رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الرهبة

أمل سالم

عربة من الزجاج، يجرها حصانان، زُينت أركانها الأربعة الخارجية بتماثيل خشبية على صورة ملائكة، تلك التى تظهر فى صور العذراء والسيد المسيح.




السلام عليك يا مريم، صلّى لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفى ساعة موتنا.

أنا طفل فى السادسة من عمرى، ألحقت السنة الماضية بمدرسة الراهبات الابتدائية، مدرستى جميلة ونظيفة. المدرسة ملحقة بكنيسة بها مستوصف لعلاج المرضى.

كل يوم نأتى فى الصباح لنجد فصولها منظمة، كان عم شوقى الفراش ذا عين واحدة، عينه الثانية منطفئة؛ مغلقة الجفنين دائمًا، كما أنها غائرة بما يوحى أن جحرًا ما فى وجهه. كثيرًا ما خفت أن تخرج فئران حجرة الفئران- التى كانوا يخيفوننا بها- من هذا الكهف المظلم.

فى مرة تلكأت كى أعرف من الذى ينظف كل تلك الفصول، فقد ذهبت إلى حوض الشرب، وفى واقع الأمر لم أكن أشرب من صنابيره مطلقًا؛ فقد كنت أقرف من بصق الأطفال فيه! ثم عدت فرأيت عم شوقى الفراش وقد أزاح المقاعد فى جهة، وبمكنسة كبيرة ينظف الجهة المقابلة، مسكين عم شوقى ذو الجحر فى وجهه!

فى اليوم التالى تعمدت أن أتأخر فى الفصل، وقمت بجمع الأوراق من على الأرض، وكلما سنحت الفرصة لملمتها.

كان جثمانها مسجى فى صندوق بنى مغلق، له أربعة مقابض تسمح للمشيعين بحمل الصندوق. وعند الوصول للمقابر، كنت أحد هؤلاء الأربعة لمسافة قصيرة. قيل إن جثمانها يصحب جميع ملابسها وأشيائها، فلا بد إذن وأن صورتنا معها- يوم نجاحنا فى الابتدائية- فى ذلك الصندوق، قلَّل ذلك من حزنى. وعلى ضخامة الحدث-وجثمانها أيضًا- بدا الصندوق صغيرًا ونحيفًا.

كانت الراهبات يلبسن رداءً أبيض، وفوقه أردية بنية وسوداء، ويربطن أحزمة على خصورهن تتدلى من جهة اليمين. مديرة المدرسة راهبة سمراء اللون سمينة، بعض الراهبات جميلات؛ فبشرتهن ناصعة البياض، كثيرًا ما دعكت وجهى بالصابون جيدًا عله يبْيض مثلهن، لدى بعضهن عيون زرقاء.

-لماذا لا تكون عيناى زرقاوين مثل عينى الراهبة كرستين يا أمى؟

-الله خلق كل إنسان بلون للعين، وعينك بنية جميلة.

-ماذا لو وضعت حبرًا أزرق بداخلها؟

-يؤذى عينيك، ولن تبصر بعد ذلك!

-هل وضع عم شوقى ألوانًا فى عينه الغائرة؟

فى الفصل أربعة صفوف من المقاعد، صفان للأولاد جهة يسار المدرس، وأخران للبنات. وقع نصيب زميلى عبدالعزيز، الأقل منى فى المستوى الدراسى، أن يجلس فى أول الصف إلى جوارى بحيث يقع على يساره أول صف للبنات.

-الحمد لله إننى لم أجلس جهة البنات يا عبدالعزيز.

-لماذا؟

-رائحتهن مقززة، كما أننى أستطيع أن أتحدث مع الجالس من هذه الناحية «وأشرت إلى اليمين»، والجالس من هذه الناحية «وأشرت إلى اليسار».

-طب وأنا؟

-أنت مسكين؛ ستشم رائحة البنات طوال اليوم، كما إنك لن تجد من تتكلم معه، ولن تستطيع أن تغش من جيهان، ستفتن عليك وتعاقبك المدرِّسة.

-نبدل المكان.

- لا... لا.

نصف يوم وعبدالعزيز هذا ساهمًا، فى نهاية اليوم عرض عليَّ قلمه الحبر ذى الزجاج الشفاف مقايضة بتبديل المكان، وكنا جميعًا نكتب بالرصاص فقط، وافقت على الفور. فى اليوم الثانى أبدلنا مقاعدنا، ولأنه بكى على قلمه؛ أعدته، ولم أعد له مكانه، ونلت غرضى.

«سيعود إلى زيزو هذا فى قصة أخرى، فهو مدين له بالاعتذار، فقد سرق منه طابع بريد قديم؛ بأن أخفاه فى حذائه».

جلست وعلى يسارى جيهان، ذات البشرة البيضاء الصافية، والعيون الزرقاء مثل الراهبة كرستين، وفيما بعد ناقشنا سر الأزرق السماوى.

بيتى يقع قريبًا من المدرسة، أسمع بوضوح دقات جرس الكنيسة أيام الآحاد. اليوم سمعت دقاته المتقطعة، وعندما سألت عن المتنيح جاءنى الخبر عن المتنحية، ففجعت!

لاحظت السيدة الراهبة سير كُولُتَّا، التى يبدو أنها عرفت بالمقايضة الرهيبة التى أدت إلى دخول أحد الأطفال فى حالة من البكاء العميق. وعليه، فقد وضعت عينيها عليَّ واقتنعت تمامًا أننى طفل شقى يجب متابعته.

-يا أكثم أنت شقى، وبطل شقاوة.

-أنا هادى يا مس، أمى تقول هذا.

-قل لها أنها أنجبت عن دون قصد سخمت إله الشر. ثم تضحك هى والمدرسات والراهبات.

كانت العربة تسير ببطء، وخلف العربة سار حشد من الناس، تعمدت أن أقترب من العربة بالقدر الذى يتيح لى رؤية الصندوق.

اصطحبتنا إدارة المدرسة فى رحلة إلى حديقة قريبة، وعند عودتنا بالحافلة اقترحت سير كُولُتَّا أن تسأل كل واحد منا عن مقدار ما صرفه أثناء الرحلة وفيما صرفه. الحق أن أكثر واحد من التلاميذ كان قد أنفق قروشًا قليلة، لكن الأطفال تباروا فى الكذب:

-أربعون قرشًا.

-نصف جنيه.

-ثلاثة وخمسون قرشًا.

-لا شيء، لم أصرف قرشًا واحدًا.

-لماذا يا أكثم؟!

-لأننى لم أحتج شيئًا أشتريه. أمى أعطتنى مصروفى، ها هو. ولكنها أعطتنى ساندوتشاتى، ها هى «وأخرجتها من الحقيبة» وهذه حلوى، وهذا لبان، يمكنك أن تأخذى واحدة سير كُولُتَّا «ضحك الجميع»، معظمهم كاذبون، لم يشتروا شيئًا «وضحكتُ».

-اسكت يا أبكم، أنت شقى، ولا تتصرف كباقى الأطفال.

وبالطبع انطلق الاسم كرصاصة أضحكت كل الأطفال، ورددوه، واستقرت الطلقة فى قلبى.

-أبكم، أبكم، أبكم، أكثم أصبح اسمه أبكم، أبكم.

-اسم جديد لك.

-اسم لائق.

أسررتها فى نفسى، وقررت أن أذهب إلى الكنيسة المجاورة للمدرسة وأشكوها هناك.

-أهلًا يا سيدنا.

-أهلا يا أبونا.

هكذا تقول الراهبات للقس طويل القامة الذى يرتدى الملابس السوداء وتكسو الطيبة وجهه، وأنا متأكد أنه سيعاقبها بالضرب، فى نهاية التفكير قررت أن أنتقم من سير كُولُتَّا عندما أكبر. فى اليوم التالى حذفت حرفًا واحدًا من اسمها، وكان ذلك كفيلًا بإضحاك التلاميذ كلما رأوها. يبدو أنها عرفت؛ فهى عندما ترانى تكشر وتبحلق.

فى البداية كنت أخاف من ذلك، رويدًا رويدًا وأمام المرآة تدربت جيدًا على البحلقة، وقررت رد الفعل لكل فعل غير مستحب. بعدها بأيام وما أن بحلقت وكشرت سير كُولُتَّا لى حتى فعلت مثلها، فأدارت وجهها وضحكت مع زملائها، وتكرر الحدث. بعدها بأيام وجدت أن الراهبة ذات العينين الزرقاوين تبحلق لى وتكشر، ولأن عينيها جميلتان فقد ضحكت من أعماقى، ولم أستطع الثبات أمام نظراتها.

-لقد كانت قديسة.

تلك كانت كلمات السيد السائر، بجوار عربة حمل الموتى، مرتديًا قلنسوة سوداء وملابس سوداء، ويمسك فى يده عصًا طويلة تحمل صليبًا.

فى حصة الدين انصرف التلاميذ المسيحيون إلى الفصل المجاور، تنامى إلى مسامعى صوت موسيقى وغناء حلو، لم أستطع تفسير مخارج الكلام، لكن الموسيقى كانت جميلة علقت برأسى. سألت جيهان عندما عادت:

-لماذا كنتم تغنون يا جى جى فى حصة الدين؟

-وانت مالك.

-أنا كنت عاوز أعرف بس، الغنوة جميلة، سأحفظها.

-انت ما تعرفش، هذه ترانيم، وليست غنوة.

فى هذا اليوم ذهبت إلى البيت وصدى الترانيم فى ذاكرتى، حيث انطلقت فرقة موسيقية بأكملها لعزف سيمفونية سمعها الجيران.

-ترررن تن ترررن تن تتن تن تررراررتن.

وانتهى الأمر بعلقة ساخنة تلقاء الصداع الذى أصاب رأس أمى.

لم تكن ثمة موسيقى فى الموكب، كانت ثمة موسيقى جنائزية داخلى، كنت أسمعها كنوبة رجوع تعزف لشهيد فى معاركنا الحربية، ومع كل خطوة كانت الموسيقى تزداد إلى أن غطَّت على وقع أقدام المشاة.

فى الحصص التالية كان يجب أن أرى هذه الآلة التى تخرج الأصوات الموسيقية؛ لذا ما إن دق الجرس حتى انطلقت إلى الفصل المجاور، ودخلت، فشاهدت «الصاجات» وهى آلة نحاسية ارتبطت بالمصريات، ومسكتها ولعبت بها، جميل صوتها. نهرتنى المدرِّسة وقالت:

-عندما تصل للصف الرابع ستحصل على دروس موسيقى، عد إلى فصلك.

تكرر الأمر كل حصة مع العود والربابة والسنطير، وبالطبع كان ينبغى الذهاب لحجرة الموسيقى، عثرت عليها أخيرًا، وكان بها أشياء جميلة: المزمار، والبوق الذى أحبته فيروز زميلتى، والناى، والدف، والمثلث، وكل مرة كان مدرِّس أو مدرِّسة ينهرنى ويعيدنى للفصل. بلغ الأمر سير كُولُتَّا فنادتنى:

-يا أبكم لا تغادر فصلك.

وعندما علمت أننى لم أعر تنبيهها اهتمامًا أرسلت لأمى وأبلغتها.

-لا تغادر الفصل إلى أى مكان.

-أنا أذهب لحجرة الموسيقى، وهذه السير كُولُت كئيبة، هى ليس عندها أطفال كى تعرف ماذا يحبون وماذا يكرهون، كما أنها لا تغادر بيتها، أنا عرفته؛ إنه المبنى المجاور للمدرسة.

لم تكن تعرف شيئًا آخر غير تربية الأطفال، والإشراف على المستوصف، ومساعدة الفقراء؛ وهبت حياتها للخير، لذا كان عدد المشيعين يزداد كلما اقترب الموكب من المقابر.

فى يوم، وأثناء خروجنا من المدرسة، كان الأولاد يصنعون ضجيجًا هائلًا، فجأة وجدت زلطة صغيرة قد انطلقت كالرصاصة تجاه عينى.

-«سأصبح بجحر فئران فى وجهي».

لم يكن ثمَّة حل إلا أن أدير وجهى سريعًا، أصابتنى فى رأسى من الخلف، سال دم على قميصى وبكيت، أدخلنى مدرِّس إلى المدرسة، هرعت سير كُولُتَّا فنظرت للجرح:

-جرح صغير، سأنظفه له. يا شوقى.

-نعم يا أم.

-اذهب إلى المستوصف وأحضر قطنًا وبيوتادين.

وأحضرت قطنًا، ووضعته على الجرح، وضغطته حتى عاد عم شوقى، عند ذلك جلست على كرسى، وأخذت فى تنظيف الجرح والقميص.

-مالك عامل زى الكتكوت المبلول كده ليه؟!

-هو كده أنا هأموت؟

-«ضحكتْ» لا ما تخافش خلاص نشف.

ثم قربت رأسى من صدرها، وهى تضغط الجرح بقوة، فالتصق خدى بنهدها. كان دافئًا كصدر أمى وحنونًا، ثم ربتت على ظهرى وهى تنظر إليّ بعينين أموميتين صافيتين تفجر حنانهما فجأة، مبتسمة قالت لى:

-خلاص هو هيخف، لا تقل لأمك كى لا تفزع عليك.

وجدتنى أقول لها هامسًا: حاضر يا ماما. فتوهجت

- Promesse

-برومث.

فى هذا اليوم لم أقل لأمى شيئًا مثلما وعدتها. فى اليوم التالى، وبعد أن فحصت الجرح وحمدت الله، سألتنى فأخبرتها أنه «برومث».

وها أنا الآن أفى بوعدى وأسير فى جنازتك؛ لأنك سيدتى، ولك علىَّ فضل عندما كنت صغيرًا. وفى أخر الحشد رأيتُ مجموعة من الراهبات يبكين أمهن، بينهن راهبة من سنى بعينين زرقاوين.

أصدرت سير كُولُتَّا قرارًا لحجرة الموسيقى بالسماح لى بقضاء الفسحة، استأذنتُ مدرِّسة الموسيقى السماح لجيهان بالتواجد معى فقبلت، بينما كان الأطفال يلعبون فى فناء المدرسة، كنا نعانق الأوتار والأعمدة الهوائية. وأعجبتنى آلة، عرفت فيما بعد أن اسمها الكمان، وبدأت العزف عليها. فى يوم أحضرت سير كُولُتَّا رجلًا لإصلاح الآلات الموسيقية، وبعد أن انتهى أحضرت كمانًا قديمًا أثريًا من عندها، قالت:

-هذه الكامنجا ملك خاص لى، أريد أن أصلحه.

-سيحتاج وترين لإكمال أوتاره الأربعة، وتكلفته...

-غير مهم، سيعزف عليه ابنى، أحضر قوسًا جديدًا مناسباً له، وسأحاسبك عليه.

كنت أسمعها، ولم أكن أعرف أننى الطفل المقصود، أصلحتْ الكمان، وأهدتنى أياه فى حضور أمى.

والآن، بعد أن أوصلت جثمانها، أنا أعزف لها على «فيولاتها»، وأسند خدى على مخدة الكمان، وأغمض عينى فأسند خدى صغيرًا على نهدها.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق