«كلنا لها».. عبارة ثقيلة رغم خفة حروفها وقصر حجمها، لكن يبقى معناها وتوقيت قولها الأصعب على الإطلاق . حقيقة النهاية التى تنتظر الجميع، ورغم أنها مؤكدة، إلا أنها كثيرا ما تربك أصحاب المصاب وتمنعهم أحيانا من إجادة إتمام الإجراءات الواجبة لحسن تحقيق الوداع الأخير. ولذلك بدأ مؤخرا تزايد ظهور شركات «الوداع الأخير»، لتكون الوسيط المعنى بكافة الأدوار وإتمام جميع الإجراءات اللازمة للانتهاء من تكريم الميت ودفنه.
محمود الخولى - أحمد جاب الله - د. سامية خضر
حلت هذه الشركات محل «الحانوتى»، الذى مازال مرتبطا بالصورة الذهنية السلبية المرتبطة بالنحس والتشاؤم، وربما كان لإسماعيل ياسين وتأديته دور «خميس» الحانوتى الأشهر فى فيلم «حماتى ملاك»، دور كبير فى ترسيخ الصورة وتأكيدها.
يقول محمود الخولى، وهو صاحب واحدة من الشركات الرائدة فى مجال «الوداع الأخير»، التى يمتد نشاطها داخل مصر وخارجها، إن عمل شركته بدأ عام ٢٠١٥، مشيراً إلى عدد من الإجراءات التى تساعد الشركة فى الانتهاء منها كتصريح الدفن وتجهيز المتوفى، وأى أوراق تخص الحالة. وكذلك إتاحة مقابر لمن ليس لديهم وحجز قاعات العزاء.
ويوضح أن هناك اختيارات إضافية ينتقى منها أهل المتوفى ما يرغبون فيه، كما يختلف الأمر من كل ديانة لأخرى. ولأن مجال وخدمات الشركة لا تقتصر على داخل مصر بل تساعد فى نقل جثامين لأجانب إلى بلادهم، مع مراعاة الخلفية الدينية للمتوفى من أجل تحديد المراسم والخدمات الجنائزية اللازمة.
ويرى الخولى أن البعض بات يجد فى تلك الخدمات وسيلة لتوفير المساحة التى تلزمه من أجل الحزن على فراق الفقيد، خاصة أن مُقدِم الخدمة محترف وينتهى منها على أكمل وجه.
ويكشف الخولى أنه استفاد من عمله السابق فى مجال الـ «برمجة» لخدمة مجاله الجديد، موضحا آنه تحول مهنيا بسبب إدراكه الحاجة الماسة للاهتمام بطقوس الوداع.
ويكشف الخولى عن بعض الحالات التى تطلب جهدا مضاعفا، كما فى الحالات، التى تقع خارج مصر، ويحتاج فيها أهل المتوفى مزيداً من الوقت حتى يقيمون حفلا للتأبين، مثلا. وهو الأمر الذى يفسره بآلية التعامل مع كل الشرائح والفئات التى يتواصل معهم، مؤكداً أن شركات الخدمات الجنائزية ليست لفئة معينة كما يزعم أو يعتقد البعض. ويشير الخولى إلى أن الشركة تتعاون مع عدد من السفارات الأجنبية فى مصر، مما يسهل إجراءات نقل بعض الجثامين إلى الخارج. وذلك إلى جانب تعزيز التعاون مع القائمين على نفس الأمر فى دول أخرى ، ضارباً المثل بالتعاون فى واقعة وفاة شاب جزائرى فى أوكرانيا مؤخرا، وتمكن شركته من إعادة الجثمان لموطنه، وذلك كله بجهود تمت إدارتها من قلب القاهرة.
أما أحمد جاب الله، مؤسس شركة أخرى تعمل فى المجال نفسه، فأوضح أن سبب سعيه لإنشاء تلك الشركة، هو واقعة شخصية إثر وفاة والد صديقه، الذى طلب منه المساعدة فى إنهاء الإجراءات اللازمة وقتها. وقد واجه جاب الله يومها الكثير من الصعاب، وانتهت بجنازة فوضوية غير مرتبة زادت من ثقل اليوم.
وقد كان ذلك فى عام ٢٠٠٥، وكان الدافع لقراره بعدم حضور أى جنازات لقرابة عشر سنوات، حتى توفى صديق له فى الولايات المتحدة الأمريكية وحضر جنازته، وبدت له المراسم على النقيض تمام من حيث حسن وسلاسة الترتيب وتكريم للفقيد والأسرة والحدث الجلل. وهو ما دفعه للتفكير فى ضرورة تطبيق هذا النموذج فى مصر.
ويشير إلى أن الفريق المشارك معه، ينتمى إلى مختلف المجالات والمرجعيات، فمن بينهم عدد من خريجى الجامعة الأمريكية ومضيفات طيران، وعاملين فى مجال المحاسبة والبنوك والاقتصاد والعلوم السياسية، بالإضافة إلى مجموعة من العاملين فى مجال « الوداع الأخير» نفسه منذ أعوام طويلة، وهم عبارة عن «حانوتية» لديهم من الخبرة ما يضيف إلى الاحترافية، لتنسيق المسألة وخروجها فى أفضل صورة.
ويوضح جاب الله أن كل جنازة يكون فيها شخص واحد مسئول عن كل التفاصيل المتعلقة بها وهو الوحيد الذى يتولى التواصل مع أسرة المتوفى، ويساعده فريق مكون من أربعة أو خمسة أفراد يقومون بتنفيذ وتسهيل الإجراءات اللازمة بطريقة متوازية من تجهيز الجثمان والمقبرة وقاعة العزاء واستخراج تصريح الدفن. وتشتمل تلك الخدمات الأخرى الترتيب للصدقات الجارية، ونشر نعى فى الصحف لمن يرغب، وغيرها من الاختيارات التى تحددها كل أسرة.
أكثر من ثلاثة آلاف جنازة قامت الشركة بإنهاء إجراءاتها بمساعدة نحو ٨٧ فرداً فى فريق كبير من أعمار ومجالات مختلفة قرروا تغيير فكرة سائدة عن تجربة حزينة لا محالة.
من جانبها ترى الدكتورة سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية بجامعة عين شمس، أن تنامى وانتشار شركات « الوداع الأخير» تعد ظاهرة جديدة قد يكون لها مكانة على المدى البعيد، ولكن لن تجد قبولاً بصورة سريعة.
وتوضح للأهرام : « وجود حالة وفاة أمر يحظى بخصوصية كبيرة عند المصريين، فترتبط المسألة لديهم بعادات تراثية يفخرون بالقيام بها فى ذلك اليوم، كأن يقول أحدهم إنه حمل نعش صديق أو قريب حتى أوصله إلى القبر تقديراً منهم لهيبة الموت وتكريماً للفقيد إلى جانب اعتقاد أن فى مثل هذا الفعل ما يقربه من الله عز وجل».
وتؤكد ضرورة ترك تلك الشركات للزمن الذى يحكم على مصيرها ومدى الإقبال عليها.
التفرغ لاتمام الوداع الأخير.. هدف تحققه الشركات الجديدة
فى أمريكا .. تاريخ طويل ومكاسب بالمليارات
وفقا لأغلب الكتابات الموثقة لبداية صناعة «الوداع الأخير» فى الولايات المتحدة، والتى تعد من أكثر القطاعات إدرارا للمكاسب التى تقدر بمليارات الدولارات، فإن تلك الصناعة تعد حديثة نسبيا.
فحسب موقع « فيونرال وايز» الأمريكى، فإنه حتى بدايات القرن العشرين، كان ترتيب وإدارة «الجنازة» مهمة فى أيدى الأصدقاء المقربين وأقارب المتوفى، فيما تنطلق مراسم الجنازة ويتم التأبين كاملا داخل منزل أهل الفقيد. أما عملية الدفن، فكانت تتم غالبا فى نطاق الأرض التابعة لمنزل أصحاب المصاب.
مع نمو المجتمعات وزيادة أعداد البشر، بدأت تشيد «المقابر العامة»، وظهرت وظيفة جديدة يطلق عليها «أندرتايكر» أو متعهد جنائز. وازدهرت هذه الوظيفة تحديدا فى أوساط النجارين وصناع الأثاث، وذلك لبراعتهم فى إعداد توابيت الدفن الخشبية وتقديمها بأشكال ومستويات مختلفة من الطلاء والإعداد.
ولكن التطور الثانى والأهم كان من قبل بدايات القرن العشرين وتحديدا فى أعوام الحرب الأهلية الأمريكية ( 1861- 1865). وقتها زاد الاهتمام بمهارة تحنيط الجثامين لنقلها من مواقع القتال إلى موطن أصحابها بغرض الدفن وسط الأصدقاء والعائلة. ومع زيادة تعقيدات الحياة، بات من الضرورة على متعهد الجنائز إما الإلمام بمهارة «التحنيط» أو ضم أحد أصحاب هذه المهارة إلى فريقه.
وهنا تبلورت متطلبات هذه الصناعة أكثر فأكثر وانفصلت عن قطاع النجارين الذى بات قطاعا مساعدا. فبحلول عام 1950، كان هناك نحو 700 شركة فى أمريكا متخصصة فى بيع التوابيت الخشبية بغرض الدفن.
حتى نهاية الستينيات، كانت « بيوت الجنائز» عبارة عن عمل عائلى تتوارث أسراره وأعماله الأجيال المتوالية داخل العائلة الواحدة . ولكن مع بداية السبعينيات، بدأ ظهور الشركات الأكبر فى هذا المجال، وإن ظلت الغلبة لنمط الإدارة العائلية. فالإحصائيات تؤكد أن أكبر أربع شركات فى هذا المجال أمريكيا، تتحكم فى ما بين 15 إلى 20 % من إجمالى « بيوت الجنائز» بالبلاد.
وحسب تقديرات عام 2020، فإن صناعة «الوداع الأخير» باتت بقيمة 21 مليار دولار، ويبلغ متوسط تكلفة الجنازة الواحدة 9 آلاف دولار، وفقا للرابطة الوطنية لمديرى الجنائز فى أمريكا. ذلك كله قبل وقوع ضربات « كورونا» التى دفعت صناعة «الجنائز» دفعات كبيرة وجعلت من «الوداع الأخير» خطوة بالغة التكلفة.
رابط دائم: