استقر على مقعده الوثير، تنقلت عيناه بين شهادات التقدير الموقعة من هيئات موسيقية قومية ومحلية. توقفت عند الكمان الذى رآه معلقا عند زاوية من زوايا الصالون الذى يفضل الجلوس فيه عند شعوره بالوحدة. يفكر فى نظراتها الحانية، وهى تنسحب من الحياة، كم كانت حنونة ومؤثرة.
يأتيه نقيق الضفادع من حقول زراعية قريبة من بيته الذى اختاره فى ناحية بعيدة عن الناس.
كان ساعى البريد يأتيه بخطابات المعجبات والمعجبين، يطلبون منه أن يأتى لمدنهم كى يعزف على كمانه ألحانا تتميز بالرقة والرهافة.
كانت السعادة تغمره وهو يرفع سماعة التليفون، يرد على مكالماتهم، يعدهم بأن يلتقى بهم فى أقرب فرصة.
طاف بالبلاد شرقا وغربا، وآن له أن يستريح بعد أن حقق الشهرة والمجد.
يخرج النياشين الموضوعة فى دولاب زجاجى كبير، يتفحصها من جديد، يرى أن الأوشحة قد ذهب بهاؤها فصارت أقرب للملابس القديمة المصفرة.
لا أحد يمنعه من العزف، عليه أن يجرب من جديد تمرير القوس على الأوتار، غير أن أصابعه لا تطاوعه. تخرج النغمات نشازا.
هو يثق فى إمكان عودته لمجده السالف غير أن أطباء الأعصاب نصحوه بأن يستريح، فلا يجهد نفسه.
سافر بولس وحنا إلى كندا بينما استقرت مارجريت فى ألمانيا. قبل أن تغمض أوديت عينيها طلبت منه أن يعزف لها فالسا كانت تحبه، وقتها استجمع شجاعته، وعزف لها وحدها ببراعة غير مسبوقة. كان عزفه يرتقى بها لسموات بعيدة.
تشجعه بإيماءة من رأسها بينما ينظر إلى شعرها الأبيض الذى بدا كالتاج. قالت له والألم يعتصرها: رائع يا ميشيل.
كانت آخر كلمة نطقت بها، حضر قداسها بالكنيسة جيران كثيرون، ولم يكن ممكنا عودة الابنين والابنة.
يرى صورتها معه فى إحدى حدائق مدريد يتجولان بانطلاق، وهو يسبقها بخطوة وهى تحاول اللحاق به.
حياة مليئة بالموسيقى والمقامات والسفريات البعيدة.
قال لمارجريت قبل سفرها: جهزى جواز سفرك، ادرسى هناك ثم عودى لترعى أمك.
هزت رأسها بأنها ستفعل، ولكن مشاغل الحياة منعتها من العودة، وإن ظلت الاتصالات التليفونية بلا توقف.
وقت الجلوس على المائدة كانت تفضل العشاء مع إشعال الشموع، ضحك محذرا إياها: تبدين كالخواجات؟ ضحكت ضحكتها المحبة للحياة، هزت رأسها، قالت له مشاغبة: حاضر يا خواجة ميشيل.
حين وقع بولس من فوق الحصان، حمله أبوه وجرى به لعيادة الدكتور محمد عقل. تخطى الدور بعد استئذان الناس: أرجوكم، معى طفل.
كانوا متسامحين فسمحوا له بالدخول، فى داخل حجرة الكشف، أكد له الدكتور محمد أن الإصابات طفيفة، وكلها سطحية.
مال على الطفل وربت على رأسه: من أسقطك، الحصان أم خوفك من أبيك ميشيل؟
كان الطفل يمر بمرحلة حرجة فلم يرد عليه. تجولت نظراته فى المكان، خرج والضمادات تحيط برأسه.
قالت أمه بالخارج. لو تعافى علينا أن نفى بالنذر فى مولد القديسة دميانة.
يسترجع أوقاتا صعبة مرت بهم، حين تشاجر «حنا»، وتلقى ضربة على رأسه من زميله عبدالسلام الخياط.
ذهب إلى المدرسة غاضبا، أرسل الناظر يستدعى الطفل. وجده الأب مثل نواة البلح الإبريمى، لا ينطق وجهه بالشقاوة.
قال حنا، وهو يرى جسد زميله يرتجف: أنا سامحته يا أبى.
قبل أن يجيب الأستاذ ميشيل بشىء، أسرع عبدالسلام بالاعتذار. قال لحنا: اضربنى فوق رأسى بقبضتك. واحدة بوحدة هذا حقك.
شعر حنا بالحرج، رفع يده وهبط بها على رأس زميله بخفة، ضربة خفيفة كأنه يقبله.
ضحك الناظر والأستاذ ميشيل وضحك حنا، أما عبدالسلام فقد أمسك بيد زميله، رفعها وجعلها تهوى بقوة على رأسه فسمعت الضربة فى فضاء الحجرة التى ترفع علم الجمهورية وتحتلها صورة جمال عبدالناصر.
وقت الانصراف، قال عبدالسلام لحنا وهما يغادران المدرسة، وبشكل عفوى: تعالى لتلعب معنا الكرة؟
قال حنا متحيرا: أبى لو علم سيعاقبنى.
جذبه من يده: ومن يفتن علينا؟
عاد حنا إلى البيت متأخرا، وعند جلوس الأسرة على مائدة الطعام، قبل أن يضع لقمة فى فمه، نطق حنا: أنا يا أبى خالفت تعليماتك ولعبت الكرة فى الشارع.
لحظة صمت قطعتها أوديت، وكانت ما زالت شابة وجميلة: ولم لا.. كل الأطفال يلعبون.
يذهب للحائط يمسك الكمان، يحاول من جديد أن يعزف بكل المهارة التى تعلمها، فى الحجرة نفسها التى قبلها فيها القبلة الأولى.
يشعر بأنه لن يخفق هذه المرة، لم يملك نفسه وهو يرى أوديت فى صورتها المعلقة على الحائط، تهز رأسها مشجعة: رائع جدا.. رائع.. يا ميشيل؟!
................................
◙ «مهداة إلى روح الأستاذ ميشيل، معلم الموسيقى، فى مدرسة دمياط الإعدادية بنين، سنة 1964».
رابط دائم: