بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت ألمانيا رسميا اعتزامها إنفاق مائة مليار يورو فى غضون الأعوام القليلة المقبلة بغرض إعادة بناء قواتها المسلحة (بوندزفير) بصورة شاملة. وبرغم ضخامة الرقم، ومآسى أوروبا التاريخية مع العسكرية الألمانية، لم تعبر أى عاصمة عن أدنى تحفظ إزاء إعلان برلين. وعبر محللون عن اعتقادهم بأن العصر قد تغير، ولم يعد هناك ما يقلق إزاء تلك الخطط.
على أى الأحوال، تجاهلت صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية الهاجس الأخير، وتناولت قضية تحديث «البوندزفير» من منظور فنى بحت: الواقع المزرى لأحد أقوى الجيوش الأوروبية (سابقا) فى مقابل المخاطر الآنية القادمة من الشرق. نعم، روسيا.
التسلسل التاريخى للأزمة
شهدت القوات المسلحة الألمانية تغيرات دراماتيكية بحق خلال العقود القليلة الماضية. ففى أوائل التسعينيات من القرن الماضي، انتهت حقبة الحرب الباردة، وكان «البوندزفير» يزهو آنذاك بقوة قوامها نحو نصف مليون فرد تحت السلاح مما جعل منه أحد أقوى الجيوش الأوروبية (حينئذ). ولكن، بعد سقوط حائط برلين السيئ السمعة، إيذانا بإعادة توحيد ألمانيا، تحول هذا الجيش إلى ما يشبه ظلا لما كان عليه ذات يوم.
وفى عام 2011، ألغى العمل نهائيا بنظام التجنيد الإجبارى. ومن الناحية الإحصائية، انحدر قوام الجيش تدريجيا بنسبة تربو على 60% فى الفترة من 1990 إلى 2019. وعلاوة على هذا، يشير تقرير صدر مؤخرا عن مركز أبحاث «آى.إف. أو» ومقره ميونيخ إلى أن الإنفاق الدفاعى الألمانى انخفض عموما بنسبة 34% فى الفترة من 1990 إلى 2014 (بعد حساب معدلات التضخم المعلنة). وانطوى ذلك على تداعيات مؤسفة بالنسبة لأى مؤسسة عسكرية مرموقة. فقد شهدت تلك الفترة إما تخزين، أو بيع، أو تخريد (إعدام)، نسبة لا بأس بها من المعدات العسكرية الموجودة فى الخدمة. وعليه، تقلصت أعداد الدبابات القتالية على سبيل المثال إلى 806 دبابات بدلا من 6779 فى خلال 30 عاما الماضية. وانخفضت أعداد الطائرات المقاتلة إلى 345 فقط، مقابل 1337 فى بداية الفترة محل البحث.
وبالتزامن مع هذه الأوضاع السلبية، اتسع نطاق تعاون العسكريين الألمان فى مهام خارج بلادهم. ورصدت مشاركتهم الملموسة إلى جانب الحلفاء فى عمليات البلقان وأفغانسان عندما تطلب الأمر ذلك. إلا أن ضعف الموارد، وقلة الأفراد، بقيا سمتين ملحوظتين على الوحدات الألمانية، وكأنهما ثمن «عصر السلام» الأوروبى الجديد بعد سقوط الستار الحديدي، وانتهاء الحرب الباردة. ثم اندلعت الحرب الأوكرانية، ليلخص فريدريش ميرز زعيم الحزب المسيحى الديمقراطى الألمانى الصورة بقوله فى مارس الماضي: «دفعنا ثمن ذلك، وهو امتلاك جيش غير صالح للعمل إلى حد بعيد !».
ثم شهدت تلك الأوضاع المزرية تحسنا نسبيا بعد ضم روسيا للقرم فى عام 2014. ففى خلال الأعوام الستة التالية، ارتفع الإنفاق الدفاعى الألمانى تدريجيا إلى نحو 46 مليار يورو، مقابل 32 مليارا فقط قبل ذلك. ويقل هذه الرقم بمقدار عشرة مليارات دولار عن مستويات الإنفاق المناظرة فى نهاية الحرب الباردة. ولم تكن هذا الأوضاع لتغيب عن الحلفاء. ويقول تقرير صادر عن مفوض شئون القوات المسلحة بالبرلمان الألمانى إن الجنود العائدين من مناورات عسكرية أقيمت فى ليتوانيا مؤخرا يشكون من «معايرة» نظرائهم الليتوانيين لهم. ويوضح التقرير أن زملاءهم يسخرون من تخلف أجهزة الاتصال اللاسلكى التى يستخدمونها على سبيل المثال. بل إنهم يتندرون من عجز الجنود الألمان عن التعامل مع المعدات الحديثة لعدم معرفتهم بها، أو لغياب أدنى تدريب مسبق عليها. ويشير التقرير صراحة إلى أن أفراد البوندزفير «بدوا كأنهم أضعف حلقة فيما يتعلق بالتجهيزات الحربية وقت التدريبات الدولية». ويقر التقرير البرلمانى ذاته بأن البيروقراطية الألمانية العتيدة تقف حجر عثرة أمام برامج التحديث، وخططه المنشودة. إذ يتعين أن يمر وقت طويل قبل اعتماد إجراءات إحلال وتطوير المعدات الثقيلة، والسفن، والدبابات، بل وتوفير السترات الواقية من الرصاص اللازمة للجنود. أما الذخائر المطلوبة وقت القتال، فلن تكفى أرصدتها لأكثر من ثمانية أيام إذا اندلعت الحرب الآن، بسبب المعايير البيروقراطية السائدة. كارثة.
قائمة المشتريات المطلوبة
لم تعلن الحكومة الألمانية رسميا قائمة المشتريات العسكرية اللازمة لإقالة البوندزفير من عثرته، وإن كانت قد أكدت أن التمويل المرصود لن يخضع لإملاءات الموازنة السنوية المعهودة، وأنه سوف يبقى بمعزل عنها. وسرعان ما بدأت تكهنات الخبراء بشأن الاحتياجات الفعلية، وأسماء الموردين، وتتصدرهم الولايات المتحدة بطبيعة الحال. ويتصدر القائمة توريد 35 طائرة مقاتلة من طراز إف/35 الأمريكية وتتميز بقدرتها على حمل أسلحة نووية !. وسوف يسمح هذا لألمانيا بالبقاء تحت المظلة النووية لحلف شمال الأطلنطى (ناتو). ومن المتوقع أن تلتهم هذه الصفقة مبلغا معتبرا من المائة مليار يورو المرصودة. وتشتمل المشتريات المنتظرة على عدد غير معروف من طائرات شينوك الهليكوبتر الأمريكية العملاقة الخاصة بنقل المعدات الثقيلة والأفراد وقت المعارك. وتملك ألمانيا جيلا «أثريا» من الطراز ذاته. ويتوقع تخصيص 20 مليار يورو من الاعتمادات لبند الذخائر بمختلف أنواعها نظرا لقلة المتاح فى المستودعات إلى حد الندرة حاليا بسبب نزيف مساعدات الحرب الأوكرانية. ومن المتوقع أيضا تخصيص مبلغ يصل إلى نحو مليارين ونصف المليار يورو لبند سترات الجنود الواقية من الرصاص إلى جانب وسائل الرؤية الليلية، وأجهزة الاتصال اللاسلكى الحديثة. وبرغم هذا، عبرت كلاوديا ميجور وهى محللة فى الشئون الدفاعية عن قلقها إزاء مخاطر عدم إنفاق الاعتمادات المقررة بالحكمة المطلوبة.
الخلافات والهواجس
اندلعت الخلافات السياسية فى ألمانيا بمجرد الإعلان عن برنامج التحديث العسكرى الجديد. وطالب الحزب المسيحى الديمقراطى بوضع خطة بديلة لبرنامج الحكومة بما يكفل زيادة الإنفاق العسكرى المرصود فى الموازنة المعتادة. كما عبر خبراء عسكريون عن تخوفهم من احتمال استغلال هذه الاعتمادات لمجرد رفع قيمة المخصصات الدفاعية السنوية إلى المستوى الذى حدده الناتو وهو 2% من الناتج المحلى الإجمالى السنوى لكل عضو. ويعنى هذا استنزاف المبلغ دون تحقيق الهدف المرجو وهو التحديث العسكرى الشامل.
ومن جهة أخرى، أصدرت مجموعة من المنظمات غير الحكومية الألمانية، ونواب يساريون، وعلماء أكاديميون عريضة عامة يرفضون فيها برنامج التحديث العسكرى جملة وتفصيلا. ووقع على هذه العريضة 50 ألف ألمانى بالفعل. وتحذر العريضة من أن ألمانيا على وشك البدء فى أضخم برنامج للتسليح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهو أمر «لن يساعد شعب أوكرانيا على الإطلاق. ولن يجعل العالم لا أكثر سلاما ولا أمنا».
رابط دائم: