رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عيادة رمد

سمير فوزى

رأيتُها فارتبكتُ.

لا أعرف لماذا كنت أنظر تجاه الباب المفتوح كأننى أنتظرها، هل أُسرع باستقبالها وأخبرها بسعادتى بالصدفة السعيدة ويعرف كل المنتظرين بالعيادة،مرضى العيون،أن بينى وتلك المرأة الجميلة ودٌ قديم، أم أنتظر دخولها لتفاجأ بوجودى فتفرح بلقائى بعد تلك السنوات الطويلة؟ ستسألنى غالبا عن أحوالى وتقسم بأبيها على شوقها لى فأصدقها - لم نسمعها أبدا تقسم بغيره،تراه المخلوق الأعظم فى العالم، منحها الحق فى الحياة وأعطاها حرية التصرف فيها منذ صغرها- ستسألنى عن أولادى فأُخرج لها صورة ابنتى الوحيدة من حافظتى الشخصية فيدهشها الشبه الكبير بينهما - كل من يرى ابنتى يبحث فى شجرتى عائلتيّ أنا وأمها عن أصل الملامح الغريبة فلايجد - سنتبادل ذكر ماجرى وما فعلته بنا الأيام فى فراق طال عشرين عاما وشهرين وخمسة أيام.

كعادتى أصل متاخرا.

كانت قد دخلت العيادة، هى نفسها حورية مصطفى الجمال زميلتى فى قسم الفلسفة بأداب القاهرة.

جدَّ عليها انحناءة خفيفة فى مقدمة الظهر تجعل وجهها يميل قليلا للأرض وعباءةً سوداء طويلة تبدو غريبة عليها تخفى امتلاءً بسيطا عند البطن والردفين، غطاء رأس لا أعرف اسمه ليس حجابا ولا خمارا، كانت الوحيدة غير المحجبة بين جميع زميلاتها.

تتعلق بذراعها شابة جميلة كلما اقتربت تبدو الملامح المتطابقة،ترتدى الصغيرة نظارة سوداء سميكة تخفى العينين تماما، تبدو ضريرة أو بعينيها ما يحجب الرؤية.

تتطلع حورية الأم فى الممر المزدحم بالمرضى، تبحث عن مكانٍ خالٍ، كدت أنادى عليها باسمها لأُجلسها مكانى لكننى أيضا انتظرت، رأت كرسيا وحيدا فسحبت ابنتها باتجاهه فتخطتنى فى طريقها، أجلستها برفق ووقفت بجوارها، كان الكرسى مواجها لى فأصبح وجهها قبالتى مباشرة، توقعت أن تعرفنى بمجرد رؤيتى فتقبل عليّ تصافحنى وتتلألأ فى عينيها لمعة التلاقى، لم تنتبه لى ولم تلفت نظرها ملامح معرفة قديمة كانت وثيقة، دعوتها للجلوس مكانى فتلاقت عيوننا، رفضت بإصرار متشبثة بالالتصاق بابنتها المتعلقة بيدها.

جذبت حورية الصغيرة يد أمها فمالت عليها بأذنها،همست لها بابتسامة رائقة ذكرتنى بابتسامة قديمة لم أنسها أبدا، فى حين اكتفت الأم بهزة رأسها وربتت على كتف ابنتها.

الوقت يمر والطبيب لم يأت وحورية لم تفرح بلقائى -عابت عليّ ارتباكى عندما تتابعنى أكثر من عين فيتوه منى الكلام ولا أستطيع الحديث فى أكثر من شخصين- فقالت لى تكلم، العيون لن تأكلك وصوتك ليس عورة، سألت الممرضة رافعا صوتى عامدا ربما ألفت نظرها

الدكتور هايتأخر؟

التفتت ناحيتى بحيادية تامة مثل كل مرضى العيادة ثم ناحية الممرضة التى أجابتنى

فى الطريق

عادت لصمتها ويدها الممسكة بيد ابنتها.

لم يشغلنى أبدا مراقبة تغيرات الزمن على ملامحى، تسير الأيام بمحاذاتى ممسكة بيدى ببطء شديد دونما توقف منها أو منى، لانختلف أبدا وأنصاع لها دون مقاومة، لم أضبط نفسى يوما مكتئبا، تقبلت موت أمى وأبى وتأخرى فى الانجاب سنوات طويلة برضا، لم أصب بأمراض مزمنة ولم أدخل غرفة عمليات، فقط ضعف مزمن فى النظر، منذ صغرى أرتدى نظارة طبية «كعب كباية» كما كانوا يصفونها، كانت حورية تخطفها وتخفيها فى حقيبتها فتظلم الدنيا،

عينك جميلة،لون عيون زبيدة ثروت

أتوسل لها

ما قيمة عين جميلة لاترى

تجهر بالسخرية من أمثالى وتحرضنى دائما على التمرد، تقول لى إن الحرمان من متع الحياة هو الذنب الأكبر، معصية لمشيئة الله، الله يحب أمثالها ويفضلها على أمثالى، لاتعترف بالقدر، لا تؤمن سوى بإرادة الانسان وقدرته على صنع قدره بنفسه، تقول إن العقل رزق مثل المال والجمال والصحة،الأغبياء فقط من يعطلون عقولهم ويتركون الحياة مفتوحة أمام غيرهم، قالت لى إننى سأُعَمِر فى الدنيا وآخر من سيغادرها لأننى لا أدخل حربا مع الحياة من أجل أى شىء لكننى سأخرج منها كما دخلت.

فكرت كثيرا كيف أنعش ذاكرتها؟ فما كان بيننا ليس قليلا وما أسهل تذكره، كان ممكنا أن أكون أبا لتلك الجميلة لولا تمرد أمها.

لماذا لا أتجه إليها مباشرة وألومها على نسيانى أو تجاهلى وأسألها مباشرة أين اختفت كل تلك السنوات بعد كنا لا نفترق؟ لماذا لا أفاجئها وأسألها سر التجهم والغموض وهى من كانت جريئة مقتحمة؟

وددت لواعترفت لها بتخاذلى وخوفى من جرأتها وأننى جبنت عن مسايرتها والتمسك بها والحرب معها من أجلها.

جاء الطبيب فشاغبت الممرضة فاتحا معها حوارا من باب الإصرار على لفت الانتباه فربما يستوقفها الصوت

- الدكتور حسن مش هاييجى؟

- الدكتور احمد ابنه شاطر زى أبوه بالضبط،مانت عارف ياأستاذ مسلم، العيادة مفتوحة من أيام الدكتور عبدالله جد الدكتور احمد

لم يتبق بالعيادة سوانا، أصبحنا وحدنا أنا وهى وابنتها التى تأكدت أنها لا ترانى،أكثر من ساعتى انتظار دخل المرضى جميعا وانصرفوا تحركت لدورة المياه، تسكعت فى طرقة العيادة أتابع صور الأطباء الثلاثة وأقرا الشهادات العلمية التى حصلوا عليها،قلت للممرضة

سبحان الله، نفس الدرجات العلمية للجد والأب والحفيد

ومن نفس الجامعات!

أساتذة رمد أبا عن جد ومحمد ابن الدكتوراحمد دخل طب وهايتخصص رمد

نادت الممرضة على اسمى ثلاثيا كى أدخل للطبيب،توقعت لآخر مرة أن يلفت الاسم نظرها، قلت لها

تفضلى حضرتك، ممكن انتظر

ميرسى لحضرتك

فى برود شديد أمسكت بيد ابنتها، أوقفتها واتجهت بها لحجرة الكشف وأغلقت الباب.

فى لقائنا الاخير صارحتها برغبتى فى الزواج فضحكت

قالت بعلو صوتها

بحبك بحبك، بحبك، اقولها أمام العالم كله بس انت آخر راجل اتجوزه، مش ها خلص لك، هاخونك بعقلى مع الأجمل والاغنى والأشيك منك، هاخطف من الدنيا كل اللى عاوزاه، هاتقيدنى، عارفة انك بتشتهينى زى كل اللى حواليا وعمرك ماحاولت تمسك إيدى، لو عاوزة أبوسك هاعملها فى أى وقت وأى مكان

الدنيا واسعة ادامنا نكبر درجة درجة مستعجلة ليه؟

ماحبش طلوع السلم ولا نزوله،اخترعوا الأسانسيرات لأمثالى

لا أنكر أننى استرحت مؤقتا لفراقنا،ارتعبت من جرأتها وجموحها واندفاعها رغم تعلقى الشديد بها.

خرجت من حجرة الطبيب تسحب ابنتها، لم يتبق سواى، لم أدخل للطبيب وغادرت خلفهما، نزلت معهما المصعد حتى الدور الأرضى، تعرف أننى آخر المرضى وكان المفروض أن أكون فى حجرة الكشف ولم تعلق، نزلتا السلم ببطء على إيقاع خطوات البنت التى تتحسس موضع درجات السلم درجة درجة وتدلها أمها.

أمام باب العمارة، كانت سيارة سوداء فارهة فى انتظارهما،أسرع سائقها العجوز وفتح لهما بابى السيارة، ساعدا البنت فى الدخول وقبل ان تدخل حورية من الباب الآخر فوجئت بالتفاتة سريعة باتجاهى،ثم أسرعت بدخول السيارة فأخفتها عنى ستارة سوداء خلف الزجاج ومضت مسرعة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق