهنى إثر سماعى نبأ رحيل أستاذى وصديقى الكاتب الكبير منير عامر

فما سمعته منه مباشرة من حكايات ووقائع وشهادات لم تسجل فى سطور، يؤكد أن هذا الذى نقرأ تحت اسم «التاريخ» يمكن أن يكون غير الذى حدث فى الواقع.



ومنير عامر كتب كثيرا ولكن ما كتبه لم يكن كافيا وكثيرا ما كنت أبدى له استغرابى من قلة كتبه الصادرة بالنسبة لمقالاته وما يحتفظ به من معلومات ومواقف وأسرار عن شخصيات كبرى أثرت ولم تزل تؤثر فى حياتنا، مع أنه لا يكف عن كتابة المقالات ورواية الوقائع عن فترة ذهبية فى تاريخ مصر كان فيها شاهد عيان وطرفا مراقبا وعنصرا فاعلا، من خلال علاقاته المباشرة كصحفى مع كثير من رموز تلك الفترة، سياسيين، فنانين، أدباء، مفكرين، صحفيين. شخصيات عامة.

كانت أحاديثه وعلاقاته تؤكد أنه كان يعرف الكثير. ثم إن ما يميز الأستاذ منير أنه يتكلم مثلما يكتب، فتسمع وتقرأ نفس الجملة الرشيقة التى لم تحل رشاقتها أن يكشف لك فيها عن حقائق ومفاجآت قد تكون أحيانا موجعة وصادمة ولكنها دائما كاشفة!

عن جمال عبد الناصر والملك الحسن والملك حسين وعبد الحكيم عامر وصلاح نصر وعبد الحليم حافظ وسعاد حسنى وأختها -وابنة خالتها فى الوقت نفسه- نجاة الصغيرة، وكذلك عن إحسان عبد القدوس وعبد اللطيف بغدادى وعبد الرحمن الخميسى وكمال أدهم ومنصور حسن، وما لا يحصى من الأسماء فى مجالات عديدة أكثرها فى الفن والأدب والسياسة.

كان عامر يركز فى أحاديثه «الشفوية» الممتعة على الجوانب الإنسانية غير المغطاة تاريخيا وصحفيا فى الشخصيات التى يحكى عنها وأحيانا كان يبدو عليه أنه يوقف عمدا، سريان الحديث ليترك شهوة السماع عندك متشوقة لما بعد توقف عنده، فقد كانت عيناه تلمعان عند منحنى معين ثم يحول الحديث حتى لا يجرفه تيار الذكريات إلى ما استؤمن عليه، فقد كان هذا الكاتب الفياض فى معانيه وذكرياته يحسب حساب أمانة الأسرار لدى شخصيات وعن مواقف عديدة مرت فى حياته.

فى الثانى والعشرين من يوليو 2018 كان لى لقاء معه فى مسكنه بحى المهندسين وكان قد بدأ يتعافى من إصابة بكسر فى الساق اضطرته لأن يلزم المنزل، ولعل كل من اقتربوا من منير عامر يعرفون جيدا ماذا يعنى مكوثه بين أربعة جدران، فقد كان رحمه الله لا يكف عن النشاط والحركة ولا يعبأ كثيرا بتعليمات الأطباء، فمثله لا يقبل القيد ولو كان لأجل صحته، فقد كان يصر على أن يقود سيارته بنفسه وهو يتردد على الأماكن التى اعتاد عليها خاصة مقار المؤسسات الثقافية والصحف التى يكتب فيها.

فى تلك الليلة ولمناسبة تاريخها تحدث كثيرا عن جمال عبد الناصر - وكلاهما ينتميان إلى نفس الحى بالإسكندرية حيث كان يسكن فى الشارع الموازى للشارع الذى يقبع منزل الحاج عبد الناصر حسين والد جمال- وكان منير عامر يرتبط بعلاقة مباشرة مع جمال عبد الناصر رغم فارق العمر بينهما، وكان عبد الناصر أحد اثنين يتكلم عنهما عامر بكثير من الشجن وفى تلك الليلة أسر لى ببعض ما ضاق به صدره مما سمعه من جمال عبد الناصر فى أكثر من مناسبة خاصة بعد المحن، ولما اختنق صوت الأستاذ منير بالعبرات توقف الحديث لتتوقف معه فرصة لكشف عن خبيئة من خباياه التى واراها أعماق نفسه فلم ينبس بما يزيد.

أما الشخص الآخر الذى لم يكن يمل الحديث عنه، فهو عبد الحليم حافظ وكان عامر أحد المقربين من عبد الحليم حافظ لفترة طويلة من العمر وحتى وفاة العندليب.

كانت أغلب أحاديث عامر عن ناصر وحليم فى ذلك اللقاء الذى قضينا غالبية وقته فى مكتبته الخاصة بمنزله والمكدسة بالكتب القديمة والحديثة الأجنبية والعربية وبين لوحات لأشهر الرسامين، لكن الصور التى ينقلها تركز أكثر على الجوانب الإنسانية، ورغم كل ما كتبه الأستاذ منير عن العندليب كمثال، إلا أن الكثير لديه لم يكتبه، فهناك وقائع قد لا تصلح إلا للرواية الشفهية وقد لا تشعر بقيمتها إلا بالنقل المباشر لترى أثر الحكى على انفعالات وجه الراوى ولا أظن أن الكتب يمكن أن تنقل هذا بدقة السماع المباشر ولذلك أعود لسؤالى عن كتابة التاريخ تحريريا وروايته شفهيا وما بينهما من فارق قد يبدو رغم وضوحه، ذا أهمية كبيرة ولكن ما الحل فى هذا الأمر؟!

وفى ذلك اللقاء أيضا، سألته مباشرة عما يتردد عن زواج عبد الحليم وسعاد حسنى وهى قضية تثار بين الحين والآخر ويغلب عليها طابع الثرثرة ورغم تأكيد البعض هذا الزواج فإن عامر نفى ذلك تماما ولكن الحديث تطرق إلى حياة عبد الحليم حافظ العاطفية وهنا بدا الحزن الشديد على وجه الأستاذ وراح يتحدث عن شخصية عبد الحليم وجوانب الضعف أو بالحرى جوانب الرقة الإنسانية، فكيف لا يكون رقيقا ذلك المطرب الذى أشعل القلوب بأروع أغانى ومعانى الحب، لكن مشعل الحب وسمير ليالى العاشقين ومعشوق نساء العالمين «ممنوع من الحب» رغم أنفه بسبب ظروفه الصحية.

لم يتزوج العندليب السندريلا ولكن كان بينهما قصة حب، لا بل قصة جرح عميق وألم لا يطاق، كانت تحبه ويحبها لكن جراحهما معا كانت أقوى من أى عاطفة!.

هذا الذى ذابت قلوب العذارى على صوته لم يكمل قصة حب؟!ولما اغرورقت عينا الأستاذ بالدموع عرفت أنه مؤتمن على سر، حتى لو أذيع من غيره، فإنه لن يبوح بما هو أكثر وأعمق!

كانت أحاديث الأستاذ تطول فى مجالات عدة وكان عشقه الأول الصحافة التى مارس من خلالها حياته ورغم مكانته الكبرى، إلا أنه كان يرفض أن «يتأستذ» لو صح التعبير، على الأجيال اللاحقة له من صغار الصحفيين، مع استحقاقه لهذه الأستاذية بكل درجات الاستحقاق.

كان أقسى ما مر به العزلة التى فرضتها عليه ظروفه الصحية ومرحلة الشيخوخة وجاءت ثالثة الأثافى بضعف نور عينيه فلم يقدر على القراءة التى كانت متنفسه فى الحياة وإن ظل يثابر على الكتابة، لكن الطامة الكبرى كانت فى فقد رفيقة عمره فى أبريل الماضى ومنذ ذاك اليوم فقد الرغبة فى الحياة التى كان يعيشها بالطول والعرض فى جميع مراحل عمره، كان الحزن واضحا فى صوته وكان يجهده الكلام وهو الذى كان يكتب كثيرا ويتحدث كثيرا.

لكن الأكثر هو ما لم يكتبه أو يتحدث به.. هكذا يبدو لي!

إن الذى دفن يوم الاثنين الماضى ليس جسد الأستاذ منير عامر وحده، لكن دفنت معه حقائق وأسرار وخبايا آثر ضميره الإنسانى ألا يكشفها واستطاع ضميره المهنى أن يشير إليها من بعيد بين ثنايا مقالاته وأحاديثه.

كذلك دفنت مع عامر مرحلة عظيمة فى عمر الصحافة التى تقاوم بدورها الآن سكرات الموت.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق