حتى لا ندفن رؤوسنا فى الرمال، أو نحولها لمعركة كلامية تدار على مواقع التواصل الاجتماعى «السوشيال ميديا»، دون وصول إلى حلول جذرية.
ما يحدث من جرائم اعتداء على الفتيات، وانتحار شباب، وتطرف فكرى ودينى بأشكاله المتعددة.. كل ذلك ليس سوى مجرد إشارات بسيطة وعلامات دالة عما يعانيه المجتمع داخليا.. وسوف يستمر حدوث ذلك، وتتزايد معدلاته ما دمنا لدينا إصرار على عدم الوعى بالأساسيات المعنية ببناء الإنسان، والأدهى أننا صرنا نضعها فى مراحل متأخرة من ترتيب أولوياتنا وملفاتنا، على الرغم من كونها المسؤول الأول عن كل أشكال التطرف، وهذه الأساسيات التى أعنيها هى: الوعى والثقافة والتعليم.
.............................
الوعى الذى نلح كثيرا فى التنبيه إلى أهميته، هو بوابة العبور، وأساس البناء والتنمية، وإغفاله يجر المزيد والمزيد من الخراب والدمار بأشكاله المتعددة، سواء من خلال التعامل مع مفهوم الدولة بعداء وتخريب منشآتها، أو من خلال هذه الجرائم التى نراها فى حق النفس أو الغير، أو من خلال الممارسات غير السليمة التى تنهك قوى الدولة، فمثلا الذين يتعاطون المواد المخدرة التى تسبب الفشل الكلوى وأمراض الدم وغيرها، هم ينهكون كاهل الدولة من خلال ما تنفقه وزارة الصحة من مليارات، لو كان هناك وعى سليم لوفرنا هذه المليارات لمصلحة ملفات أخرى أولى وأهم، وهذا جميعه فى نهاية الأمر يؤدى لالتهام معدلات التنمية مهما كانت قوتها وسرعتها.
وإصلاح الوعى لا يكون إلا من خلال الوعى.. الوعى بضرورة وضع استراتيجيات داعمة تكون مسؤولية كل المؤسسات وقطاعات الأعمال، والوعى بضرورة دعم إنتاج الفنون والآداب لأنها القادرة على تمرير الوعى السليم من خلال «الميديا» المتحكمة فى توجيه وعى العالم كله الآن، ولنتذكر دائما مثالا حديثا، وهو مسلسل «الاختيار» بأجزائه، وقدرته على تعديل مسارات الوعى التى كان يصعب تحقيقها بوسيلة أخرى غير الفن.
وأما ملف الثقافة، فهو فى حاجة إلى جهود مختلفة تماما عما يحدث، لأن أدوارها عالميا الآن تجاوزت مجرد تلك النظرة الضيقة التى تحصرها فى الفنون والآداب والترفيه فقط، إلى نظرة أوسع غدت فيها الثقافة بنية من بنى مجتمع المعرفة المعاصر بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وبكل أهدافه الداخلية والخارجية كما تنتهجها الدول الواعية بأهمية ودور وطبيعة ومفهوم الثقافة.
الثقافة عالميا الآن تحكمها منطلقات واستراتيجيات تبدأ بتحديد السياسات الثقافية، وهو أمر من المفترض أنه ليس جديدا علينا، فمصر فى الخمسينات مثلا كانت لديها سياسة ثقافية بإشراف ثروت عكاشة، وكانت تضع الثقافة الجماهيرية فى المقام الأول، وهو ما جعلها تحقق أهدافا تنموية داخلية، وأهدافا خارجية لا يزال تأثيرها حاضرا حتى الآن من خلال نموذج القوة الذى أسست له.
والثقافة تعتمد عالميا الآن على «الصناعات الثقافية» وتعززها وتدعمها، لأنها البوابة لتحقيق المكاسب بكل أشكالها، وصولا إلى تحقيق المكانة العالمية، وهو مفهوم متسع يبدأ من الحرف اليدوية، وإعادة إحياء المندثر منها، ويتدرج وصولا إلى صناعة الإعلام والسينما التى غدت صناعات عالمية لا تقتصر على تحقيق العوائد والأرباح الاقتصادية فقط، وإنما تحقق أهدافا سياسية وتوعوية للبلدان المنتجة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
والثقافة تهدف الآن إلى تعزير ودعم قيم المواطنة والولاء والانتماء، ليس من خلال الندوات والشعارات الإعلامية، وإنما من خلال خطط الأنشطة الفعلية على أرض الواقع، والتى تعتمد فيها على استراتيجيات المشاركة المجتمعية، والتطوع، وغيرها من الآليات المدروسة علميا واللازمة لمعالجة قضايا المجتمع ومواجهة أشكال التطرف الفكرى والدينى، ومنها ما نراه من مؤشرات الجرائم الراهنة، والتى ستستمر ما دامت الثقافة لا تقدم الحلول الفعلية لعلاج وعى المجتمع.
وأما التعليم، فقد تم تفريغه تماما من مضمونه، وغدا هدفه مجرد الانتقال من مرحلة لمرحلة والحصول على الشهادات دون النظر لما حدث أو يحدث فى الدماغ والوعى والفكر من تأثير هذا التعليم، ومدى ما تركه فيه من إيجابيات وسلبيات، ولذا فإن التطرف الفكرى والدينى يعد فى عرف الدول الواعية من مسؤوليات التعليم وقضاياه الأساسية، وما يحدث فى مجتمعاتنا المعاصرة يقتضى سرعة معالجته من خلال برامج التعليم الرسمية وغير الرسمية.
ومعروف أن التعليم الجيد هو الذى تحكمه استراتيجية تنطلق من فلسفة وأهداف الدولة على المدى البعيد، وتعتمد على تعليم وتعلم المهارات والقيم والعادات والتقاليد فى مزج بين المحلى شديد الخصوصية والعالمى بتطوراته «مجتمع المعرفة وآليات صناعته كما هو متداول الآن».
التعليم ليس إشكالية مستحيلة الحل، ولكنه قضية تحتاج إلى حوار مجتمعى، يضع فى اعتباره الحلول والمداخل العلمية والنظريات التربوية التى اتبعتها بلدان شبيهة بظروفنا الاقتصادية، أو كانت شبيهة منذ عقود قليلة، ولكنها استطاعت من خلال اعتمادها المداخل العلمية، وتصميم برامج تعليمية يحتاج إليها العالم المعاصر، مما جعل التعليم لديها استثمارا تجنى عوائده الآن «الهند وماليزيا وإندونيسيا».
وأخيرا فإننا لم ننتبه ولا نريد أن ننتبه إلى أنه تم تفريغ ملفات الثقافة والتعليم والوعى من مضمونها، وأنها انحرفت عن مسارها الذى كان ينبغى أن تستمر فيه ليأتى بنتائجه كما حدث فى مطلع القرن العشرين، وكما رأينا صورة مصر الليبرالية خلال الثلاثينات والأربعينات وما حققته بسبب العناية بملفات الوعى والتعليم والثقافة، عبر اعتمادها على الفنون والآداب والدوريات والصحف والمسرح ومدارس التعليم، والأنشطة الأهلية والحكومية المعنية بتثقيف ووعى المواطنين «وبالمناسبة وقتها لم تكن هناك وزارة ثقافة من الأساس، وإنما كان التثقيف مهمة الجميع».
وحتى عندما ظهرت جماعات الإخوان الملعونة، وعندما قامت بحريق القاهرة مطلع الخمسينات، فإن المجتمع المصرى لم يقبلها لأن وعيه كان يستطيع التمييز بين الفطرة السليمة، والجماعات المندسة التى تستخدم الدين ستارا أو سلما لتحقيق أهداف أخرى «الوصول لحكم مصر حتى بالتحالف مع الاحتلال الإنجليزى كما توثق كتب التاريخ».
وفى مراحل لاحقة عندما ظهرت جماعات التيارات الدينية المتشددة فى مطلع الثمانينات من القرن العشرين، فإن المجتمع هو الذى تصدى لرفض هذا التشدد، وشاهدنا ذلك بأنفسنا فى القرى والأرياف والمدن، وكيف كان رفض الأهل أبناءهم المنتمين لهذه التيارات، وكان يصل الأمر إلى حد الطرد من المنزل، وهو ما ساعد جهود الدولة آنذاك فى القضاء على هذه التيارات سريعا، والتاريخ شاهد.
رابط دائم: