رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نهج بايدن يُقلق أوروبا

منال لطفي
> جو بايدن ونظيره البولندى أندريه دودا خلال الزيارة الأولى لوارسو

رفع الرئيس الأمريكى جو بايدن درجة حرارة العلاقات الأمريكية - الروسية إلى نقطة الغليان تقريبا بتعليقاته خارج النص عندما قال خلال زيارته لبولندا مؤخرا عن نظيره الروسى فلاديمير بوتين «بحق السماء، لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى فى السلطة». وفى خطاب تصادمى أمام حشد من المسئولين الحكوميين البولنديين فى القلعة الملكية فى وارسو، حذر بايدن من أن «العالم فى خضم صراع جديد بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية». وتعهد بأن الناتو سيدافع عن «كل شبر» من أراضى الدول الأعضاء.

تصريحات بايدن أثارت ذعرا لدى حلفائه الأوروبيين. فخلال اجتماعاتهم فى قمة الناتو، وفى قمة السبع الصناعية، وفى القمة الأوروبية -الأمريكية فى بروكسل قبل زيارة بايدن لبولندا، كان التنسيق الأوروبى -الأمريكى يتمحور حول الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب. وبالتالى تصريحاته فى وارسو كانت مفاجأة صادمة لحلفائه الأوروبيين.

ولم يخف بايدن عقب عودته من بولندا لواشنطن، أن عددا من الزعماء الأوروبيين اتصل به منزعجا، يستفسر عن مغزى تصريحه «لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى فى السلطة»، وهل هذا يعنى ان واشنطن قررت منفردة تغيير الاستراتيجية للأزمة الروسية -الأوكرانية من تسوية سلمية للنزاع لتغيير النظام الروسى؟.

واعترف بايدن بأن الزعماء الأوروبيين الذين اتصلوا به حذروه من أن تصريحاته ستؤدى لتأجيج النزاع وتصعيده، وستضعف الوحدة داخل حلف الناتو.

وأمام الانتقادات، كرر بايدن موقف الإدارة الأمريكية من أنها لا تريد تغيير النظام فى موسكو وأن تصريحاته تعكس «غضبه الأخلاقي» الشخصى من بوتين بعد أن زار الرئيس الأمريكى مركز تجمع اللاجئين الأوكرانيين الذين فروا إلى بولندا، موضحا: «كنت أعبر عن الغضب الأخلاقى الذى شعرت به ... كنت قد أتيت للتو من زيارة هذه العائلات. لكننى أريد أن أكون واضحا هذا ليس تغييرا فى السياسة...نحن لا نسعى لتغيير النظام فى روسيا...لكننى لن أتراجع عن تصريحاتي»، مشددا على ان تعليقاته لا تقوض الجهود الدبلوماسية التى تبذلها الولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيون للسعى لتحقيق السلام والتفاوض لوقف إطلاق النار.

تراجع بايدن يعكس عزلة أمريكية. فقد نأت دول أوروبية على رأسها بريطانيا وفرنسا بنفسها عن تصريحاته. والتزمت دول منها ألمانيا وإيطاليا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا الصمت.

وفى انتقاد ضمنى، حذر الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون من «استخدام لغة تحريضية فى وضع ملتهب بالفعل». وقال ماكرون إنه لم يكن ليستخدم كلمات بايدن، مضيفًا أنه يرى مهمته على أنها «تحقيق وقف إطلاق النار...إذا أردنا فعل ذلك، فلا يمكننا التصعيد بالأقوال أو بالأفعال».

كما نأت الحكومة البريطانية بنفسها عن تصريحات بايدن. وقال وزير التعليم البريطانى نديم زهاوي: «الشعب الروسى هو من يقرر من يحكمه». بينما قال توبياس إلوود، النائب البريطانى الذى يشغل منصب رئيس لجنة الدفاع فى البرلمان البريطانى إن تصريح بايدن «غير حكيم» وسوف يؤدى لتشدد موقف بوتين فى المفاوضات، ويعزز حجته أن الناتو فعلا يريد تقويض الاستقرار فى روسيا وتهديدها عبر أوكرانيا.

أما الكرملين فقال إن بايدن «فقد أعصابه» وإن «الإهانات الشخصية» تزيد من تقويض العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. وأوضح المتحدث باسم الكرملين دميترى بيسكوف: «يجب على زعيم الدولة التحكم فى أعصابه.. الإهانات الشخصية مثل هذه تضيق نافذة الفرص لعلاقاتنا الثنائية فى ظل الإدارة الأمريكية الحالية. من الضرورى أن تكون على علم بهذا.. على بايدن أن يفهم أن العالم لا يقتصر على الولايات المتحدة ومعظم أوروبا».

تصريحات بايدن استحضرت صورة أقل شعبية فى أوروبا وهى صورة الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش الذى غزا العراق 2003 لتغيير النظام بدون دعم أى حليف أوروبى باستثناء بريطانيا.

وفى نظر كثير من المسئولين الأوروبيين فقد كسر بايدن بروتوكولا معروفا فى علاقاته مع حلفائه الأوروبيين وهو الدعوة لتغيير النظم بالقوة بغض النظر عن الأرضية التى تبرر بها أمريكا هذا التدخل.

لكن الأمر لا يقتصر على هذا. فهناك قلق أوروبى متزايد أيضا من تصريحات بايدن المتكررة خارج النص التى تتعارض مع السياسات الأوروبية أو التى تعرض أوروبا للخطر. ففى أكتوبر الماضى مثلا قال بايدن إن أمريكا «ستحمى تايوان» فى حالة غزو الصين لها. وهو التصريح الذى أثار آنذاك ذعرا أوروبيا لعدة أسباب، أولا لأنه لم يكن هناك تنسيق أمريكى -أوروبى حول هذا الموقف التصعيدى، وثانيا لأنه يضعف سياسة «الغموض البناء» التى تعتمدها أوروبا وأمريكا فى حالة إقدام الصين على غزو تايوان التى تعتبرها بكين جزءا من التراب الصينى، وثالثا لأن الدول الأوروبية لا تريد مواجهة عسكرية مع الصين تحت أى ظروف وتصريحات بايدن حول «حماية تايوان» لا تساعد على ذلك.

أيضا كان هناك قلق أوروبى من تصريحات بايدن خلال رحلته الأوروبية مؤخرا عندما قال إن «أمريكا سترد بالمثل» على أى استخدام محتمل للأسلحة الكيماوية من قبل روسيا، لاحقا أوضح المسئولون الأمريكيون ان بايدن كان يعنى «ردا مناسبا» و«ليس بالمثل».

حتى الان كان توحيد الصف داخل الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو مهمة متذبذبة. فألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا ضمن دول أخرى يقاومون فرض حظر على قطاع النفط والغاز الروسى. أما المجر فترفض تقديم أى دعم عسكرى لأوكرانيا أو السماح للمساعدات العسكرية بالمرور عبر أراضيها.

وبالتالى تهدد تصريحات بايدن بزرع شكوك لدى الأوروبيين فى هدف أمريكا الاستراتيجى. وحتى فى أمريكا تعرض بايدن لانتقادات لأنه يلقى بظلال رمادية على نوايا واشنطن ويعقد الحلول الدبلوماسية ويخلق فجوة مع حلفائه الأوروبيين الذين لا يريدون حربا طويلة الأمد فى القارة الأوروبية، ومواجهة استراتيجية مع روسيا، وأزمة طاقة، وملايين اللاجئين.

فمثلا قال ريتشارد هاس, الدبلوماسى الأمريكى المخضرم ورئيس المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية، إن كلمات بايدن جاءت بنتائج عكسية ومدمرة. وكتب هاس على تويتر: «التعليقات جعلت الموقف الصعب أكثر صعوبة والوضع الخطير أكثر خطورة. هذا واضح. الأمر الأقل وضوحًا هو كيفية إصلاح الضرر، لكننى أقترح أن يصل كبار مساعديه إلى نظرائهم ويوضحوا أن الولايات المتحدة مستعدة للتعامل مع هذه الحكومة الروسية». وأوضح هاس أن حقيقة أن التعليق كان خارج النص فى بعض النواحى زاد الأمر سوءا لأنه يشير إلى معتقدات بايدن الحقيقية، كما يشير إلى وجود انقسام فى نظرة الإدارة الأمريكية للصراع، مع ميل للرئيس لمواجهة عسكرية طويلة. وحذر من أن تصريح بايدن «يثنى بوتين عن أى حل وسط.. إذا كان لديك كل شيء لتخسره فلماذا يتحلى بوتين بضبط النفس؟ هذا يؤكد أسوأ مخاوفه وهو أن ما تسعى إليه الولايات المتحدة هو الإطاحة به». بينما قال السيناتور الجمهورى جيمس ريش عضو لجنة العلاقات الخارجية والاستخبارات بمجلس الشيوخ، إن بايدن ارتكب «زلة مروعة» وخلق «مشكلة كبيرة» عندما خرج عن النص، موضحا: «فى أى وقت تقول، أو حتى تقترح، تغيير النظام، فسوف يتسبب ذلك فى مشكلة كبيرة.. ليس هناك الكثير الذى يمكنك القيام به للتصعيد أكثر من الدعوة إلى تغيير النظام».

وبينما حذرت روسيا من أن الغرب دفع الكرملين «إلى الزاوية» مع توسع الناتو، واصفة العقوبات ضدها بإنها أقرب لـ «حرب شاملة» ضدها، سيكون أمام الأوروبيين «خط رفيع» لمواصلة السعى لحل دبلوماسى ووقف إطلاق النار بدون شق وحدة الناتو او التصعيد ضد موسكو. وهذا يستلزم ان تضع أوروبا منظورها للتسوية، وتحاول إنجاحه دون الاعتماد على استراتيجية أمريكية يسير خلفها الجميع.

فالذاكرة الأوروبية ما زالت تستحضر ما حدث فى أغسطس الماضى عندما قررت أمريكا الانسحاب من أفغانستان بدون تنسيق مع الحلفاء الأوروبيين وبدون اعطائهم ما يكفى من الوقت لإجراء الترتيبات اللوجستيكية لنقل الدبلوماسيين والرعايا الأوروبيين والأفغان الذين لهم حق المجيء إلى أوروبا بسبب عملهم مع قوات الناتو فى أفغانستان.

ووجدت الدول الأوروبية نفسها عمليا «تحت رحمة» طالبان للتوافق على ترتيبات نقل دبلوماسيين ورعايا. ومن وجهة نظر أوروبا، فقد افتقدت إدارة بايدن والمؤسسة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية لـ «الخطة أ» و «الخطة ب» وحتى «الخطة س» لما قبل الانسحاب من أفغانستان، ولما بعد الانسحاب من أفغانستان. واليوم ليس لدى الدول الغربية استراتيجية متفق عليها للتعامل مع أفغانستان تحت حكم طالبان. فبعض الدول تفضل «الجزرة» والبعض الآخر يفضل «العصا». ووسط الخلافات تتفاقم كارثة إنسانية فى أفغانستان، ومخاطر تحول البلد لملجأ للجماعات المتطرفة مرة أخرى.

ولأن صدمة الانسحاب الفوضوى من أفغانستان والتداعيات الجيو-سياسية الخطيرة التى ترتبت على الانسحاب ما زالت حاضرة فى أذهان الاوروبيين، فإن الدول الأوروبية تجد نفسها أكثر حذرا حيال النهج الأمريكى فى الأزمة الأوكرانية -الروسية. فالتداعيات الكارثية للأزمة عانتها أوروبا أكثر من أمريكا بكثير، مع استقبال أوروبا نحو 4 ملايين لاجئ اوكرانى وارتفاع أسعار الطاقة لمستويات تهدد أوروبا بالكساد. كما أن سوء التقدير فى حالة التعامل مع دولة نووية مثل روسيا سيكون أسوأ بكثير من سوء التقدير فى حالة أفغانستان. وستراقب أوروبا إدارة بايدن على أمل عدم حدوث المزيد من الزلات بعد تصريحاته الأخيرة حول «لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى فى السلطة». فهناك خط فاصل بين انتقاد زعيم دولة، وبين الدعوة إلى تغييره. وحتى فى ذروة الحرب الباردة كان هناك «خط أحمر» لا يمكن تجاوزه، احترمه كل الرؤساء الأمريكيين بعدم التدخل والدعوة لتغيير نظرائهم فى موسكو مهما تكن الخلافات. هذا الخط الأحمر تجاوزه بايدن إلى حد كبير وهذا سيكون مصدرا لقلق أوروبى متزايد وخوف من تحويل أوروبا لساحة قتال جديدة لحرب باردة لا تريدها القارة العجوز.

رابط دائم: 
كلمات البحث:
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق