كانت «الدعامة» الثانية لنهضة ثقافية وفنية فريدة، تحديدا فى مجال الفنون التشكيلية، وشهدتها مصر فى بدايات القرن العشرين. هى قيام «جمعية محبى الفنون الجميلة» قبل مائة عام، فى عام 1922. أما أولى الدعامتين، فسبقت «الجمعية» بـ14 عاما، وذلك عندما أنشئت «مدرسة الفنون الجميلة» كأول كيان لتوفير التعليم الأكاديمى المتكامل لتعليم وتدريب الشغوفين بالفنون التشكيلية. وسواء الكلية أو الجمعية، فكلتاهما من بنات أفكار ونتاج شغف «البرنس» يوسف كمال، صاحب الأيادى البيضاء فى مجال رعاية الفنون فى مصر. وكان للجمعية، التى كانت الأولى من نوعها على مستوى منطقة الشرق الأوسط، دور مكمل لمدرسة الفنون الجميلة، وإن جاز القول إنها تجاوزت المدرسة. وذلك من خلال الفعاليات المختلفة والأنشطة التى ربطت العالم بمصر، ومصر بمحيطها الإقليمى، كيف كانت بداية «الجمعية» العريقة، وكيف لعبت دورا فريدا فى تاريخ مصر الثقافى.؟
► البدايات.. فى قلب «معرض الربيع»
هدى شعراوى - البرنس يوسف كمال
قامت دعائم «جمعية محبى الفنون الجميلة» عام 1922، من قلب «معرض الربيع». فقبل قيام الجمعية، كانت المساعى تتواصل من جانب سيدات مصر المهتمات بالفن ودروبه٫ ليكون هناك جهة وآلية لتنظيم المعارض الفنية لفنانى مصر ونظائرهم من زوار مصر الفنانين. وكان على رأس هذا الفريق الشغوف، الأميرة سميحة، نجلة السلطان حسين كامل، وهدى شعراوى.
ثم جرت وقائع «معرض الربيع» عام 1921 تحت رعاية الأمير يوسف كمال، وافتتحه الزعيم سعد زغلول. وشارك فيه عدد من رواد الفن التشكيلى المصرى ومنهم محمود مختار، ومحمود سعيد، ومحمد ناجى، وراغب عياد، ويوسف كامل، ومحمد حسن، ولبيب تادرس، وغيرهم.
ومن معرض الربيع، تبلورت فكرة «الجمعية» وبدأ عملها عام 1922. وبعد عامين، أقامت الجمعية «صالون القاهرة» فى السابع من مارس عام 1924، ليكون فعالية الجمعية الأولى والحدث السنوى الأهم فى تاريخ الثقافة المصرية. ثم قامت «الجمعية» بعد ذلك بإقامة معرض ومسابقة فنية فارقة حملت مسمى «معرض الطلائع» الذى استهدف الفنانين تحت سن الثلاثين.
الملك أحمد فؤاد الأول يتقدم الحضور في افتتاح «جمعية محبى الفنون الجميلة»
وعلى مدى عقود طويلة، ظل «صالون القاهرة» و«معرض الطلائع» بوابة الشهرة ونيل الاعتراف الشعرى بالإبداع والإجادة لمن يشارك فيهما من الفنانين التشكيليين.
ووراء ذلك الدور الفارق، كانت تقف أسماء كبيرة . فقد ترأس أول مجلس إدارة للجمعية عام 1922 الأمير «يوسف كمال». وتولى محمد محمود بك خليل، رئيس مجلس الشيوخ وقتها والذى تولى ضمن مناصبه وزارة الزراعة، وحول منزله إلى المتحف الشهير الحامل لاسمه فى الجيزة، أول أمين لها قبل توليه الجمعية خلفا ليوسف كمال.
كانت «الجمعية» فى الأربعينيات بمنزلة كيان معاون للدولة يساعد فى رسم سياسة الفنون وتنفيذها. فبموجب مرسوم ملكى صدر عام 1949، تم إنشاء اللجنة الاستشارية للفنون ليكون رئيسها محمد محمود خليل، وتتحول الجمعية إلى دور استشارى موجه للمناخ الثقافى والفنى المصرى.
فاضطلعت «الجمعية» ببعض أهم شئون الفنون الجميلة بمصر، مثل إنشاء الجوائز ومنح المكافآت للفنانين وحماية المواقع الأثرية والميادين العامة وما يقام فيها من تماثيل ومنشآت تذكارية. ويضاف إلى ذلك مشاركتها فى صياغة قرارات وخطط إنشاء المتاحف، واقتناء روائع الأعمال الفنية ومتابعة سياسة تعليم الفنون الجميلة. وذلك كله مع وضع خطط إقامة المعارض الفنية فى مصر والخارج.
وتدريجيا، اتسع اختصاص اللجنة، لتشمل كل المسائل المتصلة بالفنون من موسيقى وتمثيل وتصوير ونحت وعمارة وغناء، ثم انتقلت سلطاتها إلى الأجهزة الإدارية الحكومية بعد عام 1952.
وطوال هذه العقود وما بعدها، تتابع على رئاسة الجمعية أسماء شهيرة فى عالمى الفن والثقافة، مثل عطا عفيفى، وأحمد صديق، وعلى لبيب جبر، وجمال عبد الرحمن، وبدر الدين أبو غازى، وزير الثقافة الأسبق، والفنان صلاح طاهر، أشهر فنانى التجريد فى العالم العربى. ويرأسها حاليا الفنان الدكتور أحمد نوار، الرئيس الأسبق لقطاع الفنون التشكيلية والهيئة العامة لقصور الثقافة، ومؤسس كلية الفنون الجميلة بالمنيا، وأول عميد لها.
► من إنجازاتها.. «متحف الفن الحديث»
متحف الفن الحديث بعد تجديده
لعبت «جمعية محبى الفنون الجميلة» دورا بارزا فى إنشاء «متحف الفن المصرى الحديث». فحين أراد الملك أحمد فؤاد الأول إقامة متحف للفن الحديث، عهد بذلك إلى محمد محمود خليل، الذى كان يشغل وقتها منصب رئيس «جمعية محبى الفنون الجميلة» ـ فى شراء بعضِ التحف والأعمال الفنية المميزة، وذلك مما تعرضه الدورات المتتالية لـ «صالون القاهرة» من إنتاج الفنانين المصريين والأجانب، وذلك لحساب وزارة المعارف.
وقتها قام خليل باختيار هذه المقتنيات بمشاركة بعض أعضاء «جمعية محبى الفنون الجميلة» وكبار الفنانين وقتها. وخصصت قاعة بالجمعية لهذا الغرض، فكانت هذه القاعة نواة للمتحف.
ولاحقا نقلت المقتنيات إلى «سراى موصيرى» التى استأجرتها الوزارة بشارع 26 يوليو، فى شهر فبراير عام 1931. وقد بلغ عدد المعروضات وقتها 549 قطعة، وصدر أول دليل للمتحف فى عام 1935، وكان يقع فى حوالى 224 صفحة، علاوة على 82 صفحة لصور بعض المقتنيات. وانتقل المتحف إلى «سراى البستان» فى فبراير من عام 1936، ثم تم إخلاء القصر ليصبح مقرا لجامعة الدول العربية. وانتقل المتحف إلى فيلا «زوغيب» بشارع «قصر النيل» وكان قصراً تطل حديقته الواسعة على «شارع شامبليون» وظلت مقراً للمتحف، إلى أن هدمت فى نهاية عام 1963. وأُعيد تنظيم بعض المقتنيات فى فيلا صغيرة بحى الدقى، إلى أن تم تشييد المقر المخصص لمتحف الفن الحديث بأرض المعارض بالجزيرة.
► ملكية «عرش محمد على»
عرش محمد على
من القصص الأكثر طرافة وتدليلا على عراقة «جمعية محبى الفنون الجميلة» كان ما أورده الناقد الفنى الكبير ياسر منجى حول امتلاك الجمعية لـ«عرش» محمد على باشا. والقصة تبدأ عند فؤاد عبد الملك، والذى كان يشغل منصب سكرتير الجمعية منذ تأسيسها إلى وفاته، ومؤسس متحف الشمع عام ١٩٣٤، والذى استضاف كرسى عرش «محمد على» طوال عشرة أعوام، مع احتفاظ الجمعية بملكيتها له.
ومن ضمن الأدلة التى يسوقها منجى فى هذا الشأن، هو عدد مجلة «المصور» الصادر بتاريخ 4 سبتمبر عام 1936، والذى تضمن تحقيقا حول «متحف الشمع» ومعه صورة للتمثال الشمعى لشخص محمد على جالسا على عرشه المذهب.
والصورة مذيلة بتعليق يؤكد أن العرش الماثل هو بالفعل عرش محمد على وأنه من مقتنيات «جمعية محبى الفنون الجميلة»، بعد أن ابتاعته الأخيرة من مزاد خاص لمقتنيات «سراى شبرا». وبعد حيازة الجمعية للعرش طوال 11 عاما، سعى الملك فاروق لاستعادته، وترميمه ونقله إلى «قصر الطاهرة». وبعد قيام ثورة يوليو، انتقل «العرش» إلى «قصر الجوهرة» لتنتهى رحلته الطويلة.
رابط دائم: