-
التراث يحتاج التعامل بـ «قلب سليم وعقل مفتوح» والحرب العالمية نبهت إلى أهميته
هى من أبرز الأصوات التى سعت عمرا كاملا من أجل حماية التراث الثقافى غير المادى فى مصر، وكانت وراء إدراج عدد من أبرز عناصره ضمن قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة الـيونسكو للتراث الثقافى غير المادى، الدكتورة نهلة إمام، التى انتخبت نهاية 2021 بأغلبية 21 صوتا من أصل 24 صوتا باللجنة الحكومية الدولية باليونسكو لعضوية لجنة تقييم الملفات الدولية عن المجموعة العربية، فزاد خبر انتخابها من السعادة بإدراج فنون «الخط العربي» ضمن قائمة اليونسكو ديسمبر الماضى.
الإنجاز الأخير جاء بعد مسيرة طويلة من السعى والعمل فى سبيل حفظ مفردات التراث غير المادى، فقد تخرجت الدكتورة نهلة المولودة عام 1958 فى كلية الآداب جامعة القاهرة، لتحصل بعد ذلك على درجة الماجستير فى الفنون الشعبية، وتنال الدكتوراة فى فلسفة الفنون الشعبية، وهى أستاذ للعادات والمعتقدات والمعارف الشعرية بالمعهد العالى للفنون الشعبية. رشحتها خبرتها العظيمة وتفانيها المؤكد لعضوية عدة لجان مصرية وعربية ودولية تهدف جميعها إلى حفظ التراث غير المادى، الذى تراه الدكتورة نهلة المصدر المظلوم الذى عانى كثيرا من الازدراء والأفكار المغلوطة والإهمال، رغم أنه مصدر معرفة وخلاصة نادرة للتاريخ الإنسانى، وتأمل فى أن يكون الاهتمام والوعى الذى بدأ يتشكل محليا بالتراث غير المادى بداية فصل جديد فى علاقتنا به .. فإلى نص الحوار:
لنبدأ بسؤال تمهيدى لا يمكن لأحد أفضل من دكتورة نهلة إمام إجابته، حول ماهية التراث غير المادى، ولماذا يعتبر ذا أهمية بحيث يستحق الصون والاهتمام؟
التراث غير المادى هو ما كان يطلق عليه قديما فى مصر، التراث الشعبى، كما فى أغانى أهلنا من الفلاحين فى مختلف المناسبات، والألعاب الشعبية، والممارسات المرتبطة بوقائع الفرح والحزن، والأكلات الخاصة بكل مناسبة، كل هذا يدرج ضمن فئة التراث الشعبى. والإلمام بالمعارف اللازمة حول التراث غير المادى يجيب على السؤال المتكرر: كيف تفكر الجماعة؟ وما هى قيمهم؟ ويشكل فى رأيى، ودون مبالغة «علم العلوم»، التى يندرج تحته الكثير من المعارف والعلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تنامى الاهتمام العالمى بالتراث، واتجهت الدول إلى توثيق مفردات تراثها، وذلك جرى فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع زيادة الاهتمام بفكرة «القومية»، و«الهوية» والتركيز على العناصر التراثية التى تربط ما بين المرء وأرضه.
توجه مماثل برز فى مصر خلال مرحلة ما بعد ثورة 1952، مع احتفاء المواطن والدولة بعناصر الهوية والتراث المصرى. وأقدمت وزارة الثقافة حينها على إقامة مركز للفنون الشعبية ليتولى تسجيل وصون مفردات التراث الشعبى المصرى. وطبعا اعتمدت جهود هذه الفترة على ما توافر من أدوات وسبل.
علما أن الهدف من وراء التعرف على التراث وصونه، ليس تحصيل معرفة نودعها فى «صناديق مغلقة»، ولكنها معرفة يمكن إتاحتها لصانع القرار ليفهم أكثر عن كيفية تفكير الناس، وعاداتهم، وطموحاتهم، وكذلك طبيعة المشكلات التى ستواجهه فى سبيل إنجاز أهدافه التنموية. تلك المعرفة تجعل التنمية فى حماية المواطنين أنفسهم.
وسأضرب بعض الأمثلة التوضيحية، هناك اهتمام كبير من الدولة والمؤسسات الأهلية بحل قضايا الغارمات، وما هذه القضايا إلا نتاج لأعراف وتراث شعبى يفرض على السيدات الالتزام بنفقات تفوق قدراتهن لإتمام زواج الابناء.
ففى مثال آخر، صاحب القرار إذا ما تعرف بشكل علمى على عادات البدو، سيدرك أنهم لن يطمحوا إلى السكن فى بنايات عالية، فهم بالغو التمسك بالمعيشة أقرب إلى مستوى الأرض. كما أنهم بالغو الحرص على تسوير أراضيهم، لحماية نسائهم وبناتهم من نظرات الأغراب، فإذا ما عرف صاحب القرار مسببات تلك العادات، تمكن من تحديد الطريقة المثلى للتعامل معها، واستفاد من قدرات ومهارات أهلها، وحقق لمشاريعه الاستدامة والفاعلية.
إذا ما بلغنا نقطة التعامل مع التراث غير المادى، وجب السؤال: هل كل عناصره تستحق الصون، وكيف يتحقق ذلك الصون؟ وكيف يتحقق ذلك الصون؟
التراث غير المادى فى حاجة للتعامل بقلب سليم وعقل مفتوح. هناك عناصر مثل عادات الأخذ بالثأر وختان الإناث، فهذه العادات تشكل جزءا من التاريخ، سيتم توثيقها، ولكن لن يتم صونها أو تنميتها. وأرى أن الأمر ذاته ينطبق على القوانين العرفية فى أوساط مجتمع بعينه. فرغم فاعلية هذه القوانين وسطوتها العظيمة، إلا أنها يجب أن تتراجع أمام مبدأ القانون الموحد للدولة.
أما عن عناصر التراث غير المادى والتى تستحق الصون والتنمية، فستسفيد من النقلة العالمية الثانية، التى تحققت عام 2003 بطرح منظمة اليونسكو، «اتفاقية صون التراث الثقافى غير المادى»، والتى وقعتها مصر عام 2005. أقرت هذه الاتفاقية بأن عناصر التراث غير المادية لدى مختلف الشعوب تحظى بأهمية كبيرة، وأقرت أيضا بثلاثة سبل للتعامل مع تلك العناصر. أولا، عبر قائمة «الصون العاجل»، التى تحظى بعضويتها الدولة بعد إثباتها أن عنصر بعينه يعتبر جزءا من تراث شعبها غير المادى، وأنه فى حاجة عاجلة للتدخل والصون، بما يؤهلها إلى تحصيل مساعدة مادية من جانب «اليونسكو». وثانيا، تقديم الدولة البراهين اللازمة لتأكيد أن عنصرا بعينه جزء من تراث شعبها غير المادى ويمثلها، فيما يعرف بـ «القائمة التمثيلية». وأخيرا، قائمة «الممارسات الجيدة»، التى تضم التجارب الرائدة فى صون عناصر التراث غير المادى.
ولنضرب مثالا أقرب إلى منطقتنا العربية، وهو الإدراج الذى تم نهايات العام الماضى للخط العربى على «القائمة التمثيلية»، وشكل ذلك تجربة بالغة الأهمية فى سبل صون التراث غير المادى. فقد تم إدراجه إثر طلب جماعى من 16 دولة عربية بينها مصر، وذلك توظيفا لأحد بنود الاتفاقية التى تسمح بتقديم طلب موحد وملف موحد من عدة دول إذا كان هناك اشتراك بينها فى عنصر بعينه، على أن يتم تقديم شرح تفصيلى حول السمات العامة لهذا العنصر، والفروقات التى تميز كل مجتمع عن الآخر فى التعاطى معه.
وأتذكر عند إعداد ملف الخط العربى، أننى أكدت أن تجربة مصر تحديدا مع الخط تنقسم إلى المستوى الشعبى، مثل تلك الكتابات التى تزين الجدران الخارجية للبيوت وبعض المبانى. وهناك المستوى الفنى، كما فى لوحات الخط العربى بعلومه العريقة. وأصررت على تخصيص صورتين من أصل الصور العشرالتى يفترض تضمينها فى الملف لاستعراض المستويين المصريين. صورة لواحدة من جداريات «حج مبرور وذنب مغفور»، والثانية لفتاة فى إحدى مدراس الخط، طلبت منها كتابة كلمة الـ «يونسكو» بفنون الخط.
وبخلاف «الخط»، مصر مشتركة فى ملف جماعى ثان، ويتعلق بالممارسات المرتبطة بالنخلة، وذلك يضم 14 دولة عربية. وكنت أنا من ثلاثة مسئولين عن وضع الصياغة النهائية لملفى «الخط» و«النخلة». ويجرى العمل حاليا على ثالث ملف جماعى، والمتعلق بفنون النقش على المعادن، ويشارك به 10 دول عربية.
إجمالا نصيب مصر على القائمة «التمثيلية» للاتفاقية، أربعة عناصر، هى: الخط، وممارسات النخلة، التحطيب، والسيرة الهلالية. أما على قائمة «الصون العاجل»، فهناك «الأراجوز»، و«النسيج اليدوى» فى صعيد مصر.
لكن كيف يمكن الحكم فى المقام الأول على أن العنصر تراثى، وإذا ما تم الحكم بذلك، هل ذلك يكفى ليحظى بالإدراج على أى من القوائم الثلاث؟
للحكم على كون العنصر تراثيا من عدمه، هناك ما يشبه وحدات القياس. فأول شيء يجب أن يكون العنصر متوارثا بين الأجيال. وأن يكون العنصر يحظى بالانتشار الكافى، بمعنى أنه حتى ولو كان العنصر لا يتم ممارسته من جانب بعض الأفراد أو الفئات فى المجتمع، إلا أنه معروف لديهم. وأخيرا، يجب أن يكون انتقال هذا العنصر من جيل إلى آخر قد تم شفاهيا وبالممارسة من جيل إلى جيل.
أما بالنسبة لخطوات الإدراج بإحدى قوائم الـ «يونسكو» للتراث الثقافى غير المادى، فالقواعد تملى أولا، تأكد الـ «يونسكو» أن العنصر الذى تم تقديم ملف بشأنه مدرج أساسا بالقائمة الوطنية للتراث الثقافى غير المادى. فيجب على كل دولة أن تمتلك مثل هذه القائمة المحلية التى تشكل حصرا لعناصر تراثها غير المادى. ففى مصر، وكما أوضحت سابقا، بدأت جهود إعداد هذه القائمة منذ نهاية الخمسينيات، وتبلورت بشكل أكثر تنظيما منذ عام 2008. والواقع أن مصر بها قائمتان بهذا الخصوص يتم تحديثهما بشكل منتظم. القائمة الأولى تتبع «اللجنة الوطنية» التى تشكلت إثر مشروع أجراه الاتحاد الأوروبى محليا لجمع عناصر التراث غير المادى. والقائمة الأخرى تتبع «الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية»، وتضم القائمة الأخيرة أكثر من 120 عنصرا.
وبعد تأكيد خطوة الإدراج، تأتى مهمة الشرح. فالدولة المتقدمة يفترض أن تدفع بملف متكامل حول العنصر المعنى. مع بيان بالخطة لتطويره إذا ما تم إدراجه على قوائم الـ» يونسكو».
وأخيرا هناك خطوة بالغة الأهمية، وهى تضمين موافقات من أفراد الشعب ذاته لتأكيد رغبتهم وسعيهم لإدراج عنصر تراثى بعينه. ويمكن قبول هذه الموافقات إما كتابة أو مسجلة بالصوت أو الصورة. فضمن ملف «الخط العربى»، ضمنت موافقات مكتوبة من خطاطين وتلاميذ لديهم مكتوبة بشتى أنواع الخط، وموقعة مع بيانات كاملة حول صاحبها.
ومن النوادر الرائجة بهذا الخصوص، مسعى إدراج أحد العناصر التابعة لقبيلة إفريقية لا يكتب أفرادها، كما أنهم رفضوا التصوير، وكانت موافقتهم عبارة عن منح «السهم» الخاص بكبير القبيلة إلى المسئولين عن الملف التراثى.
ويجب تسليم هذه الملفات للجنة التقييم باليونسكو، قبل الموعد النهائى فى 31 مارس من كل عام، على أن تبدأ عمليات التقصى والدراسة، ويصدر الإعلان الرسمى النهائى عن اللجنة الحكومية الدولية فى ديسمبر سنويا. وبالطبع تحدث مراجعات من جانب الـ «يونسكو»، وتطلب تقريرا كل ستة أعوام لبيان الجهود المبذولة لصون العنصر المعنى.
إذن هل يكفى مجرد إدراج عناصر التراث الثقافى غير المادى بقوائم اليونسكو؟
قطعا لا، فى رأيى الشخصى أن الإدراج مجرد خطوة على الطريق ويحقق جذب الاهتمام بقطاع مهمل لفترة طويلة وهو التراث غير المادى. ولكن الأهم بالنسبة لى يتمثل فى خطوتين، أولا: الدفع بإنشاء «أرشيف وطنى» فى مصر مهمته توثيق وصون عناصر التراث الثقافى غير المادى، والاستفادة من الخبرات والطاقات التى تتخرج سنويا عن المعهد العالى للفنون الشعبية والتابع لأكاديمية الفنون المصرية. فدولة مثل مصر يجب أن يكون لديها مثل هذا «الأرشيف، وقد بدأت وزارة الثقافة بالفعل فى اتخاذ خطوات على هذا السبيل، عبر تأسيس وزيرة الثقافة، الدكتورة إيناس عبد الدايم لجنة لوضع إستراتيجية وطنية لإدارة التراث المادى، لتكون ركيزة أساسية لإنشاء ذلك الأرشيف المنتظر.
ثانيا، ممارسة التراث غير المادى بعناصره. فعلى عكس عناصر التراث المادى، نظيره غير المادى مهدد بشكل أكبر بالنسيان والاستبدال.
رابط دائم: