وتكتمل سلسلة الكتابات الرمضانية التى حرصت صفحة «وفقا للأهرام» على استدعائها طوال الشهر الكريم، كتابات زينت صفحات «الأهرام» قديما لكبار الكتاب والمفكرين، وعادت بعد عقود طوال لتثرى القراءات الرمضانية لمريدى «الأهرام» حاضرا.
وفى هذا العدد، يعود الأديب والمفكر الإسلامى عبدالرحمن الشرقاوي (1921- 1987) بمقال نشرته الأهرام لأول مرة ضمن سلسلة الشرقاوى المعنونة «شخصيات إسلامية»، بتاريخ 19 يوليو عام 1980، مستعرضا بدايات حياة ابن حزم، والذى أطلق عليه «أديب الفقهاء»، يستعرض فى هذا المقال الذى تم نشر نسخته الأصلية الكاملة على جزأين، الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى عاش فيها ابن حزم بدولة الأندلس، وكيف جاء بشخصية عنيدة ذات شكيمة وعلم واسع ليواجه بها مفاسد زمنه وضعف أهله.
وفى المقال الثانى بهذا العدد، يروى الكاتب الكبير ورئيس التحرير الأسبق للأهرام أحمد الصاوى محمد (1902-1989) ذكريات طفولته فى رمضان، وكيف أثر هذا الشهر الكريم وعادات بيته وأسرته فى تهذيب شخصيته وتوجيه نفسه إلى ما شب وشاب عليه ليكون أحد أعظم أصحاب الأقلام والفكر فى زمنه وبعد زمنه، وجاء ذلك كله فى عموده، الذى كان ومازال من أشهر الأعمدة الصحفية فى تاريخ الصحافة المصرية، والذى حمل عنوان «ما قل ودل».. وكان ذلك كله وفقا للأهرام....
عبدالرحمن الشرقاوى
شخصيات إسلامية .. ابن حزم أديب الفقهاء
لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب فى الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء فى الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة، اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطباع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه، فهو يناقش كل وجوه النظر فى المسائل، حتى إذا أطمأن إلى رأى، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات لا يراعى لهم فضلا ولا وقارا.
من أجل هذا أحبه بعض الناس.. وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغرو به السلطان! يشهد مجالس الأنس ويسمر مع ظرفاء عصره، ويستمع للغناء حتى يؤذن للفجر فينصرف للصلاة، ثم يعتكف النهار والليل بعد ذلك بعيدا عن السمار والظرفاء، يقرأ ويتأمل ويكتب، ثم يخرج ليحضر مجالس العلم، يتلقى ويحاور الشيوخ، ويعلم الطلاب.
ولد وعاش ومات فى الأندلس، أجمل بلاد المسلمين وخيرها، فى أصعب فترة من عصور التاريخ الإسلامى.. إذا كانت الدولة العظمى فى الأندلس، قد تمزقت إلى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولى العزم العماليق العظام، ليجئ بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه، ويعربد فى دويلته فينقصها من أطرافها، يحالف الفرنجة الطامعين فى أن يستعيدوا الأندلس بأسره ومن هؤلاء الحكام الأقزام، من رضى الدنية فى دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه فى الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى.
وهكذا انطفأت منارات المعرفة فى قرطبة، وهى التى كانت تضىء لكل من حولها وما يليها من بلاد أوروبا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى فى الأيام الزاهية الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية. وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور إلى هزلها، ونهبت خزائن الكتب التى لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل، وانصرف أهلها عن اقتناء الكتب كما تعودوا، إلى حيازة الجوارى الحسان والغلمان، وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى كان المؤلفون فى المشرق العربى ينشرون كتبهم فى الأندلس، قبل أن تظهر فى بلادهم، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجوارى الشقراوات والغلمان من فرنسا وإيطاليا والجزر المجاورة فى المحيط والبحر الأبيض المتوسط.
وبدلا من التفنن فى إقامة خزائن للكتب، تفننوا فى بناء الأجنحة للجوارى، وذوى فن النسخ وافتقر النساخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثرى النخاسون، وأصبحت أسواق الأدب فى متنزهات قرطبة مغانى للعشاق وخمائل للمتعة.
وإذ بالعقل العربى فى الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية فى البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإغناء الحياة بالإضافات ليسقط فى الجمود والتقليد، وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله ويتشفعون بهم من دون العمل.
وخلال هذا التحول، كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب، والحق كسير. وانطفأت الحمية، وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون والمنتجين، ليعلو مقام الجوارى والغلمان والمخنثين والشذاذ.
وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير فى إشبيلية اشتهت إحدى نسائه أن تغوص بأقدامها فى الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر، أنفق على هذه البركة ما يكفى لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بإشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة فى طين المسك، لم يجد الأمير فى خزائنه ما يتقوى به على الدفاع عن مدينته. وهكذا سقطوا فى الطين المعطر.
فى بعض نواحى الأندلس، تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الأرض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدى المسلمون صلاة الاستقساء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون إلى قلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك ليستسقوا بها....
وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة ومظاهر من فساد المجتمع، نشأ ابن حزم.. عاش فى هذا الجو المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما، اشتغل خلالها بالسياسة والأدب والفقه والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتاع والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس، وسماه بهذا الاسم. واحتكم بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب فى انفعال على مجتمعه ذاك، وحاول أن يهدم واقعه ليبنيه من جديد.
وفى سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسى، واشترك فى مغامرات عسكرية، وعرف الحب والنعيم والجوى، ولم يتحرج وهو الفقيه أن يتربص به أعداؤه، من التصريح بتجاربه ومشاهداته فى بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ.
وترك ابن حزم مؤلفات كتبها بلغت أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات.. كذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما هو فيه، ولا يسمح لأى ظرف مهما تمكن خطره بأن يعطله.
وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه. ولقد أغضب بسلوكه ذاك كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة فى العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا، والعمل عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد لتعبد، فما ينبغى أن يصرفه عن شأنه أى طارق حتى يفرغ مما هو فيه.
ولد على بن أحمد بن سعيد بن حزم، فى آخر رمضان، قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384 فى قرطبة، ولد ابن حزم فى قصر فاخر، فقد أصاب أجداده وأبوه ثروة ضخمة، فترك أبوه منازل الآباء فى غربى قرطبة حيث يسكن أوساط الناس، واتخذ لنفسه قصرا منيفا فى حى السادة شرقى قرطبة، على مقربة من دار الخلافة.
تفتحت عينا الصبى على مجالى الترف، ومسارح المتاع ومغانى الجمال، فى قصر أبيه الشامخ على مرتفع يشرف على كل قرطبة، محاطا بحدائق واسعة، ترتفع فيها الأشجار ويضوع الزهر، ويغرد الطير، وتنساب الجداول الصغيرة ويتفجر الماء فى نافورات منمنمة الحواشى والجنبات بالفسيفساء، على مرائى الجمال ومغانى الحسن تلك، تفتحت عيناه، فما سمع فى طفولته غير الشدو والغناء، وما رأى غير الوجوه الصباح وخضرة الحدائق وروعة ألوان الطبيعة الفاتنة. . وهو فى الخامسة عشرة، تمرد على الخليفة هشام المؤيد، أقرب الأمراء إليه، فساقوا جيشا من العرب والبربر والفرنجة، فأسقطوا الخليفة وولوا مكانه رجلا آخر من بنى أمية، وعزل الحاكم الجديد والد ابن حزم من منصبه واعتقله، ثم أفرج عنه بعد حين..... » عبدالرحمن الشرقاوى
أحمد الصاوى محمد
ما قـل ودل
عودنى أهلى أن اصوم رمضان وأنا صبى صغير، وأن أجلس قبيل المغرب لا إلى مائدة حافلة بزاد الحياة، ولكن إلى التعبد والصلاة، نستغفر الله فيما أذنبنا، ونسأله الرضا عنا، ونتمنى عليه دوام نعمته، ونرجو المزيد.
وكنت، فى أحوال كثيرة، أصلى الفجر فى المسجد، وأرى من حوله الفقراء يعطون طعامهم للفقراء.
وكنا فى بيتنا المتواضع، نقدم الفطور أو السحور للخفير، وكانت والدتى تقول لى إذا لم يكن لدينا غير رغيفين اثنين، فيكفينا منهما رغيف، على أن نقدم الرغيف الثانى لمن هم فى حاجة إليه.
ومرت الأيام، وشعرت بسعادة لا حد لها كلما أمكننى أن أخلو إلى نفسى، واستعيد تلك الأيام الخالية، الغالية، وكثيرا ما مرت بى أزمات شداد كفيلة بأن تهد العزم وتهدم المستقبل، ومع ذلك كان الله سبحانه وتعالى يخرجنى منها ويشد أزرى..
ولا شك أن القرآن الذى كان يرتل كل صباح فى البيت قد علمنى كثيرا، علمنى ما لم أعلم، وترك لخيالى العنان، وكنت أتمنى على الشيخ رحمه الله، كل يوم، أن يقرأ سورة يوسف.
ولا شك أن صلاة المسجد قد طبعت قلبى بالخشوع والطاعة لله سبحانه وتعالى. فكرهت المتجبر والمتكبر، والله لا يحب المتكبرين. ولا شك قبل هذا كله أن رمضان علمنى كيف أكون برا، فشعرت باحتقار شديد للمال لا أحاول أن اكنزه مهما دخل لى منه. بل أحاول أن أسعد به أكبر عدد حولى من الناس.
إن لقيمات قليلة تكفينا لنشبع، ورمضان قد جاء فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه للخشوع، وتقوى الله. وأحوج ما نكون إلى التقشف والزهد. وأحوج ما نكون إلى التعاون على الخير والبر حتى يرحمنا الله... أحمد الصاوى محمد
رابط دائم: