-
من عصور الفراعنة حتى العصر الحديث.. الكعك تقليد أساسى للعيد
عرف المصريون الاحتفال بالأعياد منذ العصور القديمة، وكانت البهجة والمبالغة فى الاحتفال وتقاليده سمة رئيسية توارثتها الأجيال فى أحيان كثيرة، بالإضافة إلى تقاليد الاحتفال المعتادة الأخرى مثل الاستيقاظ مبكرا ، وارتداء الملابس الجديدة وتبادل التهانى بالعيد. وبطبيعة الحال؛ دائما ما ارتبطت الأعياد ببهجة مشاركة الطعام وتنظيم الولائم. ففى شم النسيم ينطلق المصريون إلى الحدائق والمتنزهات على خطى أجدادهم الفراعنة للاحتفال بعيد الربيع، بتناول الأسماك المملحة، والبصل، وغيرهما من الأطعمة المخصصة لهذا الاحتفال. وفى الأعياد والمناسبات الدينية أيضا تحضر الولائم ومشاركة الطعام، سواء فى عيد الأضحى عبر مشاركة لحوم الأضحية، أو فى عيد الفطر بتوزيع ومشاركة الحلوى كالكعك والبسكويت، وغيرهما التى تعد أحد مظاهر البهجة الخاصة خلال الاحتفال بالعيد.
عبر التاريخ كان الكثير من الحكام ورجال السلطة يحرصون على مظاهرالبذخ والاحتفالات بالعيد بما تتضمنه من توزيع الملابس والأموال والحلوى وتنظيم الولائم والمآدب الضخمة للعامة والخاصة لتعزيز سلطتهم ونفوذهم واكتساب محبة الشعب، وهى ظاهرة برزت بشدة خلال عهد الدولة الفاطمية التى اتسمت بالمبالغة فى مظاهر الاحتفال، وكذلك خلال الحكم العثمانى، الأمر الذى يجلب معه تساؤلات حول كيفية تشكل نفوذ وتأثير تلك الولائم وأبعادها الاجتماعية عبر التاريخ ، وكيف تم استخدامها وتوظيفها لتحقيق المكاسب، وكيف أسهمت فى التعقيد الاجتماعى والثقافى بمرور الوقت، مما يفتح الباب لاستكشاف الولائم كوسيلة لفهم الهياكل الاجتماعية والسياسية للمجتمعات كمقياس مهم للتغيير الثقافي، وروابطها مع جوانب أخرى من الثقافة مثل الطعام والسلطة والسياسة والاقتصاد.
عيد الفطر والحلوى ..تاريخ طويل
ارتبط عيد الفطر دائما بالكعك والحلوى، حيث أنشأ الفاطميون «دار الفطرة» ، وهى ديوان حكومى خاص تعنى بإنتاج كميات ضخمة من الكعك والحلوى و كعب الغزال التى يبدأ الاعداد لها من شهر رجب حتى نصف رمضان. وكان يخصص لها ميزانية مستقلة كبيرة تصل إلى 16 ألف دينار ذهبى لشراء الدقيق وقناطير السكر واللوز والجوز والفستق والسمسم والعسل وماء الورد والمسك ، بالإضافة إلى المناديل والمفارش الحريرية لاعداد السماط والفوط التى يغطى بها الكعك عند توزيعه على الخاصة والعامة.
توزيع الكعك والحلوى على العامة والخاصة كان تقليدا حرص عليه الحكام الفاطميون وربما سبقهم إلى ذلك الإخشيديون، حيث تشير المصادر التاريخية إلى أن أبو بكر محمد بن على المادرائى، وزير الدولة الإخشيدية عمل كعكا وحشاه بالدنانير الذهبية . وأشهر كحكة ظهرت فى عهد الدولة الإخشيدية وكانت فى دار الفقراء على مائدة طولها 200 متر وعرضها 7 أمتار. مع عصر الدولة الطولونية، بدأت صناعة كعك العيد فى صورة قوالب مشكلة منقوش عليها «كل واشكر».
وتعود أصول صناعة كعك العيد بأشكاله إلى الحضارة المصرية القديمة، خاصة بشكله الدائرى الذى يرمز للشمس التى كانت تمثل الإله "رع" رمز الحياة والقوة والخير عند الفراعنة، حيث برع المصريون القدماء فى صناعته بمكونات أقرب للمكونات التى يتم استخدامها فى العصر الحالى ، وهو ما أكدته الصور التى عثر عليها على جدران بمقابر منف وطيبة ، وكان من أهم المخبوزات لدى المصريين القدماء بل كانت كلمة كعك تعنى العجين فى اللغة المصرية القديمة، كما عرفت فى القبطية باسم "kaak" ثم انتقلت إلى اللغة العربية باسم "كعك" بنفس النطق والمعنى، ومنها إلى اللغات الأوروبية وعلى رأسها الإنجليزية" cake".
ارتباط عيد الفطر بالحلوى أو الطعام عموما لم يقتصرعلى مصر فقط، ففى بعض الدول العربية يصنع "المعمول" المحشو بالعجوة وبالمكسرات، وأنواع مختلفة من البسكويت. فى تركيا ومنذ عهد الإمبراطورية العثمانية يسمى عيد الفطر باسم "عيد السكر" نظرا إلى الكميات الغزيرة من الحلوى والحلويات التى يتم تقديمها وتناولها خلال أيام العيد . وفى الهند يتم تقديم طبق من الزلابية المحشوة بالجبنة الحلوة مغموسة فى حليب متبل بالهيل والزعفران، وفى باكستان وأفغانستان والهند وأجزاء من آسيا الوسطى يتم تناول "شير خورما" وهى طبق من الفواكه الجافة المختلفة والشعرية والحليب المكثف والسكر، كما يتم تقديم كعكة الأرز الحلوة المصنوعة من أوراق جوز الهند فى إندونيسيا ، بينما تتصدر الكليتشا أو الكليجة فى العراق وهى معجنات محشوة بالتمر ومنكهة بماء الورد.
مواكب صلاة العيد وتوزيع العطايا
توضح د.سعاد ماهر فى موسوعتها “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون “، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، كيف بالغ خلفاء الدولة الفاطمية فى الاحتفاء بنهاية شهر رمضان وعيد الفطر المبارك، حيث تم إغداق الخير على الفقراء والمحتاجين ، وكانت تخصص ميزانية كبيرة لذلك فقد كان يعتبر عيد الفطر عندهم هو الموسم الكبير المعروف بـ " عيد الحلل" حيث توزع فيه الحلل او الكسوة وهى ثياب قيمة تصنع من نسيج دار الطراز ای المصانع الحكومية لتوزيعها ليلة العيد .
كان الاحتفال بعيد الفطر يبدأ فى ختام شهر رمضان ، فقد كان الخلفاء يختتمون الليلة الأخيرة من رمضان باستدعاء المقرئين للاحتفال بليلة العيد فيبدأون فى قراءة آيات الذكر الحكيم وترتيل القرآن الكريم بأحسن الأصوات ، ثم يجيء بعد المقرئين الخطباء، ثم يكبر المؤذنون ويهللون ثم ينشدون أدعية صوفية إلى أن ينثر عليهم الخليفة من الشرفة آلاف الدنانير والدراهم وتوزع عليهم أطباق القطائف مع الحلوى وكسوة العيد .كما توزع الدراهم على المقرئين والمؤذنين . فإذا ما انتهى مجلس المقرئين والخطباء انتقل الخليفة إلى قاعة الذهب فيجلس فى الإيوان وعلى يمينه الوزير ثم بعده الأمراء بعد أداء التحية ، كل فى المكان المخصص له ، ويتبعهم الرسل الوافدون من جميع الأقاليم يستعرضون هداياهم للخليفة وهو ما كان يزيد على ألف فرس .
فى صباح يوم العيد يخرج الخليفة وحاشيته وجنده وعساكره لتأدية الصلاة فى مصلى بنى خصيصى لهذا الغرض ، ويصف المقریزی هذا المصلى فيقول : كان فى شرقى القصر الكبير مصلى العيد من خارج باب النصر ، أحد أبواب القاهرة ، وهذا المصلى بناه القائد جوهر الصقلى لأجل صلاة العيد وهو مصلی كبیر مكشوف قائم على ربوة مبنى بالحجر ومحاط بسور وعلى بابه قلعة أى برج وفى صدره محراب مغطى بقبة كبيرة . وإلى جانب المحراب يوجد منبر يبلغ ارتفاعه ثلاثين درجة وعرضه ثلاثة أذرع.
وكان يسبق صلاة العيد استعداد كبير يقوم به كبار الدولة لتهيئة المصلى وإظهاره بالمظهر اللائق بالعيد وبالخليفة ، فيقول المقريزى : إذا أكمل رمضان وهو عندهم ثلاثون يوما ، يتوجه وزير الخزانة إلى المصلى خارج باب النصر ويفرش السجاد ويركز فى جانبى المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة . ويوضع على ذروة المنبر طراحة من حریر ، كما يفرش درج المنبر بالحریر ، وفى هذا اليوم يسير الوزير من منزله ومعه كبار رجال الدولة فى ملابسهم الجديدة إلى باب القصر ، ویتصدر الخليفة موكب عظيم وتكون ملابسه فى عيد الفطر بيضاء موشحة بالفضة والذهب و مظلته كذلك ، يخرج من باب كبير بالقصر يسمى باب العيد على عادته فى ركوب المواكب ، ويزداد عدد عساكره المحيطين به بالموكب فى هذا اليوم وكذلك الجنود والمشاة وتحيط به فرق الموسيقى والخيالة ، فيتوجه بموكبه إلى المصلى قاصدا المحراب ويقف خلفه الوزير والقاضى . فيصلى صلاة العيد .
وبعد انتهاء الصلاة يصعد الخليفة إلى المنبر ويجلس على الطراحة الحريرية بحيث يراه الناس ، ويقف أسفل المنبر الوزير والقاضى والحاشية .ثم يشير الخليفة إلى الوزير وقاضى القضاة بالصعود فيصعدون على التوالى ليقبلون يده ويقدم قاضى القضاة إلى الخليفة نص الخطبة التى أعدها ديوان الإنشاء وسبق عرضها على الخليفة ، فيخطب الخليفة من النص الذى قدم له . فإذا فرغ من الخطبة يهبط الخليفة ويعود بموكبه إلى القصر ليدخل من باب العيد ، فيجلس فى الديوان الكبير وقد مدت فيه الموائد الممتلئة بالحلوى وأنواع الكعك ليأكل الجميع ثم يقوم الخليفة من الديوان ليتوجه إلى قاعة الذهب التى تمتد بها مائدة آخرى عامرة يجلس حولها الوزراء والأمراءحتى صلاة الظهر، ليبدأ بعدها إذاعة سجل عید الفطر ، ويبدأ السجل عادة بالدعاء للخليفة و آله ثم يبين كيف قام بصلاة العيد على عادة آبائه وأجداده الطاهرين ، ثم يذكر الثواب على اخراج الفطرة ويبشر له.
مآدب الطعام لكسب ود الشعب والجنود
المبالغة فى إقامة المآدب والولائم الضخمة كانت سمة بارزة فى الدولة الفاطمية بحسب ما يشير حسن إبراهيم حسن فى كتابه " الفاطميون فى مصر أعمالهم السياسية والدينية بوجه خاص" حيث كان الفاطميون يطلقون عليها «الأسمطة» فتمد الموائد وتعد ألوان الطعام بكثرة ليأكل الناس من مختلف الطبقات ، وكان يسمح للعامة بأخذ الأطعمة المتبقاة سواء لمنازلهم أو لبيعها، وكانت تلك الأسمطة تخفض كثيرا من بيت المال لكن الخلفاء كانوا يرون فى تلك الأعمال تقوية لمركز الفاطميين كما كانت تزيد من حب الشعب لهم وإجلالهم .
تحت حكم السلاطين العثمانيين ، كانت مطابخ القصر تبدأ فى الاستعداد لرمضان قبل شهرين على الأقل ، حيث يتطلب الأمر أحيانا طلب العديد من المواد الغذائية من جميع أنحاء الإمبراطورية مثل جلب الأجبان من البلقان ، والمشمش من دمشق ، والعسل من أنقرة ،و الكافيار من البحر الأسود. كما يتم إرسال الأطباق الممتلئة بالأطعمة الفاخرة إلى الشخصيات البارزة.
كان هناك تقليد آخر للقصر حيث يقوم السلطان بإرسال صوان فضية كبيرة مكدسة بالبقلاوة إلى جنود الانكشارية كل يوم. فى اليوم التالى ، كان الإنكشارية يرسلون الصوانى مرة أخرى ليتم ملؤها بالبقلاوة.كما كان الوزير الأعظم مسئولا بشكل مباشر عن تنظيم مأدبة الإفطار اليومية للشعب . وقلد المسئولون الحكوميون والأثرياء ما فعله السلطان وقدموا وجبات سخية للعامة لكسب ودهم .
قوة الولائم وتأثيرها
بين توزيع الحلوى واستهلاكها وتنظيم الولائم والمآدب الضخمة من قبل أصحاب السلطة والنفوذ، تبرز أهمية وتأثير تلك الولائم فى المجتمعات. يقدم كتاب "قوة الولائم: من عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحاضر" لبراين هايدن ما يمكن اعتباره أول عمل نظرى شامل حول تاريخ الولائم فى المنظور الأثرى والإثنوغرافى. ويؤرخ لتطور السلوكيات والعادات المرتبطة بالولائم من أول وجود لها فى عصور ما قبل التاريخ إلى العصور الصناعية الحديثة، مستخدما الولائم كوسيلة لفهم الهياكل الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الماضية كمقياس مهم للتغيير الثقافى عبر استكشاف الأنماط المتكررة فى ديناميكيات الولائم وروابطها مع جوانب أخرى من الثقافة مثل الطعام والسلطة والسياسة والاقتصاد.
تم تعريف الولائم بعدة طرق مختلفة من قبل باحثين مختلفين. كان أحد أبرزها شيوعا هو أنها "أشكال من النشاط الطقسى التى تنطوى على الاستهلاك الجماعى للطعام والشراب "، ربط الاستهلاك بالطقوس يعنى أن الولائم تحدث فقط فى السياقات الدينية ، والتى من شأنها استبعاد العديد من الأحداث والمناسبات التى ينظر إليها عموما على أنها وليمة مثل الولائم المرتبطة بالأحداث السياسية، وحفلات أعياد الميلاد، والولائم المرتبطة بإدارة الأعمال. لذا يقدم هايدن تعريفا أشمل هنا للولائم باعتبارها "أى مشاركة بين شخصين أو أكثر فى وجبة طعام يعرض خلالها بعض الأطعمة الخاصة أو كميات غير عادية من الأطعمة (مثل الأطعمة أو الكميات لا يتم تقديمها بشكل عام فى وجبات الطعام اليومية المعتادة) التى يتم استضافتها لغرض أو مناسبة خاصة ".
عادة ما تستحضر"الولائم " صور الانغماس الذاتى أو الفخامة ، والبذخ فى الثقافات والمجتمعات الصناعية المتقدمة حيث تعتبر الولائم أحداثا ممتعة بشكل عام تشبع حواسنا الذواقة والاجتماعية. فى ظل الحكومات الحديثة المبكرة؛ كان المسئولون فى حيرة من الكميات الهائلة من الطعام والهدايا القيمة التى بدت وكأنها تُهدر فى الولائم الكبيرة. بدا هذا السلوك بالنسبة لهم مخالفا للتقدم الاقتصادى الذى يسعون لتحقيقه فكان رد فعل بعض تلك الحكومات فى كثير من الأحيان هو تحريم الولائم التقليدية المرتبطة بالمناسبات، غير أنها فى عصر ما قبل الصناعة كانت لها عواقب بعيدة المدى بل قد نندهش عندما نعرف أنه ربما لم يكن هناك محرك آخر أقوى للتغيير الثقافى والاجتماعى من الولائم.
تعد الولائم فى معظم المجتمعات التقليدية أكثر جوانب الحياة الثقافية قيمة. فالمشاركة فى الولائم ترضى الحواس ، وتغمر الفرد فى الحياة الاجتماعية ومظاهرها، وتحيى الطقوس ، وتعزز الذكريات الجميلة، ومن الولائم التقليدية أيضا تشكلت الكثير من العادات والسلوكيات المتعلقة بالآداب وارتداء الملابس والمطبخ والطقوس .
الولائم وسيلة لتحقيق المكاسب
يوضح هايدن أن الولائم تشكل نوعا من السلوك البشرى جذب الباحثين لدراسته فى العقود الأخيرة ، ربما ظهرت لأول مرة فى العصر الحجرى القديم وأصبحت أكثر انتشارا فى العصور القديمة. ويشير إلى أن الولائم كانت تعتبر دائما استراتيجية رئيسية يستخدمها الأفراد الطامحون لتحقيق مكاسب اجتماعية واقتصادية وسياسية أوحتى من أجل الهيمنة، لذا يمكن أن توفر الولائم رؤى مهمة فى الأمور الاجتماعية والهياكل السياسية وديناميكيات المجتمعات. ولعل أبسط تلك الرؤى ما هو متعلق بالأسباب الأولية التى دفعت البشر لتدجين وتربية الحيوانات وزراعة النباتات.
بعيدا عن الرغبة فى الاكتفاء الذاتى، تمحورت الأسباب الرئيسية لتبنى وتطوير التدجين حول سياقات الولائم، حيث يمكن تحويل فائض الطعام إلى أشياء أو علاقات أخرى مرغوبة فى فترات زمنية قصيرة، مما أثر بلا شك على أدوار الجنسين ، وخلق الهويات الاجتماعية، وفهم الرموز الثقافية. لم يكن تحقيق الاقتصاد المنتج هو المحرك والدافع الرئيسى للقدرة على توليد فائض غذائى والحافز لتعزيزتخزين هذا الفائض ، خاصة فى الفئات الاجتماعية الثرية وأوساط الرعاة والحكام ، كل هؤلاء سعوا لامتلاك سلالات نادرة ومتنوعة من الحيوانات، وزراعة النباتات لتخدم أهدافهم ودوافعهم لتنظيم الولائم وتضخيم تأثيرها بالعصور المختلفة. يرى هايدن أن القدرة على إنتاج فائض غذائى كبير أدى لزيادة تنظيم الولائم وتضخيم تأثيرها مما كان المحرك الرئيسى لظهور "المشيخة" كتنظيم اجتماعى سياسى وهى شكل من أشكال التنظيم السياسى الهرمى فى المجتمعات غير الصناعية التى تعتمد عادة على القرابة و النسب، والتى تحتكر فيها القيادة الرسمية من قبل كبار الأعضاء الشرعيين من الأسر المختارة أو المنازل. وتشكل هذه النخب أرستقراطية سياسية أيديولوجية بالنسبة للمجموعة العامة.
يمكن تصنيف الولائم بطرق متنوعة حسب الاهتمامات الفردية والخلفيات ، حيث يمكن تصنيفها وفقا للأحداث والمناسبات المرتبطة بها مثل : الجنائز ، والزواج ، والمواليد ، والحصاد ، وبناء المساكن. ويمكن أن نضيف أحداثًا سياسية مثل :التحالفات السياسية والعسكرية، والانتصار بالحروب، حتى الولائم المرتبطة باحتفالات المجتمعات المحلية والأقليات
إن العلاقات الاجتماعية التى تنطوى عليها الولائم مثل اكتساب النفوذ أو التلاعب به، خاصة فى تلك الولائم التى تتم برعاية سلطة ما ( دينية/ سياسية/ اجتماعية) لإضفاء الشرعية أو المساعدة على خلق واقع اجتماعى و سياسى تسهم فى فهم وتجسيد مفاهيم الفروق فى النظام الاجتماعى و الهياكل الاجتماعية والسياسية)، فالفئات الاجتماعية التى تستضيف الولائم تهدف لتحقيق فوائد منها، توصف هذه الفوائد على أنها الدوافع أو الأغراض الأساسية لاستضافة الولائم ومن ثم تعتبر الولائم أداة فعالة تم استخدامها للتأثير على الآخرين وإحداث تغييرات فى المواقف والقيم بسبب الشعور الفطرى الواضح بالالتزام عندما يتلقى الناس الهدايا ، وخاصة الطعام.
هندسة الديون الاجتماعية
الولائم أيضا شكلت استراتيجية لتشكيل الديون الاجتماعية، خاصة عندما يكون الحضور مشروطا بدعوات متبادلة فتصبح ديونا يجب سدادها. فمثلا إذا دعا شخص ما فردا آخر إلى وليمة فعلى الآخر رد الدعوة باستضافته لوليمة أخرى وإلا سيؤثر ذلك سلبيا على علاقتهما وربما ينهيها فى بعض الأحوال كما هى عادات وتقاليد بعض المجتمعات ، مثل هذه الدعوات للولائم تشكل اتفاقيات تعاقدية ضمنية. وبمجرد تأسيس مبدأ الديون المتبادلة ، يتم تمهيد الطريق لإنشاء التسلسل الهرمى واكتساب السلطة من خلال «هندسة المديونية». وبصفة عامة يرى هايدن أن أيا كان السبب والدافع خلف تنظيم الولائم، سواء ارتبطت بأحداث اجتماعية أو سياسية أو دينية، فإن تلك الدوافع جميعا من شأنها أن تساعد العلماء فى فهم الطرق المختلفة لخلق السلطة وإعادة إنتاجها وتحويلها وإخفائها، وكيف يمكن التلاعب بالولائم للتأثير على المشاعر وربطها مع الهياكل الاجتماعية والسياسية الأوسع وأيديولوجيات السلطة مما يجعلها فى كثير من الأحيان سياسية جدا رغم أنها ظاهريا قد تبدو كمناسبة اجتماعية، ومن هنا تكمن قوة تأثير ونفوذ الولائم. يمكن القول إن تقاسم الطعام ، وهو الأساس الذى نشأت منه الولائم، يعتبر إحدى السمات المميزة للتطور البشرى ويعتبره البعض المحرك الرئيسى فى التطور الاجتماعى من أشباه البشر البدائية للإنسان الحديث من حيث دوره المحتمل فى تطوير التعاون ، والمشاركة الاجتماعية ، والأخلاق، والإيثار ، وربما النظم الاقتصادية البشرية ومع ذلك ، فإن هذا السلوك وماهية الفوائد التى تعود على المشارك أو المستلم فى عملية مشاركة الطعام ينطوى على بعض التفسيرات الاجتماعية التى اكتشفها علماء الاجتماع مثل السعى للمشاركة مقابل رفاهية المجموعة أو «زيادة المجموعة» حيث ستزيد المشاركة من فرص صاحب الطعام فى تعزيز التحالفات الاجتماعية مع المتلقين أو ضم حلفاء جدد.
دور بارز فى التعقيد الاجتماعى والثقافي
إن طبيعة الولائم تتحول وتتغير أيضا عبر أكثر من مستوى من التنظيم الاجتماعى والثقافى. لدى البشر بعض الميول الفطرية لمشاركة الطعام بشكل محدد السياقات ولأسباب محددة . وفقا لأنواع معينة من المشاعر وردود الفعل، لقد طور البشر ردود فعل محددة تجاه استهلاك أنواع معينة من الأطعمة التى يمكن أن تغير حالتنا العاطفية وتؤثر على احساسنا بالراحة. وأبرزها هو استهلاك الأطعمة ذات الأهمية الكبيرة مثل تلك الغنية بالدهون والسكريات ، والكافيين ، والشوكولاتة ، واللحوم ، ومجموعة متنوعة من الأعشاب ، وغيرها من الأطعمة التى تؤدى إلى افراز الدوبامين أو الإندورفين ما يدفع الشعور بالرضا. مثل استهلاك تلك الأطعمة ووجودها فى الولائم بكثرة يعتبر نوعا من التمييز الاجتماعى والقدرة على استغلال النفوذ .
يجادل هايدن بأن الولائم أسهمت فى التعقيد الاجتماعى والثقافى والسياسى، عبر استخدام الفائض الغذائى، الذى يتم خلقه عبر تدجين وتربية الحيوانات وزراعة النباتات، لتعزيز المصالح الذاتية لمنتجى الفوائض والمتلاعبين به. فى هذه النظرية ، يدفع المبادرون بالمعايير المجتمعية لتحقيق مكاسب ذاتية من خلال الولائم ، حيث ظهرت الملكية الخاصة والتقسيم الطبقى الاجتماعى.كما أثر تناول الطعام فى تعقيد نمط العيش. كانت الولائم سببا لهذا التعقيد من خلال الترتيبات الاقتصادية المرتبطة بها مثل القروض والديون وتقديم الهدايا وعلاقته بالتوقيت والرتبة والمكانة. لذا عند دراسة النوايا والأفعال وراءها؛ يقدم هايدن الولائم كأدوات اقتصادية واجتماعية كانت «ترويجية» وتستخدم «للإعلان» عن الحالة أو الموقف أيا كانت طبيعته. هنا يسعى «المضيفون المبادرون» لخلق حالات عاطفية مواتية بين الضيوف من أجل «تعزيز الامتثال» وإخفاء الطموح، فى ما يسميه هايدن "البيئة السياسية القديمة "التى تلعب الدور المركزى لتمكين أى فرد يسعى بنفسه ، مدفوعا بالرغبة فى الحصول على السلطة والنفوذ والمكانة والتأثير، مما يقدم الولائم كمفتاح لفهم تطور تاريخ الإنسان الثقافى والاجتماعى.
رابط دائم: