خلال ثمانية أسابيع سيكون لدى بريطانيا رئيس وزراء جديد، هو رئيس الوزراء الرابع منذ 2015. فهل باتت بريطانيا هى «إيطاليا الجديدة» التى كثيرا ما تندر عليها السياسيون فى أوروبا بسبب تقلباتها السياسية العاتية، وقصر بقاء حكومتها فى السلطة؟
ربما، لكن بينما كانت أوروبا تنظرلإيطاليا بـ «شفقة» بسبب حدة تقلباتها السياسية، فإن الأوروبيين ينظرون بـ «شماتة» لبريطانيا، وسط اقتصاد فى حالة شلل، وحزب يمزق نفسه إربا، ودولة رصينة باتت أضحوكة فى العالم مع تنامى اليمين القومى الشعبوى الذى يأخذها لمنحدرات مخيفة. وبينما يستعد جونسون لمغادرة المشهد السياسى إثر استقالته بعد أزمات متلاحقة ارتفعت أمواجها حتى أغرقته وحكومته، فإن السؤال المطروح هو: من يريد أن يرث ذلك الكابوس؟
فما يتركه جونسون خلفه من إرث سياسى سيحول مهمة خلفه لما يشبه المهمة المستحيلة. فرئيس الوزراء الجديد الذى من المفترض أن يتم اختياره فى الأسبوع الأول من سبتمبر المقبل سيكون على طاولته عدد من الملفات الملغومة والصعبة، تتصدرها أعلى نسبة تضخم فى بريطانيا منذ نصف قرن، وأزمة تكلفة معيشة يترنح تحتها المواطن البريطانى، وضعف قياسى للنمو، وتراجع الاستثمارات والإنتاجية، وآثار البريكست الذى أدى لتراجع التبادل التجارى بين بريطانيا وأكبر شريك لها وهو الاتحاد الأوروبى بنحو 20%، وتسوية أزمة بروتوكول أيرلندا الشمالية بدون الدخول فى حرب تجارية مع التكتل الأوروبى وهى حرب ستكون مكلفة جدا للندن، وإنقاذ المملكة المتحدة من التفكك، وسط استمرار صعود المد القومى فى أيرلندا الشمالية واسكتلندا بعد فوز حزب «شين فين» القومى فى أيرلندا الشمالية بأكثرية مقاعد البرلمان الإقليمى. وإصرار الحكومة الأسكتلندية على إجراء استفتاء شعبى ثان للاستقلال عن المملكة المتحدة. هذه التركة - الكابوس هى نتاج ثلاثة عوامل متشابكة: أولا شخصية جونسون الذى عانى فضائح أكبر من أى سياسى بريطانى آخر خلال سنوات حكمه. وثانيا، البريكست، وهو مشروع من صنع يد جونسون نفسه، ما زالت بريطانيا تتلمس كيف تتعايش معه. وثالثا، أحداث جسيمة لا يستطيع أحد التنبؤ بها مثل أسوأ جائحة يعانى منها العالم منذ 100 عام. ووسط هذا الإرث الثقيل، لا عجب أن يتحرك حزب المحافظين بسرعة لإجراء انتخابات خليفة جونسون لإنهاء ذلك الفصل المؤلم فى السياسة البريطانية. لكن هذا لن يكون سهلا. فهناك مزيج سام يتجمع فى أفق السياسة البريطانية. فالناخب البريطانى يشعر بالإعياء، ليس فقط من كثرة الانتخابات التى تعكس أزمات سياسية متلاحقة، لكن أيضا بسبب السحب الداكنة التى تتجمع فى سماء الاقتصاد والتى يشعر بها البريطانيون أكثر من غيرهم من نظرائهم الأوروبيين. فبسبب التضخم وأزمة تكلفة المعيشة، وتراجع الإنتاجية، وضعف النمو، واللامساواة، انخفض عمليا دخل الأسرة البريطانية فى المتوسط على مدى الـ 15عاما الماضية بنحو 9 آلاف جنيه إسترلينى مقارنة بنظرائهم الأوروبيين. وبالتالى، بينما نجحت فرنسا وألمانيا وهولندا فى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، عانت بريطانيا من اتساع الفجوة، ما أدى لأرضية خصبة لانتشار أفكار اليمين القومى الشعبوى. أيضا تكشف استطلاعات الرأى العام أن الناخب البريطانى من أقل الناخبين الأوروبيين ثقة فى الطبقة السياسة، وهذا ينعكس فى تراجع الإقبال على التصويت عاما بعد عام.
أما الشق الثانى من المزيج السام الذى يتجمع فى أفق السياسة البريطانية فهو أن حزب المحافظين الحاكم فى حالة حرب أهلية مع نفسه، كشفها وعززها السباق لخلافة جونسون. فالحزب اليوم منقسم على نفسه بين تيارين: الأول هو «اليمين القومي» المؤيد بشكل أيديولوجى للبريكست مهما تكن نتائجه الاقتصادية، والمدافع عن عدم تدخل الدولة فى الاقتصاد وترك آليات السوق تصحح التفاوت واللامساواة، والرافض للالتزام بالحد من انبعاثات الغاز المسببة للاحتباس الحرارى إذا أثر ذلك على الاقتصاد البريطانى سلبا، والمؤيد لنكوص بريطانيا عن التزاماتها الدولية بموجب بروتوكول أيرلندا الشمالية.
أما التيار الثانى، هو تيار «يمين الوسط» الذى يعد امتدادا لإرث رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون. هذا التيار يدعم دورا فعالا للدولة فى تحريك الاقتصاد بدون إدارته، والتعامل البراجماتى، وليس الأيديولوجى، مع البريكست وبروتوكول أيرلندا الشمالية، وتحسين العلاقات مع الشركاء الأوروبيين.
فى الأسبوع الأول من سبتمبر المقبل سيعرف البريطانيون، ومعهم الأوروبيون وباقى العالم، أى تيار انتخبه نواب وأعضاء حزب المحافظين.
وهذا الاختيار مصيرى، وسيحدد مستقبل بريطانيا لسنوات، وعلاقاتها مع الكتلة الأوروبية، وصورتها على المسرح الدولى.
رابط دائم: