مثل إبرة وسط أكوام من القش تبحث بريطانيا عن فوائد الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو البريكست، بعد مرور ست سنوات على الاستفتاء الذي غير بريطانيا وأوروبا بشكل جذرى.
فعلى مدار السنوات الأخيرة، رفض «داوننج ستريت» مرارا الالتزام بإجراء «تقييم كلي» لتأثير البريكست، قائلاً إن التأثير «لن يكون واضحا» بسبب آثار جائحة كوفيد 19، والحرب الروسية- الأوكرانية.
لكن في الذكرى السادسة للبريكست، ومع التراجع الكبير في مخاطر الجائحة وعدم قدرة الحكومة على إلقاء اللوم على كوفيد 19 في التراجع الاقتصادي الذي تعانية بريطانيا، تتكشف بوضوح تكلفة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فكل القطاعات الاقتصادية، من الزراعة، للتجارة، للصناعة، لصيد الأسماك، للخدمات، للطيران تتكبد خسائر كبيرة، وتتعثر في روتين العلاقات الجديدة مع الاتحاد الأوروبي، وتكافح لإيجاد يد عاملة بعدما غادر مئات الآلاف من المواطنين الأوروبيين بعد البريكست.
وحتى وزير «فرص البريكست» جاكوب ريس موج، الذي عينه بوريس جونسون قبل عدة أشهر لإظهار مزايا البريكست وفوائده توقف عن الحديث عن العوائد الاقتصادية للبريكست، وبدلاً من ذلك يركز على ما يقول إنه المكاسب الديمقراطية، واستعادة السيطرة، وعودة السيادة.
هذا الهروب من الحديث عن فوائد البريكست لا يثير الدهشة. فالبيانات الاقتصادية تتراكم يوما بعد يوم لتظهر الضرر الذي يلحقه البريكست بالاقتصاد البريطاني بعدما غادرت بريطانيا السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي، وتم إدخال قيود حدودية وجمركية جديدة.
فقد انخفض الأداء التجاري للمملكة المتحدة هذا العام إلى أسوأ مستوى له منذ الخمسينيات، وبلغ عجز ميزان المدفوعات 8.3 % من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من عام 2022. واستمر تراجع الجنيه الإسترليني أمام الدولار بسبب الأداء الضعيف لصادرات المملكة المتحدة، فقد خسر الجنيه الإسترليني أكثر من 10% من قيمته مقابل الدولار خلال العام الماضي. كما تراجع حجم التبادل التجاري بين بريطانيا وأكبر شريك تجاري لها وهو الاتحاد الأوروبي بنحو الثلث. أيضا هناك تراجع ملحوظ في الاستثمارات الأجنبية بسبب عدم اليقين المرتبط بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويعكس تراجع الاستثمارات والعجز في حساب المدفوعات اختلالا في الواردات والصادرات حدث بالأساس بسبب البريكست، ثم تفاقم بسبب ارتفاع أسعار الطاقة في ضوء الحرب الروسية -الأوكرانية.
وقدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن بريطانيا ستسجل أدنى معدل نمو في مجموعة العشرين باستثناء روسيا التي يستنزف اقتصادها بسبب الحرب مع أوكرانيا. ويقول «مكتب مسئولية الميزانية» البريطاني إن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي سيكون له تأثير طويل الأجل في خفض الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا بنسبة تبلغ 4 %، إي خسارة نحو 100 مليار جنيه استرليني من الناتج المحلي.
وتظهر الأرقام الصادرة عن «مركز الإصلاح الأوروبي»، وهو مركز دراسات مستقل مقره لندن، أن البريكست قد أدى بالفعل إلى تراجع النمو الاقتصادي وأنه خلال العام الماضي فقط كلف البريكست بريطانيا نحو 31 مليار جنيه إسترليني.
فكثير من القطاعات الاقتصادية البريطانية، سواء التجارية أو الصناعية أو الزراعية، اضطرت لفتح مقار لها في دول الاتحاد الأوروبي لتجنب كل العوائق القانونية والجمركية التي يفرضها البريكست على العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا وشركائها السابقين في الاتحاد الأوروبي. وهذا يعني ان هذه الشركات البريطانية تتكلف الآلاف من الجنيهات الإسترليني من أجل شراء أو تأجير مقار جديدة لها في دول مثل هولندا، أو بلجيكا، أو المانيا، أو ايرلندا، أو فرنسا لتجنب ملء استمارات التصدير لأوروبا، أو إجراءات الكشف الصحي على الصادرات، أو بيانات الضريبة المضافة وهي كلها إجراءات روتينية أدت إلى تحميل الشركات البريطانية عئباً مالياً وبيروقراطيا كانت في غنى عنه.
لكن إقامة مقار لهذه الشركات في دول أوروبية، وإن كان يسهل التبادل التجاري مع الشركاء الأوروبيين، إلا أن له تكلفة باهظة على الاقتصاد البريطاني. فالشركات البريطانية المسجلة في أوروبا تستعين بيد عاملة أوروبية، وتدفع ضرائب على أرباحها في أوروبا وليس في بريطانيا، لأن شركاتها تعتبر أوروبية، وعندما تتوسع فإن هذا التوسع يتم في أوروبا. باختصار تجني بعض الدول الأوروبية عوائد للبريكست، أفضل كثيراً مما تجني بريطانيا.
أما صناعة صيد الأسماك، التي وُعدت بفرص ضخمة خارج الاتحاد الأوروبي، فتعاني أزمات لا تنتهي بسبب القيود على دخول الأسواق الأوروبية. ومع ارتفاع تكاليف الوقود باتت صناعة صيد الأسماك غير مربحة تقريبا. فمثلا يكسب طاقم سفن الصيد في المتوسط حاليا أقل من 3 جنيهات إسترليني في الساعة بعد دفع ثمن الديزل.
وفوق كل هذه المشاكل تعاني بريطانيا نقصا في اليد العاملة. فمنذ مغادرة مئات الآلاف من المواطنين الأوروبيين بريطانيا بعد البريكست ــ وهناك نقص حاد في العاملين في القطاع الزراعي، وفي قطاع الخدمات، والقطاع الصحي، والقطاع الصناعي، وكل هذا يقيد فرص نمو الاقتصاد البريطاني.
ولا عجب أن تظهر استطلاعات الرأي البريطانية أنه حتى أنصار البريكست الذين صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي يشعرون بالندم على الخطوة.
فقد وجدت دراسة أجرتها شركة «ابسوس» لقياس الرأي العام أن نسبة البريطانيين الذين يعتقدون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعل حياتهم اليومية أسوأ قد ارتفعت من 30% في يونيو 2021 إلى 45% في يونيو هذا العام، فيما قال 17% فقط ممن تم استطلاع رأيهم إن حياتهم قد تحسنت.
وفي مواجهة هذه الآثار الكارثية لا يعترف أنصار ومؤيدي البريكست في الحكومة البريطانية وحزب المحافظين الحاكم بالعيوب الهيكلية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بل يحملون جونسون شخصيا المسئولية، لأنه فشل في إدارة بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفشل في الاستفادة من مزايا التحرر من قوانين وقيود الاتحاد الأوروبي. وفي رأي هؤلاء وعلى رأسهم كبار أنصار البريكست في البرلمان البريطاني مثل ستيف بيكر، وأيان دنكان سميث، وبيتر بون، ويفيد ديفيز، واندورا بريدجن فإن «البريكست لم يتم تفعيله بعد» بسبب إخفاق الحكومة الحالية.
لكن السؤال الذي يقلق بريطانيا حاليا هو: ماذا لو كان البريكست فعلا مشروعا كارثيا للاقتصاد البريطاني؟ وماذا لو كانت كل اتفاقيات التجارة الحرة التي تفاوضت وتتفاوض عليها بريطانيا مع استراليا، أو كوريا الجنوبية، أو كندا، أو الهند لن تعوض الخسائر التي تكبدها الاقتصاد البريطاني بعد وضع عوائق قانونية وجمركية مع جاره وأكبر شريك تجاري له، وهو الاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن النكوص عن البريكست مستقبلاً إذا ظهر حجم الضرر الذي يلحقه بالاقتصاد البريطاني؟
هذه الأسئلة تثير انقسامات حادة في بريطانيا سواء على المستوى الشعبي أو السياسى. فعلى الرغم أن أغلبية البريطانيين تشعر بالفجوة الهائلة بين «وعود البريكست» وبين «حقيقته المؤلمة» التي تتجلى على الأرض، فإن أقلية تريد إعادة الجدال حول عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو الجدال الذي قسم المجتمع البريطاني وأحدث شرخا واستقطابا لم يلتئم حتى اليوم. كما أنه ليست هناك أية ضمانة أن الاتحاد الأوروبي سيدعم عودة بريطانيا للتكتل الأوروبي إذا ما أصبحت هناك أغلبية وسط البريطانيين تدعم العودة لمؤسسات الاتحاد الأوروبي.
أما على المستوى السياسي، فيبدو أن حزب العمال المعارض يريد أيضا إغلاق «سؤال العودة» للاتحاد الأوروبي برغم كل مساوئ البريكست. ففي كلمة له حول كيفية «إنجاح البريكست» قال كير ستارمر زعيم حزب العمال، الذي رفض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016، إنه لن يحاول إلغاء البريكست أو إعادة بريطانيا للسوق الأوروبية الموحدة أو الاتحاد الجمركي، موضحا أنه قادر على «جعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ينجح».
ووضع ستارمر «خريطة طريق» من خمس نقاط لعلاج «الألم الاقتصادي» للبريكست، قائلاً إن»حكومة مختلفة يمكن أن تجعل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ناجحا».
وتتضمن خطة ستارمر الحد من العراقيل الجمركية والقانونية التي تقيد التبادل التجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وعقد صفقات بشأن الزراعة والغذاء، والتفاوض بشأن الاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية، ومواءمة قواعد البيانات، وإبقاء بريطانيا في «مشروع هورايزون» العلمي الذي تبلغ ميزانيته 95 مليار يورو، والذي باتت مشاركة العلماء البريطانيين فيه تواجه صعوبات كبيرة منذ البريكست ما يؤثر على المكانة العلمية والبحثية لبريطانيا.
وأعطت الحكومات الأوروبية استجابة إيجابية لأفكار ستارمر، لكن كما يحذر الدبلوماسيون الأوروبيون فإن «المزايا التي تريدها لندن سيكون مقابلها التزامات قانونية ومالية».
لكن وفي دلالة على الانقسامات داخل حزب العمال المعارض حول مستقبل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، قال عمدة لندن، صديق خان، العضو في حزب العمال، فى وقت سابق إنه يجب على بريطانيا التقدم للانضمام مجددا إلى السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، مخلفا بذلك رأي ستارمر. وخان ليس الوحيد فهناك المئات وسط حزب العمال الذين يريدون عودة بريطانيا للسوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي.
أما إيان بلاكفورد، زعيم الكتلة البرلمانية للحزب القومي الأسكتلندي في البرلمان في وستمنستر ــ يريد حزبه إجراء استفتاء شعبي ثان لاستقلال اسكتلندا عن المملكة المتحدة ــ فرد على اعلان ستارمر أن حزب العمال لن يحاول إعادة بريطانيا للسوق الأوروبية الموحدة أو الاتحاد الجمركي بقوله: «لقد عزز كير ستارمر قضية استقلال اسكتلندا من خلال تبني رؤية حزب المحافظين وهي البريكست الخشن...لقد تحول ستارمر إلى تقليد شاحب لبوريس جونسون، ولا يقدم أي تغيير حقيقي على الإطلاق.»
منذ أقر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون بإجراء استفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي وهناك «حالة حرب» داخل المجتمع البريطاني، وداخل الطبقة السياسية في المملكة المتحدة، وبين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، وبين المكونات الأربعة للمملكة المتحدة وهي إنجلترا، وأيرلندا الشمالية، واسكتلندا، وويلز. ولا يبدو أن حالة الحرب الداخلية هذه على وشك الانتهاء قريباً. بالعكس يبدو أنه كلما ظهرت عواقب البريكست، اشتعلت الحرب الداخلية بانتظار اطفائها أو خروجها عن السيطرة.
رابط دائم: