رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الحصان العجوز

محمد الحديدى

أشرقت الأرض بنور ربها وبدأت خيوط الشمس تتسلل من خلال الأفق لتنشر الضوء على عباد الله الذين ينقسمون فى صحوهم إلى طوائف ثلاث:

طائفة تصحو مع شروق الشمس، وطائفة تصحو بعد انتصاف النهار، وثالثة تصحو عند حلول المساء، ومن ضمن الذين يصحون مبكراً «الديدامونى العربجى» وكان جلفاً بحق، سليط اللسان، قاسى القلب، تتبدى قسوته مع أهل بيته – زوجته وأولاده – يزأر بصوته الأجش زاعقاً فيزلزل أركان بيته الآيل للسقوط فيصيب الفزع قلوب الجميع، ويكون أكثر قسوة مع حصانه العجوز الذى يجر عربته الكارو ذات العجلات الأربع.

فيلهب ظهره بالسياط، ويحرمه من تناول الماء والعليق فى معظم الأحيان، حتى أصاب الهزال جسد الحصان العجوز المسكين الذى لا حول له ولا قوة فيتحمل فوق عبء القسوة عبئاً آخر من الجوع والعطش. إلا أنه دائماً ما يبعث برسائل الضيق والضجر من هذا الجلف ويعلن عن رغبته فى الخلاص من هذا القيد اللعين، فيدق الأرض بحوافره مبعثراً كل ما حوله.

الزحام شديد بشارع المركز، عربات كارو، سيارات، أجساد رائحة وغادية، ومحلات متراصة بمحاذاة مبنى المركز وفى الجهة المقابلة ملأى بالزائرين من الموظفين والطلبة..

كان مبنى المركز يقع على رأس الشارع، مبنى عتيق من طابقين، بالطابق الأول مكتب نائب المأمور، النوبتجية، غرفة الحجز. وفى الطابق الثانى مكتب المأمور، مكتب رئيس المباحث، غرفة السلاحليك، بعض المكاتب الإدارية وعلى الجانب الآخر فضاء واسع ملحق بمبنى المركز، حيث يقع اسطبل الخيل وبعض دورات المياه، تحيط بهذا الفضاء أسيجة حديدية تعلوها رؤوس من الصلب على هيئة أسهم ترتفع عن الأرض حوالى مترين ونصف المتر وحولها لفائف من السلك الشائك، حاول الديدامونى جاهداً أن يمر مسرعاً من شارع المركز خشية أن يوقفه أحد المخبرين بالمركز بسبب كثرة اعتدائه على عباد الله بالضرب والسب فينتهى الأمر بمزيد من المحاضر والشكاوى ضده. ولما توقف الحصان أمام الأسيجة الحديدية المحيطة بفضاء المركز ارتفعت يده فى الهواء لتهوى بالأذى على ظهر الحصان وقد مط عنقه إلى أعلى واجتر العربة بما تحمله من أقفاص، وصهل صهيلاً قوياً لفت له الأنظار، تقدم «الصول سرور» عدة خطوات نحو مصدر الصهيل ليفاجأ بما أدهشه وقفز فرحاً كأنه طفل قد لقى أمه بعد طول غياب وهتف:

«محبوب»

راح الحصان يضرب الأرض بقائمتيه الأماميتين، ويهز رأسه يمنة ويسرة فانحرف الصول سرور خارج حدود الفضاء المحاط بالأسيجة الحديدية ووضع أمام الحصان دلواً مليئاً بالماء ومقطفاً مليئاً بالعليق، وكان الحصان من شدة جوعه وعطشه قد أتى على ما يحويه الدلو والمقطف، وراح يربت على ظهره بحنان زائد وألقمه بعض قوالب السكر، التف بعض المارة حول الحصان والصول سرور أما الديدامونى فكان خارج دائرة التجمهر يضرب أخماساً فى أسداس متأففاً مما يحدث أمامه، وراح يشد وثاق الحصان الذى تشبث بالأرض ولم يحرك ساكناً رغم محاولات الديدامونى المستمرة فى إثنائه عن موقفه الرافض للحركة، فحانت منه نظرة مستغيثة إلى الصول سرور الذى ألقم الحصان مزيداً من قوالب السكر وأمره بالتحرك فتحرك.. شرد الصول سرور بذهنه بعيداً وقد آلمه أن يرى الحصان على هذا النحو المؤلم يخالطه إحساس بالذنب وسأل نفسه:-

هل أنا المذنب الحقيقى فى حق هذا الحصان؟

واستعاد بذاكرته أياماً طوالاً انقضت فى صحبة «محبوب» حيث أسماه، كان حصاناً فتياً، قوياً، يأتى صهيله زئيراً إذا صهل، تلهث الريح خلفه إذا جرى، كم من ليالى الدوريات التى قضاها ممتطياً صهوته مبتهجاً، فاعتنى به كل العناية، واهتم به كل الاهتمام، لم يكن يتخيل أن يراه هكذا متسخ الجسد، ضعيف البنية، تملأ الجروح ظهره وجانبيه.

وسرعان ما جاءته الإجابة على سؤاله من داخله:

أنت لم تفعل غير الصواب يا سرور.

فحين صدرت الأوامر بقتل محبوب رمياً بالرصاص، قام الصول سرور بتسريبه وأثبت مقتله بالدفاتر فقط، أما فى الحقيقة فقد باعه وأودع ثمن بيعه بخزينة الأمانات بعد أن حرر محضراً بعثوره على هذا المبلغ فى الفضاء الواسع المفضى إلى اسطبل الخيل.

لما وصل الديدامونى إلى بيته، فك قيد الحصان الذى لم يعد راسياً على حال بعد لقائه بالصول سرور فتارة يلطم الباب بجسده، وتارة أخرى يدق الأرض بحوافره وقد لازمه صهيل حاد متواصل، وفى الصباح يجر العربة الكارو بما عليها من أقفصة الخضر والفاكهة، وكان الديدامونى قد تجنب المرور من شارع المركز خشية أن يحدث مثل ما حدث بالأمس، وعلى الرغم من زحام شارع المركز إذ تصادف أن هذا اليوم هو يوم سوق المدينة حيث يضج بالباعة والمارة وغيرهم من الطلبة والموظفين والسيارات، إلا أن الحصان العجوز قد انحرف من أحد الشوارع الفرعية رغماً عن أنف الديدامونى الذى ألهب ظهره، لكنه لا يعبأ بشىء سوى الوقوف أمام الأسيجة الحديدية المحيطة بفناء المركز، ولما استقر فى يقين الديدامونى أن الحصان لابد أن يفعل ما أراد، وضع عصابة سوداء حول عينيه فجن جنونه وتحول صهيله إلى ما يشبه الاستغاثة مما يفعله الديدامونى وقد واتته قوة لم يشهد لها مثيلاً حتى أيام كان حصاناً فتياً وجرى رافعاً قائمتيه الأماميتين تجاه الأسيجة الحديدية مزيحاً لفائف السلك الشائك بعيداً وسط ذهول الجميع، وطار بجسده محاولاً تجاوز الأسيجة الحديدية الصلبة والعبور إلى الفضاء الملحق بمبنى المركز، إلا أن قوته لم تسعفه، فهوى بكامل جسده على رؤوس الأسهم الحديدية التى اخترقت صدره وقلبه وانسابت باقات الدماء المدرارة لتغرق الأرض مخلفة وراءها بقعة حمراء كبيرة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق