تتميز الكاتبة والأكاديمية ميرال الطحاوى بكتابة لها خصوصيتها تفتح أبوابا مجهولة على عالم الصحراء والثقافة البدوية وموقع النساء فيها. ترجمت رواياتها إلى أكثر من عشرين لغة، ومن أشهر رواياتها «الباذنجانة الزرقاء» التى حازت على جائزة الدولة التشجيعية عام 2002، و«نقرات الظباء»، و«بروكلين هايتس» التى حققت نجاحا كبيرا وترشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر عام2011، وكتابها «بنت شيخ العربان» الذى ترشح للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد 2020. كما قدمت «امرأة الأرق: دراسة فى كتابة المرأة»2011، و«الأنثى المقدسة.. أساطير المرأة فى الصحراء» عام 2019.
فى حوارها معنا تقول الطحاوى إنها تنظر إلى مسيرتها بكثير من الشفقة على الذات، وأن كل عمل أدبى كتبته كان منبعه ذاتى وشخصى، مشيرة إلى أن المرأة فى الثقافة البدوية الصحراوية مهمشة، رغم كونها حاملة هذا التاريخ وصانعته. تحكى لنا عن شعر الغناوة، وتكشف المزيد عن روايتها الجديدة «أيام الشمس المشرقة». كما نقدم قراءة فى كتابيها «بنت شيخ العربان» و»بعيدة برقة على المرسال».
فى أكثر من عمل بدأت بسرد أشبه بسيرتك الذاتية، فإلى أى مدى تعتبرين الكتابة وسيلة للتحرر من أعباء التجارب الشخصية؟
كل عمل أدبى كان منبعه ذاتى وشخصى بالنسبة لى، ففى كتابى «بنت شيخ العربان»، و«بعيدة برقة على المرسال» كان سؤال الهوية هو محور بحثى، من هؤلاء العربان؟، وكيف تشكلوا فى تاريخ مصر وكيف كانت علاقتهم بالمصريين؟، وكيف عاشوا منعزلين وكيف عبروا التاريخ كعابرين وأصحاب أرض؟، وهو سؤال شخصى أيضا فقد تربيت كابنة عرب، كانت تلك الصفة توجه لى كتهمة يجب الدفاع عنها، وكنت أستقبلها باعتبارها مدحا أيضا، فابنة العرب هى الشريفة بنت الأكابر وفقا للسير الشعبية.بدو مصر ليسوا هامشا غير حضرى، والعربان فى تاريخ مصر علامة استفهام كبيرة، والكتابة محاولة للفهم وإعادة النظر بشكل ذاتى وموضوعى بالوقت نفسه.
كابنة عرب ما هو أكثر ما اصطدمت به فى الثقافة القبلية؟
اصطدمت بالكثير، وأنظر لمسيرتى بكثير من الشفقة على الذات، وكيف عبرت كل ذلك وحدى، الحياة القبلية المحافظة، العيش فى الهامش ومحاولات التعلم المضنية، محاولات النشر الصعبة. كتبت عن مشاعرى كابنة عرب يجب أن تكون كالناقة الطوع، وحاولت الاخلاص لتلك الصورة التى رسمتها لى أمى، مهذبة وخاضعة وكنت أريد التمرد على كل ذلك، ولا أنكر أن تلك الثقافة جزء منى، فقد وهبتنى تلك البيئة عوالمى بالكتابة، والشخصية المحاربة التى لا تنهزم بسهولة، وعشت كل تجارب الغربة مثل ناقة صابرة وطامحة.
تعتبرين أن العرب كانوا متمسكين بنقائهم العرقى وهويتهم مما خلق حاجزا بينهم وبين الآخرين، ألم تتغير الأوضاع الآن وأصبح بإمكانهم الاندماج بسهولة ؟
كل قبيلة لا تعيش إلا على أسطورة النقاء العرقى والحفاظ على الهوية والموروث الصحراوى، وشجرة العائلة. الحفاظ على التاريخ القبلى مهمة مازال الكثيرون من العربان يقاتلون للحفاظ عليها بالعزلة ورفض الاندماج، ولقد ظل العربان يرون أنفسهم بشكل ما عابرين، ليسوا مصريين بالحقيقة، لكنهم مصريون أيضا حتى النخاع. فى روايتى « نقرات الظباء « تحدثت عن تلك الإشكالية بفكرة المهرة التى تحاول القبيلة المحافظة على نسلها نقيا عربيا بالحرص على الزواج الداخلى، تغيرت هذه العادات قليلا مع الأجيال الجديدة، لكن قبل ذلك كان عدم زواج ابنة القبيلة بالمصريين قانونا صارما، وكان المثل الشائع يقول « يأخدها التمساح ولا يأخدها الفلاح « وتعود القصة إلى أن أحد مشايخ الأعراب ألقى بابنته فى النيل لتأكلها التماسيح بدلا من أن يزوجها لفلاح.
كتبك الأخيرة تدور فى نفس الموضوع فهل حياة القبائل والشعر النسائى البدوى مشروعك الأدبى الحالي؟
جمعت طوال مسيرتى أجمل أبيات الغزل الشفاهى، يطلق عليها غناوة العلم.قدمت ذلك فى « بعيدة برقة على المرسال»، وبرقة هى أحد مواطن شعر الغناوة فى ليبيا، والعلاقة بين إقليم الغرب المصرى وشرق ليبيا علاقة قديمة وتراثها الأدبى يكاد يكون واحدا. مشروعى القادم هو ترجمة بعض هذه الغناوة لأقوم بنشرها مترجمة للإنجليزية. أعتقد أن هذا النوع من الشعر بقيمته الأدبية يعكس مشاعر أنثوية ويعبر عن التراسل العاطفى بين الرجال والنساء بالمجتمع القبلى المغلق.
ماذا تمثل غناوة العلم وارتباطها بمكنون المرأة فى تكوين ميرال الطحاوي؟
هى الأهازيج التى تربيت عليها، الغناوة غير الأشعار البدوية الأخرى، إنها أشعار عاطفية لا تلقى بالا لأمجاد القبيلة وتدور حول الفقد والفراق والمحبة، أشعار فيها التحنن ومراضاة المحبوب وشكوى القدر، وتحتاج لفك شفرتها حتى تصل لمدلولها،و بذلت جهدا كبيرا للحفاظ على شعريتها حتى فى تفسيرها، ففى كتابى « بعيدة برقة على المرسال» محاولة لانتقاء الأجود وتفسير الغامض وتقريبها للقارئ، وهى أشعار لا تقل فى جمالها عن شعر قبائل الباشتون أو اللاندى، ولا تقل جمالا عن الشعر العذرى العربى، وأعتقد أن تقديمها للقارئ العربى كان جزءا مهما من مشروعى الأدبى والأكاديمى.
خصصت فصلا كاملا بكتابك «بنت شيخ العربان» للشعر النسائى الشفاهى البدوى، ثم أفردت له كتابا كاملا «بعيدة برقة عن المرسال»، فعل تعتبرين نفسك هنا كاتبة نسوية؟
للأمانة فقد كان « بنت شيخ العربان» منذ البداية متحيزا للأنوثة من عنوانه، فالمرأة فى الثقافة البدوية الصحراوية مهمشة، ولكنها حاملة هذا التاريخ وصانعته، ووجودها يشبه تماما وجودها فى الغناوة، حاضرة كمحبوب مجهول الهوية، صانعا لتلك الثقافة وضحية لها بنفس الوقت، وأنا مجرد باحثة، ودراسة التهميش الثقافى للمرأة خاصة بالثقافة البدوية؛ كان جزءا أساسيا فى مشروعى ومادة أدرسها بالجامعة.
هل يمكن اعتبار تفسيرك للمعانى المقصودة فى أشعار النساء بهذين الكتابين وسيلة مقصودة للانتصار للنساء المهمشات؟
الانتصار للصوت، نحن لدينا مادة شعرية تراثية كبيرة ومجمعة لكن لم يفكر أحد بتحليلها للوقوف على هذا الصوت الأنثوى الذى يجاهر بالمحبة متشحا بإنكار الذات، شعر الغناوة كاشف للصدى الأنثوى من حيث الموضوعات وطرائق التعبير، هو شعر تتحدى المرأة به رجالا يفوزون فى مباريات شعرية للوصول لقلب المحبوبة، كانت المرأة شريكة به، أو هذا على الأقل ما حاولت إثباته فى دراستى.
فى كتاب بنت شيخ العربان، ألم تخشى الهجوم حين تطرقت للحديث عن بداية دخول العرب إلى مصر ووصفك لهم بأنهم فى بعض الأحيان كانوا غزاة نهابين؟
لم أصف عربان مصر بأى صفة سلبية بشكل شخصى تماما، لكننى تتبعت صورتهم فى مرآة الرحالة والدارسين، والاستشراق والمؤرخين المصريين الأقدمين والمحدثين، وهى صور متناقضة، فالبدو أو مشايخ العرب حظوا بقدر كبير من التقدير والاحترام وكانت لهم سلطة كبيرة، ولهم أيضا تاريخ من النزاع والبطش، فالبدوى لا يعتبر السلب والنهب جريمة تهدد استقرار البلاد كما وصفها ابن خلدون، بل كان يراها إعلانا للسلطة وفرض السيطرة. حاولت الانحياز للحقيقة فى كل الأحوال، سواء أكانت ضد أو مع العربان، فكل خلاف ثقافى بين عالمين أو اتجاهين يحتمل التأويل، وكل جماعة بشرية لها مواطن ضعفها وصفاتها النبيلة.
ربما يرى البعض أنك تبنيت نظرة استشراقية غربية حين اخترت أن تكونى فى موقف مغاير للمؤرخين الذين تناولوا الفتح الإسلامى لمصر، فما تعليقك؟
الفتح الإسلامى لمصر من الموضوعات البحثية الشائكة التى نظر إليها المؤرخون من زوايا مختلفة، ولم يكن الفتح العربى محورا أساسيا فى كتابى، واهتممت بتحول العربان من فاتحين إلى أصحاب أرض، كنت أرصد تطور علاقة العربان بالحاضنة الثقافية الجديدة، مصر، وعلاقتهم بالمصريين. لا شك أن الفتح العربى لمصر غير خريطة البلاد الثقافية، فقد فرض عليّ البحث عن تاريخ العربان بمصر إعادة النظر فى الكثير من المسلمات وليس فى ذلك أى تبن للنظرة الاستشراقية، بل هى محاولة قراءة التاريخ بحياد وبموضوعية بعيدا عن الحماس الدينى أو النوازع القومية، لأنه فى النهاية تاريخ.
هل هناك تماس بين موضوعات كتبك الأدبية الأخيرة وروايتك الجديدة «أيام الشمس المشرقة»؟
هى رواية عن الشتات، وعالم المهمشين بالمنفى، المهاجرين الفقراء والذين يخوضون الكثير من المغامرات فى محاولة للنجاة، ثم يتسللون لتلك البلاد المشتهاة عادة بطرق غير شرعية ويعيشون فى جيتوهات أو بلدات حدودية، مثل تلك البلدة التى اكتب عنها أو ما أطلقت عليه مجازا بلاد « الشمس المشرقة « أو غيرها من مدن النزوح، حيث تتحول الحياة اليومية بالمنفى الاختيارى لمحاولة متعسرة للنجاة من اشباح الماضى ثم الهرب من الواقع القاسى. البطولة فى النص ليست للشخصيات التى أقدمها، فالسرد يتمحور حول هذا العالم وكيف يخلق عزلته ويعيش كهامش على أطراف المنتجعات الباذخة.
وكيف استلهمت عالمها ومن أين جاءتك فكرة موضوعها؟
استلهمت عالمها من رحلتى الطويلة بالتنقل بين الولايات الأمريكية كأستاذة جامعية ومهاجرة منذ مدة طويلة، أعرف بطبيعة الحال كيف تكون مناطق المهاجرين، وكنت أبحث عن هذا العالم فى تلك الرحلة، وتعرفت فيه على الكثير من النماذج البشرية التى لا أستطيع نسيانها، فالمنفى المجازى أو الاختيارى تجربة تتسع وتؤسس لعدد كبير من التجارب الأدبية وذلك لأن السنوات الأخيرة شهدت الكثير من الحروب التى أدت لتغير ديموغرافية البلدان الأوربية وتناثرت مدن للجوء الإنسانى ولا يمكن تجاهل قسوة هذا الواقع الذى مررنا به جميعا، لقد كان السؤال الذى يرافق كل مراحل كتابة هذه الرواية هو سؤال النجاة، هل حقق هؤلاء البشر المنفيون آمالهم فى النجاة ؟ هل يعيشون حقا آمنين أم يعيشون، بشكل ما، خيبة أعمق مما تركوها خلفهم؟.
رابط دائم: