فى إحدى مقالاته حكى الشاعر «خليل مطران»، وهو أحد رؤساء تحرير الأهرام،فى نهاية القرن التاسع عشر، واحدة من أنبل القصص عن الفنان «عبده الحامولى»،مطرب مصر الأول.
افتتح مطران مقالته التى نشرت فى صحيفة الأهرام بقوله: «اجتمع بعبده الحامولى نفر من كرماء إخوانه فى رمضان، فأفطروا وتسامروا هنيهة، عرضوا فيها ما عرضوا من أمور الدنيا. فاستقر الرأى على الذهاب إلى سيدنا الحسين، للجلوس هناك فى المقاهى البلدية التى تزدحم فيها العامة، التماساً لأُنس خاص من مشاهدة تلك الاجتماعات، ولاستراق بعض اللطائف من المحادثات المألوفة. غير أنه بدا لآخر من الرفقاء أن يقترح على «عبده» عملاً مبروراً، يرُضِيِ به الله والنبى، ويُسديِ به إلى ألوف العامة، الذين لا يملكون من المال والوقت ما ييسر لهم سماع «عبده» فى السوامر، وكان طلب ذلك المقترح أن يصعد «عبده» مئذنة سيدنا الحسين، ويُنشد بعض التسابيح على أثرِ أذان العشاء، وكانت قد جرت العادة أن تُنشد تلك التسابيح من أعلى المنابر فى أواخر رمضان، ويسمونها فى مصر والأقطار العربية الأخرى بـ «التواحيش» ومعناها توديع رمضان. فلم يتردد «عبده» فى الموافقة».
وبعيدا عن حكاية مطران الموثقة فى» الأهرام».يذكر البعض أن الحامولى فى تلك الليلة كان جالسا على مقهى «الخان»، بضيافة الخواجة إسكندر عبد الله، أشهر تاجر «مينيفاتورة» بالمغربلين، يدندن لمجموعة من أصدقائه، فاقترح أحد الحضور أن يُزكِّيِ عن صوته بالإنشاد من فوق مئذنة الحسين، فوافق على الفور. وكان بطبعه ورعا، كثير الطاعات، يؤدى صلواته الخمس، وحجّ بيت الله، ويحفظ حقوق ربه،وأنفق أكثر ماله فى وجوه الخير، ومساعدة الفقراء.
تناقل الناس الخبر كالبرق. وخلال لحظات توافدوا إلى ساحة المسجد، والسطوح المجاورة، حتى بلغوا عشرات الآلاف قبل أن يطل عليهم من أعلى المئذنة.
والواقعة تنطوى على مفارقات ودلالات موحية. فمثلا، مطران مسيحى لبنانى، وبعد استقراره بالقاهرة، مسّت وجدانه الأصوات العظيمة التى كانت ترفع الآذان من فوق مآذن المساجد، فى مختلف الأماكن التى قطنها. وكان المؤذنون فى تلك الحقبة يجيدون المقامات الموسيقية، فاعتادوا رفع الآذان كل يوم بمقام موسيقى مختلف، فخصصوا مقام السيكا ليوم السبت، والراست للأحد، والنهاوند للاثنين، والبياتى للثلاثاء، وكانت ذروة المقامات فجر الجمعة حيث يخُصُّونه بمقام حجاز كار الأكثر ملاءمة للغنائيات الروحانية، لذا اُشتهربكثرة استخدامه فى الأذكار والمدائح والتواشيح.وكان الناس يحبون سماع المنشدين قبل ظهور الميكروفونات والإذاعات. وكانت مئذنة الحسين تتصدر المشهد الرمضانى «باستغاثات» المنشدين.
لهذا،اعتبر صعود «الحامولى» إلى مئذنة الحسين حدثا فريدا. فرحبه الناس، وهرولوا زرافات إلى ميدان الحسين ومحيطه حتى غصّا بهم. لينصتوا إلى أشجى صوت أنجبته مصر، ليمتعهم«بابتهالات رمضان».
وتكشف لنا الحكاية رهافة حسّ الشاعر مطران،وانتماءه إلى المدرسة الرومانسية فى الشعر الحديث، وما عُرف بالتيار الوجدانى.وربما كان هذا سر انجذابه إلى فنَّييِّ الانشاد والآذان، وبالضرورة للغناء، الذى شهد ازدهارا كبيرا آنذاك، فأُغرم بفن سى «عبده الحامولى»، وبات من سمِّيعَته،ولا يُفوّت حفلاته.
الأمر الثانى، نشأةالحامولى الدينية مبكرا، فى رحاب «أحمد البدوى»، وتعلقه بالمنشدين فى مولده، ومن الأصوات المهمة الشيخان «محمد شعبان» و«محمد المقدم» وهما أول من تنبه لصوته وموهبته الكبرى.
وبنصحهما قصد القاهرة، بنيَّة إكمال دراسته فى الأزهر، وتجويد تلاوته القرآن الكريم، والالتحاق بفرقة إنشاد،فوجدأمامه عشرات الشعراء والأدباء والمطربين، مثل الشيخ درويش الحريرى والشيخ سيد المفتى، والمطرب محمد عثمان، وربطته صداقة وثيقةبالشيخ يوسف المنيلاوى، وكانا يترددان معا على الحفلات، خاصةلسماع محمد عثمان.
وبدأت رحلته فى الغناء من مقهى «المعلم شعبان»بالأزبكية، وسريعا ما أغرم القاهريون بصوته، وفضّلوه على جميع المطربين، فذاع صيته، ولامست شهرته أسماع»الخديوى إسماعيل»، فقرّبه وصار مطربه ونديمه، وأغدق عليه.واكتسب الحامولى مكانة لم يصل إليها أحد قبله، بغنائه وموهبته والحظوة الخديوية.
ويصف شاعر القطرين المشهد: «مضى الرفقة إلى سيدنا الحسين وأخبر بعضهم من بالجامع أن عبده سينشد تسابيح بعد أذان العشاء ففرحوا. وما لبث الخبر أن جال جولة البرق بين الجماهير فى الحى كله، فلم يأذن وقت الآذان حتى كانت المقاهى وشرفات المنازل المجاورة والساحة الممتدة أمام المسجد تحتوى من الخلق ما لا يدرك البصر آخره».
ويضيف:».. وبدأ عبده الحامولى إنشاده بصوت ينحدر إلى المسامع فيه كل الوقار من خشية الله وكل الرجاء من فضل الله. وفيه مغفرة الله. وكان يغالب العاطفة المتدفقة من قلبه ليتدرج فى إبرازها شيئًا فشيئًا والجمهور فى أثر كل وقفة من وقفاته يملأ الجو تهليلًا وتكبيرًا. والله.. الله يا سى عبده يا حامولى.
يا خير مبعوث لأكرم أمة
أنت المُؤَمّلُ عند كل ملمّة
فكن الشفيع لنا لأعظم رحمة
فجمال وجهك ظاهر متبسم
فبحقه صلوا عليه وسلموا
وتحلِّق الصلوات على النبى، وآهات الإعجاب والاستعادة فى الميدان، وعلى أسطح المنازل المحيطة بالمسجد، لتملأ الأفق لثلاث ساعات قضاها الحامولى على مئذنة الحسين، يناجى ربَّهُ باستغاثاته، ويشاطر الناس وجدانيات رمضان، وتُسعد الفقراء كما أهاب به صديقه.
ويصف مطران إنشاد الحامولى: «بدأ عبده إنشاده بصوت هادئ ينحدر الى السامع، ومعه كل الوقار من خشية الله، وكل الرجاء فى فضل الله، ومغفرة الله، وكان يُغالب العاطفة المتدفقة من قلبه، ليتدرج فى إبرازها للجمهور فى أثر كل وقفة، يملأ الجو تهليلاً وتكبيراً، وقد بقى فى ذاكرتى بيتان مما أنشده الحامولى، وهما التاليان:
يا من تُحل بذِكِرِهِ عُقد النوائب والشدائد
يا من لديه المُلتقى وإليه أمر الخلق عائد
بيتان من الشعر، ومن أشق ما يكون فى التلحين، لكن ذلك المطرب العجيب تصرف فى إلقائهما وبالترنم بهما تصرفاً لا يقدر عليه إلا من أوتى عبقرية مع صدق إيمانه.
يا الله رجل فى أعلى المنارة لا يبدو منه إلا شبح صغير ضئيل، وهو الذى من أجله تتوافد هذه الجماهير المتزاحمة من الناس، على اختلاف مراتبهم. صوت تتصل به نياط آلاف القلوب، لتهتز بحكم نبراته أشهى الاهتزازات، ولتحلق على أجنحته مصعدة الى السماوات! نسمة تخرجها شفتان، فتقسمها أرواح لا تحصى، وتتخذ منها غذاء منجوع، ورياً من ظمأ!
ذلك هو عجب الفن يحرزه الإيمان».
إنى دعوتك والهموم جيوشها قلبى تُطارد
فرّج بحولك كُربتى يا من له حُسن العوائد
أنت الرقيب على العباد وأنت فى الملكوت واحد
أنت العليم بما بُليت به وأنت عليه شاهد
ويندهش مطران: «وبلا ميكروفون. غطى صوته هذا الحشد الهائل. ووقف الكثيرون فوق أسطح المنازل العالية فى الأحياء المجاورة للحسين. يرهفون السمع إلى صوت سى عبده وهو يكاد يغطى نصف القاهرة القديمة».
وكانت واحدة من الليالى المعدودة فى ذاكرة أهل المحروسة.
رابط دائم: