يبدو أن المخرج سعيد منسى صار مغرما بمسرحة روايات أمريكا اللاتينية، لما تتميز به من ثراء بالغ وأحداث درامية إنسانية متجددة وعابرة للزمن، فبعد عرضه المتميز «العمى» والمأخوذ عن رواية المؤلف البرتغالى جوزيه ساراماجو، يقفز إلى بستان جابرييل جارسيا ماركيز لينهل من رحيق أعماله ويغزل من رواية الحب فى زمن الكوليرا دراما بالغة العذوبة والجاذبية بإعداد درامى واعد لمينا بباوى، وإنتاج موفق لمسرح الطليعة بقيادة المخرج عادل حسان.
التقط مينا بباوى بذكاء تيمة الحب بين فيرمينا وفلورنتينو من كل الخطوط الدرامية للرواية الأصلية، ونسج منها خصوصية رومانسية تناسب اللحظة الراهنة وما نعانيه من فقدان لكل معانى الحب وسيطرة المادة والتقاليد البالية على العلاقات الإنسانية، حتى فقدت الإنسانية أبسط مشاعرها.. ولجأ الدراماتورج والمخرج إلى فكرة تشظى الشخصيات الرئيسية لسرد وتجسيد أحداث تلك العلاقة الرومانسية خلال واحد وخمسين عاما وتسعة أشهر وأربعة أيام، وهى الفترة التى عاشها فلورنتينو منتظرا الفوز بحب فيرمينا وبرحلة ثنائية لهما وحدهما على متن سفينته الخاصة، وهربا من شبح تفشى وباء الكوليرا، والذى صار على هامش الأحداث حتى كدنا ننساه تحت تأثير تفاصيل القصة الرومانسية.
شاهدنا لكل شخصية رئيسية اثنين من الممثلين يجسدان مرحلة عمرية مختلفة لنفس الشخصية، وبميزان حساس تم تكثيف الأحداث بالتنقل بين الماضى والحاضر من خلال ممثلى كل شخصية، فلعب شخصية فلورنتينو الكبير محمد فريد، بينما جسد نفس الشخصية فى صغره عصام الدين أشرف، وجسدت فيرمينا الكبيرة دينا السيد، أما الصغيرة فكانت نسمة عادل، ولعب أبانوب لطفى دور أوربينو الصغير، بينما جسد محمد صلاح الدين نفس الدور فى مرحلة عمرية أكبر، وهكذا، والحقيقة أنه بسبب عذوبة الأحداث ورشاقتها ذاب الخيط الرفيع بين سرد الأحداث فى الماضى وتجسيدها فى الحاضر، ولم نشعر لحظة ببطء الإيقاع أو الملل أمام هذا السرد، لأنه لم يكن سردا بالمعنى التقليدى للحكى.
من جهتهم منح شباب الممثلين العرض حيوية بالغة بأدائهم الواعى بالسمات النفسية والجسمانية لكل شخصية، خاصة محمد فريد الذى لعب دور فلورنتينو فى مرحلتى منتصف العمر والشيخوخة راسما لكل مرحلة هيئتها عبر تشكيل الجسد وتعبيرات وجهه وحتى نبرات صوته واستخدام ضحكة ساخرة تبدو كما لو كانت تسخر من مقدرات الزمن، وإصراره على الفوز بحبه، وبرشاقة وتعبيرات مشرقة ومتفائلة تنقل عصام الدين أشرف ممثلا وراقصا مع محبوبته كما لو كانا فراشتين فى بستان الحرية، وتناغمت معه نسمة عادل بأداء ملؤه البراءة والإشراق رغم مسحة اليأس المسيطرة على تعبيراتها لإجبارها على الزواج من الطبيب أوربينو.
نجح المخرج فى خلق لحظات كوميدية حقيقية من شخصيتى الطبيب أوربينو والأب لورنزو، مستغلا القدرات الأدائية لأبانوب لطفى ومحمود البيطار، فاستغل الأول تكوينه الجسمانى النحيف فى رسم ملامح التعالى المناسبة لطبيب يثق فى قدراته ويقع فى حب مريضته فيرمينا، أمام أب تاجر للبغال يحاول التأكد من قدرات هذا الطبيب على تشخيص مرض ابنته، ومشاهد أخرى متعددة تؤكد أننا أمام ممثلين واعدين سيكون لهما مستقبل كبير فى الأعمال الكوميدية الراقية.. ولعب محمد صلاح الدين دور أوربينو الكبير باتزان يخفى وراءه خبرة واضحة، وكذلك دينا السيد التى جسدت دور فيرمينا الكبيرة بتمكن بالغ خاصة فى مشاهدها الأخيرة مع حبيبها المنتظر فلورنتينو والتى بدت فيها متشبثة بحبها القديم حتى ولو للحظات ما قبل الرحيل.
ونجحت آية خلف فى رسم ملامح كارتونية مضحكة لشخصية الراهبة متحجرة القلب رغم افتقادها للحب.. واجتهد كل من أحمد حسن فى دور القبطان، مى السباعى فى دور الأم، شمس الشرقاوى فى دور العمة، دينا السواح، ووفاء قابيل فى دور هيلدبرندا.. لتقديم نماذج تمثيلية تناسب تلك السينفونية الدرامية المغزولة باحترافية.
التناغم بين عناصر العرض لم يكن ليكتمل سوى بتكامل الحالة الإبداعية الموسيقية، باعتبارها مشاركا فى الأحداث ودافعا لها، وليس مجرد تعليق عليها، فكلمات الأغانى لحامد السحرتى والموسيقى الحيوية الجذابة لوليد الشهاوى والتى استخدم فيها مختلف الإيقاعات اللاتينية المتفجرة بالحياة كانت دافعا لمحمد ميزو ليصمم رقصات تعبيرية رومانسية طوال العمل، خاصة وأن أزياء مها عبد الرحمن قد كست تلك العناصر بلباس المصداقية على أجساد الممثلين والراقصين، ونجح مصمم الديكور محمد رضا فى تحقيق حالة التحرر والتمرد التى أرادها المخرج على زمان وأماكن الرواية التفصيلية، فاستخدم قطعا تصلح لأكثر من مكان وتسمح بحرية تنقل الشخصيات بتلقائية من حدث لآخر دون شعور بنشاز أو انفصال عن الأحداث، وساعده فى ذلك تصميم الإضاءة لعز حلمى والذى استخدم البؤر والإسقاطات اللونية المناسبة ليتأرجح بين الحالات الشعورية للشخصيات باحترافية واضحة، وتحت ضوء القمر المعلق فى عمق المسرح شاهدا على بقاء الحب الطاهر.
رابط دائم: