يقترب موسم الترفيه الرمضانى من نهايته، تاركا وراءه إضافات قيمة لإرث عظيم وتاريخ ممتد لـ «صنعة» البهجة المصرية المرتبطة بالشهر الكريم. ورغم أن هذا العام شهد إضافات تحسب فى مجالات الدراما والأعمال المخصصة تحديدا للأطفال، لكن القلب كل يوم يرنو إلى تلك الأعمال الأولى التى شكلت إرث مصر الرمضانى. أعمال اجتمع حولها الجميع، كبارا وصغارا، وكان من أبرز صناعها المبدع المتفرد محمود رحمي(1939- 2001).
فمن أبرز الملاحظات على موسم الترفيه الرمضانى المنصرم، أن رحمى وشخصياته حاضرة وبقوة. فـ “بوجي” و”طمطم” يشغلان جانبا من الشاشة الرمضانية عبر إعادات لحلقات مواسمه المختلفة، وعرائس العمل التليفزيونى الشهير مازالت من أبرز هدايا الشهر الكريم للكبار والصغار.
عن سر إبداع رحمى، الذى يترسخ عاما بعد آخر، رغم غياب صاحبه، تحكى الأستاذة فوقية خفاجى، أرملة الفنان الكبير، بادئة بأول الأسرار، وهو صدق البدايات، فتوضح: “ البداية كانت مع شخصية (برطوعة)،التى اتخذت من النمل أصدقاء، لكنها لم تتمكن من تحقيق أمنيتها بدخول منازلهم تحت الأرض. فأعطوها قطعة سكر، فلما أكلتها تقلص حجمها حتى باتت فى حجم النملة وتمكنت من زيارة بيوتهم”. وتكمل خفاجى: “كانت (برطوعة)أولى خطوات رحمى نحو عالم العرائس، صنعها بشكل بدائى مستخدما حزاما من القماش لتكون بطلة حكاية ألفها لتسلية أخيه الصغير”.
سكنت “برطوعة” ركنا هادئا من قلب رحمى حتى تخرج فى كلية الفنون الجميلة، قسم النحت بدرجة امتياز، ليلتحق بعدها بالتليفزيون المصرى، فكان ذلك السر الثانى، وهو حسن اختيار منصات الانطلاق الفنى. فدخوله التلفزيون للمرة الأولى كان بداية لتعدد أعماله، حتى تجاوزت أعداد الشخصيات التى أبدع فى تصميمها وتنفيذها الألف.
السر الثالث كان فى خصوبة الموهبة ونشاط صاحبها. فمسيرة رحمى الطويلة تخللها إبداعه أعمال «حمادة وعم شفيق»، برفقة الفنان شفيق نور الدين، و”أرنوب” و”عم قاموس” مع الإعلامية سلوى حجازى، فى برنامج «عصافير الجنة»، ثم” بقلظ ودبدوب”، وتضمن النموذج الأول لشخصية “بقلظ”، التى ظهرت بعد ذلك مع الإعلامية نجوى إبراهيم. وبرنامج “حدوتة لتوتة” فى السبعينيات.
ومن أبرز إبداعات رحمى، تقديمه ما يعرف بـ “ عروس الكادر”، وهى عروس صغيرة الحجم لا يزيد طولها على 20 سنتيمترا. وتستخدم فى تصوير الإعلانات، ويتم توظيفها فى تصوير مشاهد متتالية، يقسم المشهد الواحد لعدة”كادرات” أو “لقطات”. ويتألف المشهد من 24 “لقطة”، ما يقارب صناعة “ الكارتون”. كما تطلب “أوبريت اللعبة”، الذى قدمته النجمة الاستعراضية نيللى، إبداع نحو 200 عروس من تصميم رحمى، وذلك على مدى عام كامل. كما صمم تميمة “ حورس” التى تم استخدامها ضمن دورة الألعاب الإفريقية عام 1991، وأعيد استخدامها فى أوبريت “عودة حورس”.
> رفيقة درب رحمى تتوسط بوجى وطمطم
ومن أسرار نجاح رحمى أيضاـ كما تقول خفاجى ـ أنه كان يقدر عقلية الطفل، ويستخدم “ الرموز” لمخاطبتها ودفعها للتفكير. كما حرص على دمج العرائس مع البشر. وفى هذا بعض أسرار نجاح تجربة “بوجى وطمطم”. وعن باقى أسرار نجاح هذا العمل المؤثر تقول : “حرص رحمى على الأسس التربوية والاجتماعية الصحيحة للعمل. بدأ المسلسل بأربع شخصيات فقط (بوجى وطمطم وزيكو وزيكا). وبعد نجاح الموسم الأول، تكررت المواسم، وزاد عدد الشخصيات حتى بلغت 20 شخصية. وكان آخرها،شخصية ( شكشوكة) التى راودت مخيلته وهو على فراش مرضه الأخير بالمستشفى”.
ولـ “بوجى وطمطم” مكانة خاصة لدى فوقية خفاجى، فقد شهدت بدايتهما بداية ارتباطها بالفنان رحمى. وذلك بعد تخرجها فى كلية الفنون الجميلة، عام 1976، لتلتحق بقطاع الأطفال بالتليفزيون، وتعمل بعد ذلك مصممة عرائس، ومخرجة مساعدة لرحمى فى جميع أعماله.
وعن طقوس الفنان رحمى أثناء العمل، تكشف خفاجى: “بمجرد أن تأتيه فكرة الشخصية أو العروس الجديدة، يبدأ فى رسم ملامحها ويحدد دورها. العديد من شخصياته رسمها لأول مرة على قصاصات الورق وأطراف الجرائد والكتب”. وعن إعداد العروس نفسها توضح : “يستغرق تنفيذ العروسة نحو أسبوعين، لكن بعض العرائس استغرقت وقتا أطول كما فى حالة شخصية (الفيل فلافيلو)، فقد استغرق تنفيذه شهرا.أما شخصية ( عم شَكشك) فكانت من الشخصيات المجهدة، فقد أعاد رحمى نحته ثلاث مرات حتى وصل لشكله النهائى”، كما أن إتمام موسم واحد من مواسم “بوجى وطمطم” ـ حيث تمت إذاعته على مدى 18 عاما ـ كان يستغرق ستة أشهر. وكان رحمى يحرص على اختيار أصوات الممثلين التى ستؤدى شخصية العرائس بدقة، بحيث تكون شديدة التوافق مع سمات تلك الشخصيات المتخيلة، وتجيد التعبير عنها.
ولا تنتهى أسرار مسلسل العرائس الأشهر هنا ـ كما تقول خفاجى ـ فقد استعان المبدع رحمى براقصى الباليه لتحريك العرائس التى كانت تتحرك بتقنية الـ “ماريونيت”، بسبب حساسية إدراكهم لفكرة تزامن الموسيقى مع الحركة. وطوال أعوام إعداد المسلسل، تعاون رحمى مع أربع فرق من راقصى الباليه وقام على تدريبهم بنفسه.
وكانت العلاقة الخاصة التى ربطت رحمى بعرائسه من أسرار تفرده. فقد كان بمثابة” أب لشخصياته”، وتستدعى خفاجى حادثة حلقة “السيرك”، عندما كانت شخصية بوجى تصور مشاهد مع المدرب الكبير إبراهيم الحلو داخل حلبة عرض الاسود. وتعرض “بوجي” لهجوم من جانب أسود الحلو، فصرخ رحمى محاولا الدخول للحلبة لينقذ بوجى. ومنعه العمال من الدخول حتى خرج الحلو ومعه “بوجي” ممزقا وفى حالة يرثى لها، قائلة: “ لن أنسى نظرة رحمى حاملا ( بوجي) بين يديه ليعطينى إياه، ولم أنم يومها، حتى عاد (بوجي) لسابق عهده”.
رابط دائم: