أصوله لبنانية، ولكنه ولد عام 1914 فى مصر، وحققت هذه الخلفية الثقافية والاجتماعية الثرية تفردا مميزا لشخصيته. فالمخرج الفريد هنرى بركات( 1914- 1997) درس الحقوق فى بداية الأمر، ولكن بعد إلمامه بأحكام القانون، مال قلبه ميلا عظيما نحو فنون السينما. شارك مع أخيه فى إنتاج فيلم كان مخرجه الفنان الكبير استيفان روستى، وعنوانه «السيد عنتر» عام 1935.
كانت هذه البداية، أو لعلها تمهيد للبداية الفعلية التى تمثلت فى إخراجه فيلم «الشريد» عام 1942. وبعدها قدم بركات مجموعة من روائع السينما المصرية، التى جسد بعضها عددا من روائع الأدب المصرى مثل «الحرام»، و«الباب المفتوح»، و«دعاء الكروان»، و«فى بيتنا رجل». وشكل مع سيدة الشاشة العربية، فاتن حمامة، ثنائيا ترك علامات فارقة فى تاريخ السينما المصرية. كل هذا الإبداع وهذا الشغف بسينما مصر وثقافتها وأهلها لم يمنع أزمات عنيفة استهدفت المخرج الكبير فى نهاية أيامه، وتضمنت اتهاما قاسيا بأنه «الأجنبي» الدخيل على السينما المصرية.
بركات فى أحد مواقع تصوير أفلامه
بركات، الملقب بشاعر الكاميرا والذى تحل غدا ذكرى ميلاده ( 11 يونيو 1914)، كشف لـ«الأهرام» فى أيامه الأخير فلسفته عن علاقة السينما بالأدب. ووضح فى حوار أجرته معه الصحفية الأهرامية الكبيرة زينب الإمام فى عدد «الأهرام» الصادر بتاريخ 13 أغسطس عام 1996، لماذا لم تضم مجموعته من الأفلام القائمة على أعمال أدبية أيا من أعمال الأديب الكبير نجيب محفوظ.
فيقول بركات: « ربما لأن أدب نجيب محفوظ تعمق فى أحياء المدينة الشعبية .. وكانت بعيدة عني.. بينما ارتبطت أكثر بالريف بحكم نشأتي. وهذا ما جعل على سبيل المثال قصة الحرام ليوسف إدريس تستهوينى بدرجة كبيرة. ولا أخفى سرا إذا قلت إننى دمعت وأنا أقرأ هذه القصة .. فقد أثرت فى تفاصيل حياة عزيزة بطلة الرواية.. فقد رأيت مثلها كثيرات فى ريفنا المصري. رأيت بعينى كم كان يعانى الفلاح من الفقر بل العدم. أشياء ومواقف أثرت فى ولم أنسها أبدا.. وحينما جاءت الفرصة لتجسيدها على الشاشة .. لم أتأخر .. والحمد لله.. نجحت فيها.» ويؤكد بركات فى حواره ذاته أن نجيب محفوظ كان الأديب الذى أبدع فى ترجمة حياة المصريين ترجمة حقيقية. وأضاف أن أدب محفوظ هو المنتج الأدبى المصرى الأمثل للتجسيد من جانب السينما العالمية.
وعن تعامله مع الأديب الكبير يوسف إدريس وقت تحويل روايته إلى شريط سينمائى، قال بركات : « فى البداية رفضها- فى إشارة إلى يوسف إدريس- وقال هذه ليست عزيزة التى أعرفها، وعندما لاقى الفيلم نجاحا كبيرا فى الداخل والخارج، هدأت ثورته.. وكذلك النقاد».
يتسلم جائزة من عبدالقادر حاتم
أما عن تجربته مع عميد الأدب العربى طه حسين، فقال بركات: « قدمت لطه حسين .. دعاء الكروان.. والحب الضائع .. وأقول الحق إن أدب طه حسين من الصعب جدا نقله إلى السينما. لقد استغرق إعداد فيلم دعاء الكروان عاما كاملا .. أدب طه حسين جميل جدا حين يقرأ . لكن كى يتحول هذا الأسلوب إلى مشاهد وحوار.. عملية فى غاية الصعوبة.. ولقد قابلته فى حياتى ثلاث مرات فى أثناء الإعداد للفيلم. آخرها لعرض النص النهائي. وأذكر أنه لم يعترض على أى شيء.. ربما لأنه كان يعرف أننى مخرج يشهد له فى هذا الوقت».
وعن أدب إحسان عبد القدوس وتجربته معه، يقول بركات: « إحسان من أكثر الأدباء غزارة وسهولة عند التعرض لأعماله يكون من السهل جدا نقلها إلى الشاشة والالتزام بالنص الأدبي. أسلوبه سهل وشخصياته كلها يمكن تحويلها إلى عمل سينمائي.. وأذكر أيضا يوسف السباعى كان مثله».
وفى مزيد من الشرح حول مدى صعوبة نقل العمل الأدبى إلى فيلم سينمائى يوازى الرواية فى نجاحها، كشف «شاعر الكاميرا»: « للأديب أسلوبه، وهو حر حين يكتب. يتنقل على الورق كيفا يشاء من المكان إلى الزمان. قد لا يحتاج إلى الحوار. يكتفى بدقة الوصف.. وقد يسهب فى التفاصيل.. أما لغة السينما فهى تختلف.. أساسها مثلا المشهد والحوار، عليه عمل كبير.. إن لم يكن الأساس.. تسلسل الأحداث .. ثم تأتى أهمية الالتزام بنص العمل الأدبى مع الاحتفاظ بعنصر الوقت فى العمل السينمائي.. فلا بد مثلا من التخلى عن بعض هذه التفاصيل التى يرى الأديب لها أهمية بينما هى سينمائيا يمكن الاستغناء عنها، وهكذا.. هى عملية تناول مختلف باختلاف أسلوب الإبداع فى حد ذاته».
ومع فاتن حمامة وفريد شوقى فى أثناء تصوير «أفواه وأرانب»
وعن الفرق بين الأديب وكاتب السيناريو، أفرد بركات رؤيته: «الأديب ،لا شك يكون عمله أكثر ثراء وشخصياته مدروسة أكثر. العمل الأدبى فى حد ذاته مصدر غنى .. فياض.. ويصح أن يكتب الأديب السيناريو. أما أن يحدث العكس لا أعتقد .. لكل منهما عالمه الذى يتنقل فيه.. أما المخرج فهو عين وروح الأديب على الشاشة.. ولابد له أن يتفاهم مع السيناريست خطوة بخطوة».
وعن أقرب التجارب الأدبية العالمية إلى مصر وثقافتها وعوالمها، أوضح بركات: «الأدب الفرنسى، يمكن تمصيره بسهولة.. وكانت بدايتى معه.وكذلك المخرج الراحل حسن الإمام، معظمنا تعامل مع الأدب الفرنسى، يليه بعد ذلك الأدب الروسي. الأدب الإنجليزى يختلف عن طبيعتنا إلى حد ما.. أدب أمريكا اللاتينية لم أتابعه جيدا .. فى النهاية أيا كان نوع الأدب، المهم أن يكون أدبا إنسانيا يعزف على الأوتار الإنسانية عندئذ يمكن تمصيره.»
وعن نقاط التماس بين عالمى الأدب والسينما، قال بركات فى استعراض يعكس اتساع ثقافته وعظيم إدراكه للتفاصيل والتفاعلات داخل العالمين: «الاثنان يتفقان فى الأساس.. الاهتمام بهموم وأحلام وآمال البشر يعكس روح المجتمع.. غير أن الأسلوب والأدوات تختلف .. الأدب فى الكلمة المكتوبة .. ولها تأثيرها وفاعليتها فى حياتنا. والسينما حكاية كبيرة فهى تجمع كل الفنون .. القصة.. الموسيقى التصوير..الحوار.. الديكور.. الإخراج..»
هكذا لخص بركات خبرته مع السينما والأدب والبشر، مؤكدا فى مقارنته لأحوال الماضى والحاضر: « زمان كان له مذاق آخر .. أما الآن كل شيء من حولنا سريع، متداخل، صراعات لا تنتهى، جو عام يسيطر عليه القلق.. الأفضل أن نتأمل ونتابع وننتظر حتى تستقر الأمور.. ولا أعرف كيف تستقر .. الذى يحزننى أننى قد لا ألحق استقرار هذه الأمور ولا أعرف إلى أين وكيف ستستقر».
ولا يدرك شاعر الكاميرا أن من بعده مازال الجميع يسعى وراء الاستقرار، وراء محاربة القلق، وهزيمة الصراعات، ولا يعرفون، مثله، سبيلا لذلك.
«أقام المخرج المعروف بركات حفلة عرض خاصة للفيلم الكبير «دعاء الكروان» دعى إليها لفيف كبير من الآدباء والصحفيين ولم يسبق لفيلم عربى أن ظفر بهذا الإعجاب الكبير من كبار الآدباء والصحفيين، فقد اجتمعت كلمة الذين حضروا العرض الخاص على أن فيلم «دعاء الكروان» عمل فنى ضخم يشرف صناعة السينما العربية واقبلوا على الدكتور طه حسين والسيدة فاتن حمامة والأستاذ أحمد مظهر بطلى الفيلم والمخرج المعروف بركات يهنئونهم على النجاح المرتقب لهذا الفيلم الكبير .. والصورة للدكتور طه حسين والسيدة فاتن حمامة وهما يتبادلان التهانى فى قاعة العرض، وقد جلس حولهما الآدباء والصحفيون، وسيبدأ عرض الفيلم فى جميع أنحاء البلاد العربية فى وقت واحد ابتداء من يوم الاثنين القادم وفى القاهرة بسينما ميامى وفيمينار وفى الاسكندرية بسينما راديو بالإسكندرية».
رابط دائم: