دائما وأبدا تلعب المرأة المصرية دورا مهما داخل البيت الصغير والمجتمع، هى الوتد والسند الجامع بين الحنان والقوة؛ البطلة التى لا غنى عنها فى كل قصة عبر العصور.. وخلال الأسطر التالية، يمكن الغوص داخل «حكاية تيتا آمال»، إحدى البطلات التى لا تعرف المستحيل، بل القوة والإرادة والعزيمة فى قصة حلم البحث عن العلم، لتصبح اليوم وهى مُقبلة على عامها الثمانين، أكبر باحثة ماجستير فى مصر.. فمن تكون هذه الأم والمرأة المثالية؟!
بعد تنهيدة خاطفة أخذت آمال إسماعيل أو «تيتا آمال»، كما تحب أن يناديها الجميع، تسرد لنا تفاصيل حكايتها بكل عفوية وخفة ظل وبملامح تحمل بين ثناياها مراحل وتجارب وعشق بلا استسلام. بدأت حديثها بمرحلة الطفولة وكيف كانت الابنة المُفضلة لأبيها عمدة قرية الناصرة؛ يصحبها فى سفراته ويتباهى بها وسط مجالس الكبار لتكون تلك هى فرصتها الأولى لاستيعاب الكثير من المعلومات.

> آمال إسماعيل مع أول مولود
بعدها التحقت بكبرى مدارس القرية ليزداد عشقها أكثر يوما بعد يوم للعلم، وتلقى اللغات المختلفة حتى انتقلت بعد ذلك للمنصورة عام 1955، وتمت خطبتها فى هذه الآونة وعمرها 12 عاما.
وقتها استجابت بكل أسى للعادات ورغبة الأب وزوج المستقبل فى ترك المدرسة، وهى بالصف الثانى الإعدادى. فعلى حد قولها: « حزنت وقتها حزن عمرى، كُنت أبكى كلما شاهدت التلاميذ ذاهبة لتلقى العلم وأنا لا، شيء قاتل» تركت المدرسة وليس العلم؛ فلم تستسلم، وظلت تبحث عن المعرفة هنا وهناك، فبعد عامين تزوجت ورغم عدم رغبة الزوج فى استكمال دراستها، فإنه كان يُلبى رغبتها المعرفية، فكان دائما يأتى إليها بكل جديد من الكُتب والروايات المختلفة والجرائد اليومية.
فبات لها عالمها وصداقاتها الخاصة مع الكُتاب وأبطال الروايات؛ كانت تسبح بين كلمات يوسف إدريس وتناضل لحقوق المرأة مع أمينة السعيد وتكتشف عالم الفيزياء والكيمياء مع العالمة البولندية مدام كورى وتعيش مع الروائى تشارلز ديكنز تفاصيل «حكاية مدينتين». ظلت هكذا لم تنقطع عن نهم القراءة مطلقا، وهى تقوم بكل حب بواجباتها كاملة نحو الزوج والأبناء الأربعة، حتى سنحت لها الظروف مرة أخرى لإتمام الشهادة الإعدادية، دون علم زوجها بعد سفره لدولة ليبيا عام 1981. ليعود الزوج ويأخذها معه هذه المرة لمدة أربع سنوات لتبتعد من جديد عن حلمها الذى ظل عالقا بالوجدان.
لم تكن معركة تلقى العلم هى الوحيدة فى حكاية آمال، ففى عام 2003 أُصيبت بمرض السرطان للمرة الأولى فى الساق، لتقف بكل إيمان وقوة فى وجه المرض، حتى أتم الله الشفاء بعد عامين من المقاومة والعلاج على نفقة الدولة. وبعد أن التقطت أنفاسها، توفى الحبيب وشريك العمر عام 2007 ليخيم الحزن على قلبها مرة أخرى. ولكنها تقرر أن تعود مجددا للتعليم عام 2011 عن عمر 68 عاما. حلم العُمر يعود من جديد بعد أن أتمت واجبها نحو أبنائها وأحفادها، لتذهب هذه المرة تيتا آمال لمديرية التربية والتعليم حاملة الشهادة الإعدادية طالبة استكمال دراستها، وبالفعل استطاعت أن تنجح بتفوق وتحصل على الشهادة الثانوية بمجموع 83% وعمرها 71 عاما.
لم يتوقف الحلم عند هذا الحد، لعشقها للمعرفة من كل حَدَب وصوب، التحقت بكلية الآداب قسم اجتماع بجامعة المنصورة، لتصبح صديقة للجميع الصغير والكبير. تذكُر آمال بصوت كله فخر وقوة، أول يوم داخل الجامعة قائلة: « كنت أجلس بين الطلبة فى المُدرج وإذا بالدكتور يناديى.. هذا مكان تلقى علم يا أمى، وليس لانتظار الطلبة. وعندما أجبته أنى طالبة علم، وأعطيته كارنيه الجامعة، قبله ووضعه على رأسه. ومن وقتها ونحن أصدقاء، نتبادل المعلومات والكُتب».
وعلى الرغم من إصابتها للمرة الثانية بمرض السرطان فى الثدى أثناء الدراسة الجامعية، فإن ذلك لم يمنعها من استكمال الحلم، وظلت تُحارب حتى تخطت المرض، وشُفيت تماماً، ونجحت وحصلت على الليسانس بتقدير جيد مرتفع، لتقرر بعدها استكمال رحلتها العلمية.
وها هى اليوم تستعد لمناقشة رسالة الماجستير، لتكون أكبر باحثة ماجستير فى مصر. ولن يتوقف الحلم، فهذه مجرد خطوة فى حكايتها للبحث عن العلم، فكما قالت: «لو بطلنا نحلم نموت.. وأنا أحلُم بالدكتوراه ليس لأى غرض سوى العلم فى حد ذاته، ربما أكون كلمة تحفز بائس لاستكمال مسيرته، وتحمس كسول لاكتشاف قدراته أو تجعل خاملا يصبح اينشنتاين جديد، اشهدى يا مصر لقد أنجبتُ أربعة أبناء أطباء ومهندسين وعشرة أحفاد من خيرة الشباب العاشق للعلم والحياة ومازال لحلمى بقية..»
رابط دائم: